عزيزي القارئ هل تعرف، ونحن نشهد افتتاح أهم متحف في العالم، المتحف المصري الكبير، أن بلدك وحضارتك كانت أول اقتصاد معرفي في تاريخ البشرية؟
قطعاً منا من يعرف ذلك عن طريق القراءة والبحث أو بحكم التخصص، ومنا لم تكن لديه الفرصة للتعرف على مصر العظيمة عن قرب أو بطريقة علمية وموثقة، ومنا قد يكون عنده صورة مغلوطة أو مشوهة بعض الشيء عن تلك الحضارة الأعظم في التاريخ، نظراً لتعرضها للكثير من الاستهداف الممنهج على مدار أكثر من ألفي سنة!
لذا قررت أن أقوم ببحث موسع عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة من وجهه نظر العلم والتكنولوجيا، قائم على أكثر من 500 مرجع، تشمل أوراقا بحثية محكمة ومنشورة في الدوريات العلمية العالمية، وكتبا لكبار العلماء والمتخصصين في المجالات العلمية ذات الصلة، وهذا مع أستاذي العالم الجليل والقامة العلمية الدكتور طارق خليل الرئيس المؤسس لجامعة النيل الأهلية والجمعية الدولية لإدارة التكنولوجيا، والعميد السابق لكلية الدراسات العليا بجامعة ميامي بالولايات المتحدة.
وهنا تكشف لي أن المصري القديم وإبداعاته، والتي أذهلت العالم ولا تزال، لم تكن وليدة الصدفة، أو مجرد ضربة حظ، أو نتيجة وجود كائنات جاءت لأرض مصر الطيبة من الفضاء الخارجي لتساعده في تشييد أهراماته ومعابده، كما يدعي ثلة من المغرضين أو المختلين.
فرحلة المصري القديم تمتد على أرض مصر لما يقارب 700 ألف سنة على الأقل، ففأس العباسية المعروض بالمتحف المصري الكبير يعود إلى هذه الحقبة، وكذلك فأس طيبة التي تم العثور عليه في الأقصر، والمعروض حالياً في متحف جامعة ليفربول، يرجع تاريخه إلى 300-400 ألف سنة، وأيضاً ظهرت صناعات للأدوات الحجرية في أسنا بصعيد مصر في العصر الحجري المتقدم، أي من حوالي 75-150 ألف سنة. فالحضارة المصرية عمرها أكبر بكثير مما يظن البعض، فكانت هناك تجمعات حضرية في صحراء مصر الغربية في العصر الحجري المتقدم، والذي يمتد من 3.3 مليون سنة إلى 300 ألف سنة، وكذلك تجمعات حضرية في قنا والفيوم، تعود للعصر الحجري الأوسط، والذي يمتد من 300 ألف سنة إلى 50 ألف سنة، وهذا لأنهم ببساطة كان لديهم مفاهيم العلم، وهي القدرة على فهم قوانين الطبيعة، مثل حركة الأجرام السماوية، وكذلك كان لديهم القدرة على تحويل تلك المفاهيم إلى أدوات وآلات تساعدهم في تطوير حياتهم، وهذا هو التعريف الحقيقي للتكنولوجيا، حتى قبل أن يعرفها العالم بهذه الطريقة في عصرنا الحديث.
ومارس المصري القديم الفنون بتقنيات عالية منذ قديم الأزل، فهناك "كهف السباحين" بوادي صورة في الصحراء الغربية بالقرب من الحدود الليبية، والمكتشف في سنة 1933 بواسطة العالم المجري لازلو ألماسي. ويحتوي الكهف على رسوم صخرية تُظهر تصوير ديناميكي لأجساد بشرية في وضعيات سباحة أو حركة، إلى جانب حيوانات وأشكال رمزية، باستخدام الألوان الطبيعية (الأحمر، الأصفر، البني) المستخرجة من المعادن، والتي يرجع تاريخها لحوالي 6000-8000 سنة قبل الميلاد. كما تُعد آلة الطرق (Clapper) من أبرز القطع الموسيقية التي تعود إلى العصر المعادي–البوتوي، في مصر السفلى، وتحديدًا بين عامي 4000 و3200 قبل الميلاد، وهذه الآلة الإيقاعية، المصنوعة من عاج فرس النهر، كانت تُستخدم في الطقوس والمناسبات الاحتفالية، وقد عُثر على نماذج منها في موقع المعادي، أحد أقدم المستوطنات الزراعية في دلتا النيل. وتتميز آلة الطرق بشكلها المنحني وزخرفتها التي قد تتضمن يدًا بشرية أو وجهًا رمزيًا، مما يُشير إلى ارتباطها بطقوس دينية، ربما متعلقة بعبادة الإلهة حتحور، إلهة الموسيقى والفرح، وإحدى هذه القطع محفوظة اليوم في متحف اللوفر، وتُعد شاهدًا فنيًا وماديًا على تطور الموسيقى والرمزية الدينية في مصر قبل الأسرات، حيث كانت الموسيقى جزءًا من الحياة الروحية والاجتماعية في المجتمعات الزراعية في مصر القديمة.
كما عرف المصري القديم تكنولوجيا صهر النحاس (Copper Smelting) والتي تمثل أبرز التحولات التقنية في تاريخ الإنسانية، وقد بدأ ظهور تلك التقنية في مصر حوالي سنة 4000 قبل الميلاد، خلال ما يُعرف بالعصر النحاسي، في عصر ما قبل الأسرات أيضاً. ومثّل هذا التطور نقلة نوعية من استخدام الأدوات الحجرية إلى إنتاج أدوات معدنية أكثر صلابة وكفاءة، مثل السكاكين والإبر ورؤوس الرماح. واعتمدت عملية الصهر على استخراج النحاس من خاماته الطبيعية، باستخدام أفران مصنوعة من الطين والحجارة، مع التحكم في درجات الحرارة عبر تدفق الهواء. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن مواقع مثل المعادي والفيوم وسيناء شهدت نشاطًا مبكرًا في صهر النحاس، مما ساهم في تطور الحرف اليدوية، وتعزيز التبادل التجاري بين مصر القديمة مع جيرانها في حوض المتوسط والشرق الأدنى، وظهور أنماط تنظيم اجتماعي أكثر تعقيدًا، وهي مقدمات أساسية لقيام الحضارة بمفهومها التقليدي في وادي النيل.
ولمن لا يعرف أن الدولة المصرية كانت أقدم "دولة ذات سيادة" في تاريخ البشر، وتعود إلى أكثر من 36 ألف سنة قبل الملك نارمر أي 37 ألف سنة قبل بناة الأهرامات وهذا طبقاً لمحتوى بردية قائمة الملوك، المحفوظة في متحف تورين (Museo Egizio) بإيطاليا، والذي يضم أكثر من 18 ألف بردية، وهذا ما مكن المصري القديم أن يبدع ويبتكر في كل المجالات تقريباً، وهذا ما سوف نلقي الضوء عليه في الفقرات التالية من هذا المقال.
في البداية قام المصري القديم باختراع الكتابة، حيث تمثل الكتابة واحدة من أعظم التحولات في تاريخ البشرية، إذ شكّلت نقلة نوعية من التعبير الشفهي إلى التوثيق الرمزي المنظّم. وظهرت أولى أنظمة الكتابة المعروفة في مصر سنة 3300 قبل الميلاد على الأقل، طبقاً لما تم اكتشافه من آثار حتى الآن، وقبل حضارة بلاد الرافدين، على أقل تقدير بثلاثة قرون، بعكس ما يروج له من قبل البعض، لتؤسس لمرحلة جديدة من التفكير المجرد، والإدارة المؤسسية، والتراكم المعرفي. لقد كانت الكتابة، في جوهرها، أول "تكنولوجيا للعقل"—وسيلة لتمديد قدرات الإنسان الإدراكية خارج حدود الذاكرة الفردية، نحو أرشفة جماعية للخبرات والتاريخ. وتُعد البطاقات العاجية المكتشفة في المقبرة U-j بمنطقة أبيدوس من أقدم الشواهد على استخدام الرموز الكتابية في مصر القديمة، والتي يرجع تاريخها للقرن 34 قبل الميلاد. وتحمل هذه البطاقات رموزًا عددية يُعتقد أنها تمثل قوى العدد عشرة، مثل 10، 100، 1000، ما يشير إلى وجود نظام عدّ متقدم قائم على الأسس العشرية. وهذا التمثيل المبكر للقيم العددية يُعد من أقدم الشواهد على استخدام الترميز الرياضي والإداري في سياق ملكي أو شعائري، ويعكس قدرة المصريين على التفكير المجرد وتطوير أدوات معرفية لتوثيق الكميات، الضرائب، أو المخزون. كما شهد العصر البرونزي المتأخر (1200-1600 قبل الميلاد) توسعًا ملحوظًا في النفوذ الثقافي والدبلوماسي المصري، حيث لعب الكتبة المصريون دورًا محوريًا في تمثيل الدولة داخل البلاطات الأجنبية، لا سيما في مناطق مثل كنعان، وقبرص، وبلاد الحثيين. لم تقتصر مهامهم على التوثيق الإداري، بل امتدت إلى نقل المعرفة الضمنية—المتعلقة بالبروتوكولات، الرموز، والأنظمة الفكرية المصرية—بأساليب مشفّرة وغير مباشرة. كان هذا النوع من النقل المعرفي يتم عبر الترجمة، والتأويل، واستخدام رموز لغوية وثقافية يصعب فكّ شفرتها دون خلفية مصرية، مما عزز من تأثير مصر الحضاري في تلك المناطق، وخلق شبكات من التفاعل الثقافي والدبلوماسي المعقّد.
ويعتبر تفوق المصريون القدامى في علوم الفلك دليلاً إضافياً على تطورهم العلمي، فلقد اعتمد المصريون على الرصد الفلكي في تنظيم الزمن، وكان ظهور نجم الشعرى اليمانية (Sirius) قبيل شروق الشمس—وما يُعرف بـ"الشروق الاحتراقي"—علامة فارقة تُعلن بداية العام الجديد. وقد لاحظ المصريون أن هذا الحدث يتزامن بدقة مع فيضان نهر النيل، وهو الظاهرة الطبيعية التي كانت تؤسس لدورة الحياة الزراعية والاقتصادية في وادي النيل. واستنادًا إلى هذا الترابط، طوّر المصريون تقويمًا شمسيًا يتألف من 365 يومًا (12 شهرًا × 30 يومًا + 5 أيام إضافية)، ويُعتقد أن هذا النظام بدأ استخدامه رسميًا حوالي 4236 قبل الميلاد، مما يجعله من أقدم التقاويم المسجلة في التاريخ البشري. لذا كان التقويم المصري تعبيرًا عن فهمهم الدقيق والعلمي للعلاقة بين الفلك والطبيعة حيث ربط المصريون بين حركة النجوم ودورة الحياة على الأرض. وكذلك على الرغم من أن متون الأهرام (2300-2400 قبل الميلاد) تُصنّف تقليديًا ضمن الأدب الديني الجنائزي، فإن قراءتها من منظور علمي تكشف عن وعي فلكي متقدم لدى المصريين القدماء. فالإشارات إلى "ابتلاع الشمس" أو "اختفاء القمر" تمثل توصيفات رمزية لظواهر طبيعية مرصودة بدقة، مثل الكسوف الشمسي والقمري. كما قام المصريون بقياس ساعات الليل بدقة متناهية، كما هو واضح في نقوش هرم أوناس بسقارة. كما يُعد المعبد الجنائزي للملك زوسر، ضمن مجمع الهرم المدرج في سقارة، من أقدم المنشآت المعمارية الملكية في مصر القديمة. وقد كشفت الدراسات المعمارية والفلكية أن تصميم المعبد والهرم يرتبط بمحاذاة دقيقة مع النجوم القطبية (النجوم التي لا تغيب عن الأفق)، والتي كانت تُعتبر رموزًا للخلود والاستقرار في العقيدة المصرية. كما تشير الدراسات الفلكية والهندسية الحديثة إلى أن محور محاذاة أهرامات الجيزة، وخاصة هرم خوفو، يكاد يكون متطابقًا مع الاتجاهات الأساسية (الشمال الحقيقي، الجنوب، الشرق، الغرب)، حيث إن هرم خوفو (الهرم الأكبر) مُحاذى إلى الشمال الحقيقي بدقة تصل إلى 3-4 دقائق قوسية فقط، أي أقل من 0.1 درجة من الانحراف، وهذه الدقة تفوق ما يمكن تحقيقه باستخدام أدوات بدائية، وتدل على معرفة فلكية متقدمة لدى المعماريين المصريين القدماء.
وهذا يؤكد أيضاُ تفوق المصريين في علوم الرياضيات، فبالإضافة إلى وجود نظام عدّ متقدم قائم على الأسس العشرية كما سلف الذكر، أوضح رأس صولجان الملك نارمر، والذي يعتبر من أبرز القطع الأثرية التي تعود إلى بدايات الدولة المصرية الموحدة حوالي القرن 31 قبل الميلاد، وجود نظام حسابي رمزي في مصر القديمة، يُستخدم لأغراض إدارية واقتصادية مثل عدّ الماشية والغنائم، مسجلاً عددا هائلا من الغنائم تتمثل في 400 ألف رأس من الماشية، 1.422 مليون رأس من الماعز، و120 ألف أسير.
كما أن المصري القديم هو من أسس لعلم حساب المثلثات، فتُعد بردية موسكو الرياضية، التي يُؤرَّخ لها بحوالي 1850 قبل الميلاد، من أقدم الوثائق الرياضية في التاريخ البشري. تحتوي هذه البردية على مسائل في الحساب والهندسة والجبر، من بينها المسألة السادسة التي تتناول: "بناء مستطيل له ضلعان متعامدان، يشكلان زاوية قائمة (90°)". وهذه المسألة تُظهر فهمًا واضحًا لمفهوم الزاوية القائمة، وتطبيقًا عمليًا لما يُعرف لاحقًا بـنظرية فيثاغورس، أي أن مربع طول الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين في مثلث قائم الزاوية. وعلى الرغم أن النظرية تُنسب إلى فيثاغورس، فإن بردية موسكو تسبق فيثاغورس بـحوالي 1280 سنة، وتُظهر أن هذا المفهوم كان معروفًا ومُطبّقًا قبل ولادته بقرون عديدة. والجدير بالذكر أن هناك مصادر تاريخية تشير إلى أن فيثاغورس، هذا الفيلسوف الإغريقي الشهير، قضى 22 عامًا في مصر، حيث درس في معابدها الكبرى على يد الكهنة المصريين، وتشرّب من علومهم في الرياضيات، الفلك، الموسيقى، والميتافيزيقا، قبل ترحليه إلى بابل في سنة 525 قبل الميلاد.
كما تُعد بردية ريند الرياضية، التي تعود إلى حوالي 1650 قبل الميلاد، من أقدم الكتب التعليمية في تاريخ الرياضيات، وقد نُسخت على يد الكاتب المصري أحمس كدليل تدريبي للكتبة. تحتوي البردية على 84 مسألة رياضية تتناول المعادلات الخطية، حساب المساحات لأشكال متعددة كالدائرة والمثلث والمستطيل، بالإضافة إلى تقنيات متقدمة في الضرب والقسمة تعتمد على مضاعفة الأعداد وتجزئتها، بأسلوب يُشبه من حيث المبدأ النظام الثنائي المستخدم في الحوسبة الحديثة. هذا التنوع في المحتوى يُظهر أن المصريين القدماء لم يكتفوا بالحساب العملي، بل طوّروا نظامًا رياضيًا متكاملًا يُستخدم في الإدارة، والهندسة، وتوزيع الموارد، مما يجعل بردية ريند شاهدًا حيًا على ريادة مصر في تأسيس الفكر الرياضي المنهجي قبل ديكارت بما يقارب 3000 سنة.
وتُعد برديات رايزنر، التي تعود إلى عهد الملك سنوسرت الأول في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، من أقدم الوثائق الإدارية والهندسية في مصر القديمة، وتحتوي على سجلات تفصيلية لمشروع بناء يُعتقد أنه معبد، تشمل حسابات دقيقة لحجم المواد، عدد العمال، توزيع المهام، وأدوات الورش المستخدمة في النجارة وبناء الأرصفة. وتغطي الوثائق فترة زمنية محددة تبلغ 72 يومًا، مما يعكس وجود نظام متكامل لتخطيط العمل، وتوزيع الموارد، ومراقبة الأداء. إن هذا المستوى من التنظيم يُعد قريبًا جدًا من ممارسات إدارة المشاريع الحديثة، حيث تظهر عناصر مثل الجدولة الزمنية، إدارة القوى العاملة، وتقدير الكميات، مما يدل على أن المصريين القدماء امتلكوا أدوات منهجية لإدارة المشاريع الكبرى قبل أكثر من 3800 سنة.
كما يُظهر تصميم الهرم الأكبر في الجيزة فهمًا هندسيًا متقدمًا للثوابت الرياضية، حيث تشير القياسات إلى أن نسبة محيط قاعدته إلى ارتفاعه تقارب π2 ما يعكس تجسيدًا عمليًا للعدد π (باي)، في حين أن نسبة ارتفاعه إلى نصف طول القاعدة تقارب 1.618، وهي قيمة φ (النسبة الذهبية)، مما يدل على أن المعماريين المصريين القدماء دمجوا مفاهيم رياضية دقيقة في بنائهم، قبل آلاف السنين من صياغتها النظرية في الرياضيات الإغريقية، وهو ما يعزز فرضية أن الهرم لم يكن مجرد منشأة جنائزية، بل أيضًا نموذجًا رياضيًا كونيًا متكاملًا.
وهناك أيضاً أداة المِرْخِت (Merkhet) تُعد من أبرز أدوات القياس الفلكي والهندسي في مصر القديمة، وقد استُخدمت في تحديد الزوايا والمسافات، خاصة في محاذاة المعابد والأهرامات، ومنها أهرامات الجيزة. ويتكوّن المِرْخِت من قضيب أفقي مزوّد بخيط شاقولي (plumb line)، يُستخدم لرصد النجوم القطبية وتحديد الاتجاهات بدقة مذهلة، غالبًا أقل من بوصة واحدة عن المحاذاة المثالية. وهذا الجهاز البسيط والدقيق يُعد سلفًا مباشرًا للأدوات الفلكية اللاحقة، مثل الأسطرلاب، الذي لم يظهر إلا بعد حوالي 3000 عام، في الحضارة اليونانية ثم الإسلامية. وبذلك، يُظهر المِرْخِت أن المصريين القدماء امتلكوا أدوات عملية متقدمة في المسح الهندسي، وضبط الزوايا، وتحديد الاتجاهات الفلكية، مما ساهم في بناء منشآت ضخمة مثل الهرم الأكبر بمحاذاة شبه مثالية للشمال الحقيقي. كما أن الرسوم الفلكية المنقوشة في معبد سيتي الأول بأبيدوس تُعد من أقدم الشواهد المعروفة على وجود تصور مصري منظم للأبراج والنجوم، ويُؤرَّخ لها بحوالي 1500 قبل الميلاد. وتُظهر النقوش الفلكية في عهد سيتي الأول نظامًا رمزيًا متقدّمًا لرصد النجوم، وتحديد مواقعها بالنسبة للزمن، وذلك قبل زودياك دندرة الشهير والذي تم تطويره خلال العصر البطلمي، والمعروض حالياً في متحف اللوفر، بحوالي 1200 سنة.
ويُعد اللون الأزرق المصري من أقدم المواد الاصطناعية المعروفة في التاريخ، وقد بدأ إنتاجه في مصر خلال عصر الدولة القديمة (حوالي القرن 22-27 قبل الميلاد)، بوصفه نظيرًا صناعيًا نادرًا لمعدن اللازورد الطبيعي. يتكوّن الأزرق المصري من سيليكات النحاس والكالسيوم، ويتميّز بخواص نانوية فريدة، منها قدرته على إصدار إشعاع في نطاق الأشعة تحت الحمراء القريبة (NIR)، ما يجعله مادة فعالة في التطبيقات الحديثة. وقد أعيد اكتشاف هذه الخصائص في القرن الحادي والعشرين، مما فتح المجال لاستخدامه في الطب الحيوي، والتحليل الجنائي، وأنظمة الألياف البصرية، والأحبار الأمنية المتقدمة، وتصميم المباني عالية الكفاءة في استخدامات الطاقة. وهذا الامتداد الزمني بين التقنية المصرية القديمة والتطبيقات المعاصرة يُظهر أن الأزرق المصري لم يكن مجرد صبغة زخرفية، بل تقنية نانوية سبقت عصرها بثلاثة آلاف عام، ما يعكس عبقرية المصريين القدماء في توظيف المواد ضمن منظومة علمية وجمالية متكاملة.
أما المجال الطبي، فلم يكن الطب المصري القديم قائما على ممارسات شعائرية أو خرافية، بل مثّل منظومة علمية قائمة على الملاحظة الدقيقة والتجريب العملي، كما تُظهر البرديات الطبية والنقوش الأثرية الممتدة منذ الدولة القديمة. فقد سُجّل وجود رجال ونساء يعملون كأطباء منذ حوالي 2500 سنة قبل الميلاد، وتُظهر دراسة جمجمة عمرها 4000 عام محاولات لعلاج الأورام، ما يُعد من أقدم الشواهد على التعامل مع أمراض السرطان. وتُعد بردية اللاهون (بردية كاهون لطب النساء) (حوالي 2100–1900 قبل الميلاد) من أوائل الوثائق الطبية المتخصصة، حيث تضمّنت 34 حالة مرضية منفصلة، مع تشخيصات دقيقة وعلاجات غير جراحية. أما بردية هيرست (حوالي 2000 قبل الميلاد)، فتشمل 260 وصفة طبية موزعة على 18 عمودًا، وتتناول أمراض الكلى والدم، إضافة إلى علاجات لعضّات البشر والخنازير وفرس النهر. وتُعد بردية إيبرس (حوالي 1550 قبل الميلاد) من أطول البرديات الطبية، بطول 20.23 مترًا، وتحتوي على 850 علاجًا لمجموعة واسعة من الأمراض، من الصداع والسكري إلى أمراض النساء والجلد والأسنان والإصابات. أما بردية إدوين سميث (حوالي 1600 قبل الميلاد)، فتُظهر منهجًا علمياً في علاج الإصابات والجراحة، عبر 48 دراسة حالة بأسلوب تحليلي. وقد اعترف جالينوس (129–216 م)، أحد أعمدة الطب الإغريقي، بتأثره الواضح بالمدرسة الطبية المصرية، مما يؤكد أن مصر كانت منبعًا أصيلًا للمعرفة الطبية المنظمة قبل آلاف السنين من الطب اليوناني والروماني.
وأيضاً مثّلت الإدارة في مصر القديمة منظومة بيروقراطية منظمة تُعد من أقدم النماذج المؤسسية في التاريخ، حيث شكّلت قاعدة للتنمية عبر أنظمة دقيقة في الضرائب، وتوزيع الثروات، وتسجيل المعاملات. وقد تجلّى هذا التنظيم في وثائق قضائية مثل بردية تورين القضائية، التي تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتوثّق محاكمة المتورطين في مؤامرة اغتيال الملك رمسيس الثالث، ما يُظهر وجود نظام قضائي مستقل يُعالج الجرائم السياسية الكبرى. كما تُعد بردية الإضراب، التي تعود إلى السنة التاسعة والعشرين من حكم رمسيس الثالث (حوالي 1155 قبل الميلاد)، أول توثيق تاريخي لإضراب عمّالي، حيث احتجّ عمّال دير المدينة على تأخر أجورهم، ما يدل على وعي اجتماعي وحقوقي داخل النظام الإداري المصري القديم. هذه الوثائق، المحفوظة في متحف تورين، تُظهر أن مصر القديمة لم تكن مجرد حضارة معمارية أو دينية، بل امتلكت بنية مؤسسية متكاملة تُعالج الشؤون الاقتصادية، القضائية، والاجتماعية بأسلوب منهجي يسبق النماذج الإدارية الحديثة بآلاف السنين.
ببساطة لقد فهم المصريون القدماء العلوم بوصفها سعيًا لفهم قوانين الطبيعة، فدرسوا حركة النجوم، ودورات النيل، وخصائص المواد، وطبّقوا هذه المعارف في المعمار، والزراعة، والطب، والهندسة، والفلك. كما فهموا التكنولوجيا بوصفها تطبيقًا عمليًا للمعرفة لتحقيق أهداف واضحة، فطوّروا أدوات دقيقة مثل المِرْخِت لضبط الزوايا، وصاغوا مواد اصطناعية مثل الأزرق المصري، وبنوا منشآت هندسية مذهلة كالأهرامات والمعابد، مستخدمين تقنيات في القياس، والرفع، والتثبيت، لا تزال تُبهر العالم حتى اليوم. هذا التفاعل بين الفهم النظري والتطبيق العملي يُظهر أن مصر القديمة لم تكن حضارة رمزية دينية معمارية فحسب، بل كانت حضارة علمية تطبيقية سبقت عصرها في إدراك العلاقة بين الفكر والإنجاز. وهذا ما أكده عالم الأنثروبولوجيا البريطاني السير جرافتون إليوت سميث (1871–1937) في نظرية تُعرف باسم الانتشارية الفائقة (Hyper-Diffusionism) ، مفادها أن جميع الابتكارات العلمية الكبرى نشأت من مهد حضاري واحد هو مصر القديمة، ثم انتشرت عالميًا عبر الهجرة والتبادل الثقافي. وقد استدل سميث على ذلك بممارسات التحنيط، التي ظهرت أولًا في مصر ثم انتقلت إلى إفريقيا والشرق الأدنى والهند وجنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، ما يدل على تأثير مصري واسع في هذه الاتجاه. كما أن تقنية السبائك السوداء ذات التغطية الباتينية التي تعود إلى عصر الدولة الوسطى، وتتكوّن من 86.5٪ نحاس، 1.51٪ ذهب، 0.92٪ فضة، و1.54٪ زرنيخ، وهي تركيبة متقدمة انتقلت من مصر إلى بلاد فارس، ثم الهند، فالتبت، فالصين، ثم إلى ميانمار وتايلاند وكوريا، وصولًا إلى اليابان في القرن الثالث قبل الميلاد. وهذا التسلسل يُظهر أن مصر لم تكن فقط مركزًا دينيًا أو سياسيًا، بل كانت منبعًا تقنيًا وثقافيًا عالميًا، أثّر في تشكيل الحضارات الإنسانية عبر قرون من التفاعل والانتقال المعرفي.
ومن هنا أتمنى في نهاية المقال أن أكون قد ألقيت بالقليل من الضوء على الحضارة البشرية الأعظم، والتي كانت مبنية على العلم والعلماء، مما جعلها مصدراً للنقل والإلهام لحضارات الكون أجمع، وعلى أطفالنا وشبابنا وكهولنا أن يعرفوا أنهم يتنموا إلى وطن عظيم صاحب فضل كبير على البشرية جمعاء، وهذا ليس غالب الظن بل العلم المحقق، وأن يدركوا لماذا يتم تشوية حضارتنا العظيمة طوال الوقت، بهذا الشكل المقيت والممنهج، وأننا قادرون على إعادة إبهار العالم مرة أخري، لو رجعنا إلى العلم وتطبيقاته كمنتجين وليس مستهلكين، ونحن قادرون إذا توفرت الإرادة والإدارة، كما فعل المصري القديم على مدار مئات الألوف من السنين.