الأحد 19 اكتوبر 2025

مقالات

البنا وقطب ومنطلقات "الجاهلية المعاصرة"


  • 19-10-2025 | 11:32

عمرو فاروق

طباعة
  • عمرو فاروق

منذ ثلاثينيات القرن الماضي وجماعة الإخوان غارقة في تكفير وجاهلية المجتمع وتوظيف العنف كمنهج أساسي في طرح مشروعها التوسعي، ابتداءً من المدرسة الأولى، المسماة بالمدرسة “البناوية”، على يد مؤسسها حسن البنا، مرورًا بالمدرسة الثانية، أو ما تُعرف بالمدرسة “القطبية”، انتسابًا لسيد قطب.

حاولت جماعة الإخوان على مدار تاريخها المعاصر التنصل والتبرؤ من مفردات التكفير وأدبيات العنف المسلح، وغسل سمعتها من جرائم تيارات الإسلام السياسي منذ أربعينيات القرن الماضي، فضلًا عن عنف الثمانينيات والتسعينيات، انتهاءً بانتهاكات الجناح المسلح الذي تولد عقب ثورة يونيو 2013، موجّهًا ضرباته تجاه المؤسسات العسكرية والأمنية بالقاهرة.

كان تنظيم 65 علامة مميزة في بلورة المشروع "البناوي-القطبي" لدى جماعة الإخوان على المستوى الفكري والتنظيمي، وانتقالها من حيز السياسة والقوة المؤجلة وإشكالية "التغيير من أسفل"، استقطابًا للمجتمع لصناعة ما يسمى بـ"الفئة المؤمنة"، إلى أطروحات "التغيير من أعلى"، أو الصدام المباشر المسلح مع الأنظمة السياسية الحاكمة، وفقًا لرؤية سيد قطب، واتساقًا مع مفاهيم شيخه أبو الأعلى المودودي.

وضعت المدرسة الثانية داخل الإخوان، في مقدمة أولوياتها قضية "الحاكمية"، و"جاهلية المجتمع المعاصر"، ومبادئ التكفير، وشرعنة توظيف القوة المسلحة، و"العزلة الشعورية" انفصالًا عن المجتمع وعاداته، وتحقيقًا لحالة الاصطفاء الإلهي، تمهيدًا لترتيب الهيكل التنظيمي وتشكيل الخلايا المكلفة بتنفيذ مخطط إسقاط الدولة، وإعلان قيام ما يسمى بـ"الثورة الإسلامية".

لم يكن التغيير في الرؤية الفكرية لسيد قطب نتيجة لسجنه وتعذيبه مثلما يردد قيادات الجماعة؛ إذ حصل على إذن رسمي بالكتابة والتأليف والنشر أثناء قضائه فترة العقوبة، بناءً على حكم قضائي حصلت عليه "دار إحياء الكتب العربية"، التي وقعت عقدًا مع قطب عام 1952، ما ينفي نهائيًا مزاعم تعرضه للتعذيب داخل السجون.

ألف قطب من داخل محبسه الأجزاء الـ12 الأخيرة من كتاب في ظلال القرآن، وبدأ ينقّح الأجزاء الـ18 الأولى التي كان نشرها بين عامي 1952 و1954 قبل سجنه، فضلًا عن تأليفه كتب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، وهذا الدين، ومعالم في الطريق، وتنقيحه لكتابيه: العدالة الاجتماعية في الإسلام، والسلام العالمي والإسلام، وفقًا لما ذكره الباحث الأكاديمي شريف يونس في رسالته الجامعية سيد قطب والأيديولوجية الأصولية.

خرج كتاب معالم في الطريق حاملًا مجموعة من الانحرافات الفكرية والتشويهات العقائدية، التي تلقفتها المئات من القواعد التنظيمية، ومهدت الطريق نظريًا وحركيًا لميلاد جيل جديد من تنظيمات تكفيرية اتخذت العنف منهجًا ومسلكًا للوصول إلى أسلمة الدولة والمجتمع، وبناء دولة الخلافة التي اعتبرتها غاية وهدفًا، مثل جماعة "الجهاد"، وجماعة "التكفير والهجرة"، و"السماويين"، و"الناجون من النار"، و"الشوقيين" وغيرهم.

ارتمى الكثير من شباب الإخوان في أحضان سيد قطب وأفكاره التكفيرية، التي بلورت ظهور ما يسمى بـ"التيار القطبي" ورموزه، الذين رفضوا فكرة الصلاة في المساجد باعتبارها معابد جاهلية، ونادوا بالعزلة عن المجتمع، أمثال محمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، وعبد المجيد الشاذلي، وأحمد عبد المجيد عبد السميع، وشقيقه محمد قطب، مؤلف كتاب جاهلية القرن العشرين، الذي خلع مفهوم "الجاهلية" عن سياقه الزماني والمكاني، واعتبره جوهرًا واحدًا عابرًا للأزمنة والأمكنة، وإن اتخذ أشكالًا وصورًا في مختلف دروب الحياة، مسهبًا في شرح الخصائص المشتركة بين كل الجاهليات في كل العصور، وتطورت أوضاعها، وعلاقة الدين بالحياة، والتفسير المادي للتاريخ، ونمط "الجاهلية" في الأطر الاقتصادية، مرورًا بالقيم الأخلاقية، لينتهي إلى عبارة قاطعة تقول: "إما الله أو الانهيار".

خلال تلك المهزلة الفكرية، اعتبر البعض أن كتاب دعاة لا قضاة المنسوب زورًا لمرشد الإخوان حسن الهضيبي، وصدرت طبعته الأولى بعد 9 سنوات من تأليفه عام 1977، يمثل في حقيقته أول مراجعة فكرية في صف الجماعات الأصولية، خارجة من جدران التنظيم الإخواني، وأنهم بذلك سبقوا الجماعة الإسلامية وتنظيمات الجهاد في تقديم مراجعات فكرية شاملة للمنهج القطبي.

ولعل خير دليل على ذلك أن مختلف المرجعيات الإخوانية التي صاغت الأدبيات الفكرية للجماعة استندت في أطروحاتها على المنهجية "البناوية-القطبية"، مثل كتاب الجهاد هو السبيل، والإسلام والحكومة الدينية، للمرشد الأسبق مصطفى مشهور، وكتاب الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين لعلي جريشة، وكتاب حياتنا الحركية، وكتاب فصول في الإمرة والإمارة للإخواني السوري سعيد حوى، وكتب العوائق، والمنطلق، والمسار للإخواني العراقي محمد أحمد الراشد، وكتاب الإسلام فكرة وحركة، وماذا يعني انتمائي للإسلام للإخواني اللبناني فتحي يكن. وهذه الكتب تمثل البنية الأساسية لتأهيل وتشكيل أفراد الجماعة فكريًا وثقافيًا.

المراجعات الفكرية لجماعة الإخوان أكذوبة في ذاتها، إذ إنها لم تترك أفكار التكفير والعنف، وتمسكت قولًا وعملًا بما طرحه حسن البنا في رسائله، وما سطره سيد قطب في كتبه، ووضعتهم ضمن مناهجها التربوية لقواعدها التنظيمية، وهو ما تُرجم على أرض الواقع خلال العمليات الإرهابية التي شنتها ضد الشعب المصري عقب ثورة 30 يونيو 2013، وفقًا لمعتقدات فكرية وشرعية، مرجعها سندًا وتأصيلًا للإرث "البناوي-القطبي".

طرحت الجماعة مجموعة من الدراسات والأبحاث ألبستها رداء الشريعة، وحملت تبريرًا منهجيًا لتكفير المجتمع، وجواز إسقاط النظام السياسي والشعبي جملة وتفصيلًا، فقدمت دراسة شرعية تحت ما يسمى فقه الاختبار والمحن، اعتبرت أن مكتب الإرشاد يمثل السلطة الشرعية والتشريعية للدولة المصرية (أهل الحل والعقد)، مانحة "الإجازة الفقهية" لعناصرها بتنفيذ العمليات المسلحة ضد مسقطي دولة الإخوان ومشروعهم.

فضلًا عن ثلاثة كتب شرعنت حمل السلاح، وأجازت تكفير الحاكم والمحكوم، وهي: كتاب فقه المقاومة الشعبية، ودليل السائر ومرشد الحائر، وكشف الشبهات عما وقع فيه الناس من اختلافات. ولفتت إلى أن الانتقال للعمل النوعي المسلح لا يعد تغييرًا في استراتيجية التنظيم، إذ إن "السلمية ليست من ثوابت الإسلام وليست من ثوابت الجماعة، وأن النزعة الجهادية استقرت كعقيدة في صلب منهجية حسن البنا"، وأن القوة جزء من منهجية الإخوان كما قال حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس: "إن القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، وإن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يُجدي غيرها".

غالبية النظريات التي صاغها سيد قطب في كتاب في ظلال القرآن واستخلصها في كتاب معالم في الطريق كانت البداية الحقيقية لنشر أطروحات التكفير وجاهلية المجتمع، وصناعة محاكم التفتيش الافتراضية للمصادرة على إسلام وإيمان الآخرين، والترويج لمفاهيم "حراس العقيدة" و"دعاة الشريعة" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي مهدت الطريق لتيارات "السلفية الجهادية" فيما بعد.

نجد أن جماعة الإخوان وضعت أسس "العزلة الشعورية" على يد حسن البنا، ومن ورائه سيد قطب في كتابه معالم في الطريق، ولم تقتصر على قواعدها التنظيمية، بل تناقلتها عنها مختلف تيارات الإسلام الحركي.

فصياغة "العزلة الشعورية" تأتي في المقام الأول من استشعار الاستعلاء الإيماني، والتمييز الديني، والاصطفاء الإلهي، عن الأوساط المحيطة المنعوتة بالجاهلية، والدوائر الاجتماعية الموصوفة بالتكفير، والبعيدة حتمًا عن مفاهيم "الجماعة المؤمنة" أو "الفئة المنصورة"، المتسقة والمتصلة بكيانات الأصولية الراديكالية.

ففي كتابه معالم في الطريق يقول سيد قطب: "كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل ببيئته الإسلامية".

ويضيف قطب في استعلاء وغطرسة إيمانية: "ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدّ الضغط علينا، حين نعتزل الناس؛ لأننا نحس أننا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحب منهم نفسًا، أو أذكى منهم عقلًا، لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا، اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة، إن العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأننا أعلى منهم أفقًا. إن التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد، هو العظمة الحقيقية".

في رسالته المعنونة بـالطريق إلى جماعة المسلمين، وضع الباحث الكويتي حسين محسن علي جابر تأصيلًا شرعيًا مرجعًا قائمًا على مفاهيم العمل التنظيمي المسلح، وتشكيل الخلايا السرية، التي تنال من مؤسسات الدولة وأنظمتها السياسية، والتي وصفتها في متن توثيقها الديني بالكافرة، بناءً على مبدأ "علانية العمل وسرية التنظيم"، كونه أحد العوامل التي تمكن الحركات الراديكالية من استكمال عملية "التكوين"، تمهيدًا لمرحلة "التنفيذ"، وصولًا إلى حالة "التمكين" والتغلغل في مفاصل الدولة والسيطرة عليها انتخابًا أو انقلابًا، سيرًا على خطى وثيقة رد الاعتداء التي صاغ بنودها سيد قطب، والداعية لهدم الدولة المدنية لصالح الأممية الأصولية. وهي فكرة تتفق تمامًا مع نظرية "النكاية والإنهاك"، التي طرحها كتاب إدارة التوحش.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة