جسر جمع بين أديبين خالدين، ليسير التلميذ على درب أستاذه في الحفاظ على التراث والامتداد الحضاري، وليتفقا على إبراز جمال حي الجمالية بين الواقعية التاريخية في سطور نجيب محفوظ، والرمزية الصوفية في حروف جمال الغيطاني، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله.
كانت الرواية عندهما كشفًا للروح التي تغوص في حب مصر، ليعبر كل منهما بطريقته الخاصة؛ فمحفوظ كان صوت الماضي بكل حكاياته وتحولاته، والغيطاني كان صوت الحاضر بكل تأملاته وحنينه.
وجمعهما معا شغف واحد تشكيل الوعي المصري من خلال قراءة التراث العربي والإسلامي وإحيائه، فاستلهم الغيطاني من روح محفوظ رؤيته الخاصة، ليصوغ من الحكاية والتاريخ والتصوف نسيجًا أدبيًا خالدًا يعبر عن مصر في وجدانها وخلودها.
ولد جمال الغيطاني في عام 1945، أي بعد ثلاثة عقود تقريبًا من ميلاد نجيب محفوظ عام 1911، لكن القدر شاء أن يجتمعا في الحارة ذاتها؛ حي الجمالية، ذلك المكان الذي شكل الوجدان الأدبي لكليهما، في أزقة الحي القديمة وأصوات المؤذنين ومآذن المساجد العتيقة، تفتحت عين الغيطاني على العالم الذي كان محفوظ قد جعله بطلًا لأعماله من قبل، فوجد في المكان جذوره، وفي محفوظ مثاله الأعلى.
كان الغيطاني يروي دائمًا أن لقاءه الأول بمحفوظ غير مسار حياته، ففي ستينيات القرن الماضي، قرأ أعمال نجيب محفوظ بشغف، خاصة الثلاثية وأولاد حارتنا، فشعر أن هذا الكاتب يعبر عن مصر كما لم يفعل أحد من قبل.
وبعد أن التحق بالصحافة، سنحت له الفرصة للاقتراب من محفوظ، حيث شاركه جلساته الأسبوعية الشهيرة في قهوة الفيشاوي، ثم صار من المقربين إليه، حتى أصبح لاحقًا أحد أوفى تلاميذه وأصدقائه.
كان محفوظ يرى في الغيطاني امتدادًا لجيلٍ يحمل الوعي العميق بالهوية المصرية والعربية، بينما رأى الغيطاني في محفوظ "المعلم الأول"، كما وصفه في أكثر من حوار، قائلًا: «لقد فتح لنا نجيب محفوظ الطريق، وعلمنا أن الكتابة ليست ترفًا، بل مسؤولية تجاه الوجود والناس والتاريخ».
ورغم الاختلاف في الأسلوب والرؤية الفنية، فإن كليهما انطلق من الحارة المصرية، بوصفها نموذجًا مصغرًا للعالم.
فبينما جعل محفوظ من الحارة مسرحًا للصراع الإنساني والاجتماعي والفلسفي، جعل الغيطاني منها بوابة إلى الزمن التاريخي والبعد الصوفي.
وإذا كانت روايات محفوظ تُحلل الواقع الاجتماعي المعاصر، فإن الغيطاني استخدم التاريخ والرمز لقراءة الواقع ذاته، بلغة مشبعة بفخامة التراث وروح التصوف.
واعترف نجيب محفوظ أكثر من مرة بإعجابه بأسلوب الغيطاني، خصوصًا في روايته "الزيني بركات"، التي وصفها النقاد بأنها "امتداد معاصر لرؤية محفوظ في أولاد حارتنا، لكنها عبر التاريخ المملوكي"، حيث قدّم الغيطاني من خلالها رؤية رمزية للسلطة والقهر الإنساني، مستخدمًا أسلوبًا لغويًا فريدًا يقترب من لغة المخطوطات القديمة.
وظل الغيطاني على مدى حياته وفيًا لمعلمه، حتى بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1988، إذ كتب عنه العديد من المقالات في جريدة "أخبار الأدب" التي أسسها عام 1993، وجعل من صفحاتها مساحة مفتوحة لتكريم محفوظ ونشر دراسات عنه، كما أصدر كتابًا توثيقيًا بعنوان "نجيب محفوظ يتذكر" جمع فيه حواراته الطويلة معه، موثقًا جوانب نادرة من فكر محفوظ وحياته الشخصية والإبداعية.
وعندما رحل نجيب محفوظ في أغسطس 2006، كان جمال الغيطاني من أوائل الذين رافقوا جثمانه إلى مثواه الأخير، وكتب في تأبينه كلمات مؤثرة قال فيها: "رحل محفوظ، لكن الحارة ما زالت تتنفس، وصدى خطواته ما زال في الأزقة، ونحن الذين تعلمنا منه كيف نحول الواقع إلى أدب خالد".
وفي المقابل، حين رحل الغيطاني في أكتوبر 2015، كتب النقاد أن التراث المصري فقد وريثه الأصيل، وأن الغيطاني كان بحق "حلقة الوصل بين محفوظ وجيل جديد من الروائيين الذين حملوا مشعل الوعي والتجديد".