حمل الاستعمار البريطاني في البلاد التي أخضعت له، سمات محددة؛ تميزه عن صور وأشكال الاستعمار الأخرى مثل الاستعمار الفرنسي أو الإيطالى؛ وإن تشابه معها؛ في سمة استلاب حرية ومقدرات الأوطان والشعوب التي قدر عليها أن تعانى محنة الاستعمار وتذوق ويلاته.
حاول البريطانيون إدخال بعض أساليبهم الإدارية إلى البلاد المحتلة؛ وعلى غير ما هو شائع بيننا عملوا على الإطاحة باللغة الاصلية للبلاد واعتبار اللغة الإنجليزية لغة التعليم واللغة الرسمية للبلاد، وكان ذلك مدخلا للعبث في ثقافة البلاد المحتلة؛ الثقافة هنا بالمعنى الواسع للكلمة؛ التي تشمل العادات والتقاليد والثقافة العامة؛ كما يضم البعد الدينى والطائفى أو المذهبى داخل المستعمرات وبين أهلها. وصل الأمر في بعض الحالات إلى العبث بجغرافية وحدود البلاد المستعمرة؛ خلقوا بذلك مشكلات فى عدد من البلدان ما تزال تتفاعل إلى يومنا هذا.
في الهند؛ صارت الإنجليزية لغة التعليم ولغة رسمية للبلاد إلى يومنا هذا، وعبثت بملف العلاقة بين الهندوس والمسلمين الأمر الذى انتهى إلى قسمة الهند سنة ١٩٤٧إلى دولتين؛ هي الهند وباكستان، ثم انفصلت باكستان هى الأخرى، وخرجت منها بنجلاديش ويوم الانفصال وقعت مذابح راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين هندوس ومسلمين ليس هذا فقط؛ لكن شجعت الروح المذهبية بين المسلمين، وهكذا ظهرت بين المسلمين في الهند؛ الديانة الأحمدية أو القاديانية نعرف الآن أن بريطانيا رعت تأسيس وظهور تلك الحركة؛ وهى مجرمة إلى يومنا هذا في باكستان.
في إيران وقعت أشياء مشابهة؛ جغرافيا انفصلت محافظة أذربيجان عن إيران؛ بلاد فارس القديمة؛ وصارت دولة مستقلة؛ رعت بريطانيا فكرة أن الآزاريين قومية خاصة.. وبسبب ذلك هناك تعقيدات كثيرة في العلاقات بين الدولتين إلى يومنا هذا؛ وفى إيران أيضا برزت البهائية بين المسلمين، باعتبارها ديانة خاصة؛ انشقت عن الدين الإسلامي والتفاصيل في ذلك كثيرة.
كانت بريطانيا تجيد التلاعب بالملف الطائفى والمذهبى أو الدينى في علاقاتها وصراعاتها مع الدول؛ حين كانت العلاقات متوترة بينها وروسيا القيصرية؛ حاولت تشجيع المسلمين الروس على الانشقاق عن الدولة الروسية؛ وبدت بذلك كأنها راعية حقوق المسلمين ؛ لتستفيد بذلك في علاقاتها مع الدولة العثمانية.
وهنا يكون السؤال ماذا عنا – نحن- في مصر؟
حاول الإنجليز مع مشروع "دنلوب" فرض لغتهم على المصريين؛ فجعلوا الإنجليزية هي اللغة الأولى في المدارس؛ منذ المرحلة الأولية -الابتدائية – ومن حسن الحظ وقتها أن التعليم لم يكن منتشرا؛ كانت العربية لغة مادة العربى والتربية الدينية فقط وقد اقتضى إحلال اللغة العربية في التعليم لغة أولى؛ نضالاً من الحركة الوطنية المصرية بقيادة الزعيم مصطفى كامل في مطلع القرن العشرين؛ إلى أن نجح ناظر المعارف سعد باشا زغلول في إلغاء "جلنزة" التعليم والعودة إلى اللغة العربية.
بعيداً عن التعليم، حاولت سلطات الاحتلال البريطاني العبث في الملف الطائفى بمصر؛ بين المسلمين والأقباط؛ ومن يراجع مذكرات سميكة باشا؛ مؤسس المتحف القبطى؛ سوف يجد فيها وقائع محددة وبالأسماء تدخل فيها المعتمد البريطاني ليفسد العلاقة بين المسلمين والأقباط وفى بعض المواقف كادت الأمور أن تتأجج؛ كما حدث بعد اغتيال ناظر النظار بطرس غالى؛ لولا حكمة ورشاد قادة الأمة المصرية؛ وأمكن تفويت الفرصة عليهم والحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام المجتمعى؛ وكان لورد كرومر هو الذى سجل في كتابه عن مصر الحديثة؛ أنه لا فارق بين مسلم وقبطى في مصر؛ سوى أن المسلم يذهب إلى المسجد يوم الجمعة ويذهب القبطى إلى الكنيسة يوم الأحد.
رغم ذلك لم يتوقفوا ولم يرتدعوا، خاصة مع قيام ثورة سنة 1919؛ تلك الثورة التي مثلت تحديا حقيقيا للوجود البريطانى في مصر؛ كان شعار الثورة بسيطا وعميقا "الاستقلال التام" وقد حاولوا كسر هذه الثورة؛ ابتداء بنفى زعمائها ثم محاولة اللعب في الملف الطائفى؛ ولما فشلت الإدارة البريطانية واستمرت الثورة؛ قرروا التدخل في الملف الدينى؛ كما جرب في سائر المستعمرات.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى؛ أصدرت بريطانيا وعد بلفور نوفمبر سنة 1917- والذى يقضى بأن تعمل بريطانيا على تبنى إنشاء وطن قومى لليهود في فلسطين، خاصة أن فلسطين كانت تخضع للانتداب البريطاني؛ والمفاجأة أمام بريطانيا كانت أن ذروة الاعتراض على ذلك الوعد كانت في القاهرة والإسكندرية؛ صارت مصر مركزا لمناهضة ذلك الوعد والمشروع الذى تبنته بريطانيا في فلسطين.
الحركة الوطنية المصرية والروح القومية باتت خطرا على الوجود البريطاني في مصر وعلى وجودها في فلسطين وعلى المشروع الذى تتبناه هناك؛ بإنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين على حساب شعبها، وهنا لعبت بريطانيا لعبتها الشهيرة؛ الورقة الدينية؛ فكانت جماعة حسن البنا؛ المسماة الإخوان؛ مع نهاية العشرينيات ، سنة 1928.
في مدينة الإسماعيلية؛ بعيدا عن العاصمة وعن المدن الكبرى؛ وحيث إن شركة قناة السويس؛ وهى شركة إنجليزية في المقام الأول وكانت عملياً تسيطر على المدينة؛ توصلت الشركة إلى مدرس للخط العربى؛ في مدرسة خاصة؛ هو حسن أفندى البنا؛ كان محدود التعليم؛ ضحل الثقافة، ليست لديه مشاعر وطنية لكن لديه شغف ونهم للمال وللسلطة؛ يتردد على مقر الشركة وعلى المحفل الماسونى بالإسماعيلية والذى كان يضم رموز كبار من الشركة ثم دعمه بالمال لتأسيس جمعية باسم "الإخوان المسلمين" لا شأن لها بالقضية الوطنية؛ ولا تقترب من هذا الملف؛ فقط لديها مشروع يعتمد على توظيف الدين لضرب مشروع ثورة سنة 1919؛ بكل ما ينطوى عليه من آمال خاصة الاستقلال التام.
عرف في وقتها أن الشركة تبرعت بمبلغ خمسمائه جنيه لحسن البنا؛ المبالغ كانت أكبر بكثير؛ لكن مبلغ الخمسمائه هو الذى تم اكتشافه بالصدفة؛ وكان مشروع البنا وجماعته يناهض المشروع الوطنى المصرى؛ كما قدمه رموز الوطنية المصرية منذ عهد محمد على.
المشروع الوطنى يقوم على فكرة أن أول المشكلات لدينا هي الاحتلال البريطاني وأن الإنقاذ في تحقيق الاستقلال التام؛ وكانت بريطانيا تعترض على "التام" لم تكن تريد أن تترك شركة قناة السويس والقناة بالمرة، لم تتصور بريطانيا أن تعيد القناة إلى المصريين؛ وطالبوا سنة 1909 بمد الامتياز نصف قرن؛ لكن ثار المصريون؛ وفشلت الصفقة،ولكن حسن البنا وجماعته جاءوا بشعار أن مشكلة مصر ليست في الاستعمار وقضية الاستقلال؛ لكن في بعد المصريين عن الدين؛ ومن ثم يجب أن يكون المشروع هو إعادة المصريين إلى الصراط المستقيم؛ وتسأل أين القضية الوطنية وقضية التحرر من الاستعمار.. وتأتى الإجابة بأن الهدف هو "دار الإسلام"؛ ويعرف البنا تلك الدار أنها تكون حيث وجد مسلم في أي بقعة بالعالم؛ حتى لو كان في أستراليا.. ويأتي من بعد حسن البنا؛ سيد قطب؛ ليعلنها صريحة أن الوطن ليس سوى حفنة من طين عفن.. قال قطب ذلك في ذروة كفاح الفدائيين المصريين ضد جنود الاحتلال في منطقة القناة بعد إلغاء النحاس باشا معاهدة سنة 1936 باختصار لا مكان ولا معنى للوطن في فكر الجماعة سواء مع حسن البنا أو مع سيد قطب وإلى يومنا هذا، هل تتذكر مقولة محمد مهدى عاكف "طظ في مصر"! قالها أيام الرئيس الراحل حسنى مبارك.
من يراجع مشروع الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر زمن محمد على ثم من بعده مشروع رفاعة الطهطاوى تلميذه سوف يجد أنه نفس المشروع الوطنى المصرى. كل منهما كان جزءا من ذلك المشروع، بناء دولة وطنية مدنية حديثة ثم كان الشيخ محمد عبده، في نفس المشروع.. الدولة الوطنية الحديثة، وكان حسن البنا نقيضا ورافضا لكل هؤلاء فضلا عن أنه كان مرتزقا لدى الإنجليز، يكرر ذلك الذي جرى في سائر المستعمرات البريطانية، شق الحركة الوطنية والانقلاب عليها لصالح مشروع الاحتلال البريطاني.
على أن أخطر ما قام به حسن البنا، هو تأسيس تنظيم مسلح - مليشيا - هدف التنظيم تهديد خصوم البنا شخصيا، وخصوم جماعته وصل إلى حد اغتيال بعض الأفراد لحساب بريطانيا، على طريقة من يتم كراؤهم للقتل فى بعض مناطق الريف. ومن الناحية العملية قام هذا التنظيم باغتيال عدد من الرموز الوطنية المصرية، مثل أحمد ماهر رئيس الوزراء، تم اغتياله في فبراير 1945، ثم اغتيال محمود فهمى النقراشى، وكل منهما كان من أبطال ثورة 19، حكم الإنجليز عليهما بالإعدام، ثم أصدر الزعيم سعد زغلول عفوا عنهما، حين كان رئيسا للوزراء.
في تاريخ التنظيمات المسلحة، كانت السلطات البريطانية تبحث وتضغط لكشف أسرارها والقبض على رجالها ومحاكمتهم، سوف نجد ذلك منذ جماعة اليد السوداء، في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى القبض على قتلة السير" لى ستاك".. ولكن جماعة حسن البنا المسلحة وجدت المرة تلو المرة تسامحا وتغاضيا من الإنجليز وسلطة الاحتلال.
في أدبيات الجماعة وخطابها الشعبوي يقال إن التنظيم المسلح "الخاص" كان لمقاومة الإنجليز في مصر، لكن الواقع والجرائم تقول إنه كان لاغتيال الرموز الوطنية المصرية ولم يقتربوا من إنجليزى واحد، بل إنهم حاولوا تعطيل الاستقلال بإقدامهم على محاولة اغتيال جمال عبد الناصر سنة 1954 في ميدان المنشية بالإسكندرية ولو صح أن السلاح كان لمقاومة الاحتلال لتوقفوا بعد جلاء الإنجليز عن مصر! لكنهم ازدادوا عنفاً وإرهابا بعد الاستقلال واستمرت مليشياتهم المسلحة إلى يومنا هذا، بلا انقطاع.
اليوم حين نجد لندن مركزا لاستقبال واستضافة رموز وقادة جماعة حسن البنا، مع توفير غطاء سياسي وقانونى لهم، فإن هذا يؤكد الارتباط العضوى بين بريطانيا التي كانت عظمى وهذه الجماعة، منذ لحظة التأسيس على يد سلطات الاحتلال بواسطة حسن البنا، قبل حوالى قرن من الزمان.
انتهى الاستعمار البريطاني، وفقدت بريطانيا إمبراطوريتها، لكنها لم تفقد اهتمامها ورعايتها للكيانات التي خلقتها ووزعتها في الدول التي كانت تحت الاحتلال.. لذا تبقى الرعاية البريطانية قائمة ومتواصلة للجماعة.
التصدي لهذا المشروع وتلك الجماعة يكون بالتمسك والدفاع عن المشروع الوطنى المصرى، أي الدولة الوطنية المدنية الحديثة، وهذا ما عمل عليه المصريون طوال العصر الحديث، ولعل ما جرى في مصر يوم 30 يونيه 2013 كان تعبيرا عن ذروة التمسك بهذا المشروع والإصرار على المواجهة .
لما فقدت بريطانيا إمبراطوريتها تسلمت الولايات المتحدة زمام العالم، ولذا نال مشروع حسن البنا رعايتها، في مواصلة للدور البريطاني، وكان التوظيف لمواجهة المشروع الوطنى والقومى المصرى من جانب والعمل على إسقاط الاتحاد السوفييتى من جانب، وقامت الجماعة بالدور المطلوب منها، حتى دفعتهم الإدارة الأمريكية في لحظة الفوضى العارمة سنة 2011 إلى حكم مصر في العام التالى 2012، لكن المصريين هبوا سنة 2013 يعلنون تمسكهم بالمشروع الوطنى ضد الجماعة اللا وطنية، ونجح المصريون بفضل خارطة الطريق يوم 3 يوليو 2013.
وطوال 12 عاما تعرضت مصر لحروب الإرهاب وهجماتهم من فلول الجماعة، ولكن المشروع المصري استمر وحقق نجاحا كبيرا، رغم كل الأزمات.
وسوف تبقى جماعة حسن البنا رافضة ومعادية للمشروع الوطنى المصرى، تعادى رموزه من محمد على إلى سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبدالناصر وأنور السادات وصولا إلى عبدالفتاح السيسى وتعادى كذلك الثقافة الوطنية - المدنية بكل رموزها وتياراتها، من طه حسين إلى العقاد ونجيب محفوظ ويوسف إدريس.
ومن حسن الحظ أن كتابات البنا وسيد قطب، تحت أيدينا ، دراستها تؤكد ذلك العداء والرفض للمشروع الوطنى المصرى.