قال: "كل حلم يزورنا في الليل، هو رسالة من حياة لم نعشها بعد." وقال أيضًا: "جلست في مقهى بلا أبواب، كل من دخل صار مرآةً لي، حتى ضاع وجهي بين الوجوه"، ولم يكتفِ بذلك بل أردف قائلًا: "الصمت فن، لا يتقنه إلا من امتلأ قلبه بالكلام ولم يُرِد أن يبدده."، أراد أن يسترسل فأوقفته. المقولة الأولى من إنتاجه وهي بأسلوب الكاتب الكبير نجيب محفوظ على غرار “أصداء السيرة الذاتية”، والثانية على غرار أسلوبه في كتاب “أحلام فترة النقاهة”، أما الثالثة فبأسلوب عملاق الأدب العربي الأستاذ عباس محمود العقاد. نعم إنه الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative Artificial Intelligence من خلال أشهر تطبيقاته والمعروف بـ”شات جي بي تي”. قبل أن يقدم المقولة الأولى قال إن الأسلوب يتميز بالعمق واستعراض حكمة الحياة اليومية، وقبل أن يقدم المقولة الثانية أشار إلى أن الأحلام عبارة عن جُمل مكثفة، رمزية، فيها شيء من الغرابة والخيال، لكنها تفتح بابًا للتأمل، أما قبل أن يقدم مقولة العقاد فأشار إلى أنه يتمتع بأسلوب فلسفي عميق، لغته فصيحة قوية، أفكاره ممتدة بين المنطق والعاطفة، وفيها اعتداد بالفكر والعقل.
قال أيضًا:
"يا مصر يا أم العيال والفرح والموال
في حضنك الحلم يكبر مهما كان محال
والشمس من ضحك ولادك تشرق من جديد
والأرض تبقى غنوة في قلب كل شهيد"
قال أيضًا:
"عجبي على روحي ما بين خوف وأمان
تحلم تطير.. وتخاف تقع في المكان
تضحك في يوم.. وتبكي من غير سبب
وأقول ده سرّ الدنيا.. ولا بهتان؟"
الأولى بأسلوب فؤاد حداد والثانية بأسلوب صلاح جاهين وعلى غرار رباعياته الخالدة. هذا واضح، وتستطيع عزيزي القارئ أن تبحث عن تلك الأبيات في أعمال المبدعين العظيمين ولن تجدها، فهي مولدة منذ لحظات بواسطة التطبيق.
ما معنى هذا؟ معناه ببساطة أن الذكاء الاصطناعي أصبح أكثر مهارة وأكثر عمقًا، وأن النموذج اللغوي الكبير Large Language Model الذي يعمل من خلاله قد تعرض لأعداد مهولة من الإبداعات البشرية حيث تعلم منها وأصبح لديه قدرة تحليلية ونقدية متميزة. جرب أن تقدم له أي نص وتطلب منه أن يحلله، ستدهش من القدرات التحليلية ومن النتيجة، ستجدها مقاربة لأساتذة النقد والبلاغة بكليات الآداب، قد لا تكون مثالية ولكنها حتمًا تحتوي على الكثير من العناصر الصحيحة والمدهشة أيضًا.
هل هذا حسن أم قبيح؟ لا أدري، فهذه وجهات نظر. هل تفضل أن يكون لك اتصال بكاتب متدفق الأعمال طوال الوقت قد يعطيك فكرة أو تركيبة لغوية جديدة تساعدك في إبداعك الإنساني أو قد يمتد عمله إلى إنتاج رواية أو مسرحية أو قصيدة بالكامل؟ هل هذا يؤثر على المبدع سلبًا أم يساعده ليكون أكثر إبداعًا وأكثر غزارة في الإنتاج؟ هل يؤثر على حالة التأمل والقدرة على الإبداع أم يساعد على تنشيطها من أجل المزيد من الأعمال؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير بدأت في الظهور والطرح والجدل وصولًا إلى حالات من الصراخ والصراع بين المبدعين في المجالات المختلفة وذلك منذ الثلاثين من نوفمبر من العام 2022 عندما طُرحت أول نسخة مجانية من التطبيق للاستخدام على نطاق واسع لمستخدمي شبكة الإنترنت، ولم تكتفِ باللغات الأساسية بل وصلت إلى اللهجات، وتطورت تلك التطبيقات فأصبحت قادرة على توليد لوحات فنية وصور ومقاطع فيديو ومقطوعات موسيقية وخلافه.
بالطبع في بداية الأمر استخدمها البعض في توليد أعمال فنية بالكامل، فظهرت العديد من الروايات المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي بالكامل، وتسابق المجربون على توليد المزيد، وتسابق القراء على اكتشاف هذا المجال الجديد والغامض أيضًا.
ولذلك أحدثت تلك الأعمال انقسامًا واضحًا بين القراء؛ فالبعض انبهر بالتقنية وبتنوع الأفكار وبسرعة الإنتاج، والبعض الآخر وصفها بالسطحية وبغياب الحس الإنساني والروح، وظهرت أصوات تتحدث عن الملكية الفكرية وحق المؤلف وأخلاقيات الاستخدام والتي يأتي على رأسها الإقرار، أي أن من يستخدم تلك التقنية لتوليد النص بالكامل أو عاونته في إنتاج النص يتعين عليه الإشارة إلى هذا وبوضوح.
ولنبدأ من النهاية إلى البداية، فالقوانين الخاصة بالملكية الفكرية لا تعترف بالحماية إلا للإبداع البشري، وعليه فإن الإبداعات المولدة بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي غير محمية. ولكن ماذا عن الإبداعات التي تم تعديلها بواسطة المبدع الأصلي قبل النشر؟ ما هي درجة التعديل الكافية واللازمة لاعتبار العمل الجديد هو منتج بشري وليس آليًا لكي يقع في نطاق الحماية ويستفيد من قوانينه؟ هذا أمر لم يتم الاتفاق عليه حتى الآن، ولا على النسب الكافية، ولا على الحد الفاصل بين الآلي والبشري.
البداية تتحدث عن السطحية وميكانيكية التعابير والتراكيب اللغوية، وهذا حقيقة في الكثير من الحالات، وهو ما يستطيع المتخصص وغير المتخصص اكتشافه بسهولة بعد قراءة بضع سطور من العمل. بالإضافة إلى هذا، وهو الأخطر والأهم، ما هو متعلق بالروح الإنسانية والحس البشري؛ فلكل مبدع حقيقي أسلوب مميز ومنظور خاص في التناول، يأتي من خبراته وتجاربـه وقراءاته ومعاناته وما مر به، ليس هذا فحسب بل بما شعر به وأحسه. فالكاتب الذي يرصد معاناة أو يعيش موقفًا لا يخزن الأحداث والكلمات وحسب، بل يخزن الوجوه وتعبيراتها، والأصوات ونبراتها، والأجساد ولغاتها، وغيرها من العناصر المسكوت عنها أو غير المصاغة في كلمات وغير المُعبر عنها على الإطلاق، وهي ما تحقق له التميز والتفرد.
مثال على هذا: هب أن كاتبًا ألّف رواية تدور أحداثها في حي الحسين أو بجزيرة راجح بمركز إسنا في محافظة الأقصر أو حتى في حي هارلم بمدينة نيويورك، الجميع يستطيع أن يكتب قصصًا تدور في هذه الأحياء والقرى، ولكن جودتها وتفردها لن تكون مثل تلك الصادرة عن كاتب عاش سنوات فيها، وبالطبع لن تكون بجودة وتفرد من عاش فيها عمره كله. هذا هو الفرق ببساطة بين الأعمال المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي وتلك التي ينتجها البشر.
فهل معنى ذلك أن ندير ظهورنا للذكاء الاصطناعي بالكلية ونستمر في نفس المسار الإنساني الخالص؟ الإجابة المختصرة هي "لا"، فالقطار تحرك، ولا حل إلا أن نغمض أعيننا فيدهسنا، أو نركبه ونسيطر عليه. لا مانع من الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لنصبح أكثر إبداعًا وأكثر تفردًا، شريطة الاعتراف باستخدامه، وشريطة تحديث القوانين أو إصدار قوانين جديدة تحمي المبدع وإبداعاته السابقة واللاحقة أيضًا. فلا يجب أن يستخدم الذكاء الاصطناعي الإبداعات السابقة لتعليم النموذج بدون إذن، ولا يجب أن يتم نشر ما يصدر عنه دون الإشارة لذلك.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد وحسب، فكما تعلم الذكاء الاصطناعي أسلوب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتشيكوف وغيرهم، يستطيع تعلم أسلوب أي أديب أو مبدع، ويستطيع الأديب المتطور أن يطلب من الذكاء الاصطناعي توليد إبداع جديد بأسلوبه وسيدهش من النتيجة، كما يستطيع أن يقصر هذا الاستخدام عليه هو فقط. وهنا يصبح الذكاء الاصطناعي وكيلًا عنه في العمل. وهذا التوجه لا يقتصر على العمل الإبداعي فحسب، بل يتخطاه إلى أي عمل فكري أو عقلي يحتاج إليه الإنسان. يستطيع أن يوكل الذكاء الاصطناعي بديلًا عنه في دراسة أمر ما أو قضية بعينها ويطلب منه تقديم بدائل بناءً على سابق معرفته بتوجهات صاحبه ويترك له اختيار القرار الأنسب، أو يتركه تمامًا يحلل ويقارن ويقترح بدائل وينفذ أحدها فيما يعرف بالذكاء الاصطناعي التوكِيلي Agentic AI، وهو ما يفتح المجال إلى أمور جديدة مرتبطة بالمسؤولية القانونية: هل تقع على التطبيق أم على صاحبه الذي أعطاه توكيلًا كاملًا؟
عودة إلى شكل المستقبل في ظل تلك التقنيات، حتمًا سيكون لها تأثير سلبي على المبدعين المبتدئين، فما يصدر عنها سيكون أكثر احترافية، وهو ما قد يميل إليه أصحاب دور النشر. ولذلك فإن على الكتاب الجدد الانتباه إلى هذا والتعامل بأسلوب مختلف؛ لا يتعجلون النشر، وربما يلجأون إلى النشر الإلكتروني عبر المنصات المجانية أو حتى المدفوعة، وفي نفس الوقت يتعرفون على تلك التقنية ويقومون بالتسلح بالمزيد من التجارب الإنسانية الخاصة. أما المبدعون الذين وصلوا إلى درجة متقدمة من الإبداع ومن القبول فعليهم أيضًا التعرف على تلك التقنيات، فستساعدهم كثيرًا على العمل بسرعة أكبر، وربما تحسن أجزاء مما يقدمون ليصبح أكثر تشويقًا وتجديدًا واحترافية، وهو ما يعرف بالأدب الهجين؛ أي يشارك الكاتب الإنسان بتجربته، مشاعره، ورؤيته الفنية، ويشارك الذكاء الاصطناعي بقدراته في توليد الأفكار، صياغة مقاطع، ابتكار حبكات، أو حتى محاكاة أساليب أدبية مختلفة. أو يكتب الكاتب بداية قصة، ويطلب من الذكاء الاصطناعي أن يقترح عدة نهايات. ولذلك فإن الأدب الهجين، وإن كان مصطلحًا غامضًا نوعًا ما، إلا أنه يحتاج إلى خطوات تنفيذية. فبعد ما يقرب من ثلاث سنوات من انطلاق الذكاء الاصطناعي التوليدي على هذا النطاق الواسع، وبعد آلاف المؤتمرات والندوات وورش العمل واللقاءات الإعلامية والمقالات، نحتاج إلى برامج تدريبية للمبدعين من المبتدئين ومن المحترفين أيضًا للتعرف على التقنية وكيفية التعامل معها قبل تكوين رأي نهائي وقبل اعتماد منهجية العمل فيما هو قادم من إبداع.