الأحد 2 نوفمبر 2025

مقالات

الحكيم أيبوور قصة البردية النقدية


  • 28-10-2025 | 15:31

د. مصطفى النشار

طباعة
  • د. مصطفى النشار

لا شك عندي أننا عشنا طويلًا في ظل وهمٍ كبيرٍ يُسمى «المعجزة الغربية أو اليونانية» في نشأة الفلسفة والعلم! فالحقيقة التي تكشف عنها القراءة المتعمقة للفكر المصري القديم، منذ اختراع الكتابة وبداية تسجيل المصريين لإبداعاتهم الفكرية، هي أن الفلسفة والعلم إبداع مصري أصيل، ظهر مع بداية ازدهار الحضارة المصرية القديمة. ومن نافلة القول إن هذا الفكر لم يتطوّر منذ بداياته إلا عبر وجود الحسّ النقدي لدى مفكري مصر القديمة في المجالات الفكرية المختلفة؛ فقد حدث هذا في تطوّر المذاهب الفلسفية المفسِّرة لحقيقة الوجود والألوهية؛ حيث بُنيت هذه المذاهب وتطوّرت عبر التحليل النقدي للمذاهب السابقة؛ فمن المذهب الشمسي (نسبة إلى مدينة الشمس – هليوبوليس القديمة) إلى المذهب الأشموني (نسبة إلى مدينة الأشمونين القديمة) إلى المذهب المنفي (نسبة إلى مدينة منف القديمة) إلى المذهب الواستي (نسبة إلى مدينة واست، وهي الأقصر حاليًا) إلى مذهب التوحيد المطلق عند إخناتون، وهكذا...

ولم يتوقف هذا الحسّ النقدي عند النقد الفلسفي فقط، بل لدينا أيضًا من مصر القديمة نماذج عدّة من النقد السياسي، لعلّ أشهرها تلك البردية النقدية اللاذعة التي أُثِرت عن "إيبوور" من الألف الثالثة قبل الميلاد. وقد عاش إيبوور – أو إيبو العجوز – في أواخر عهد "بيبي الثاني"، وهو الملك الخامس من ملوك الأسرة السادسة التي حكمت مصر من حوالي عام 2430 ق.م حتى 2230 ق.م، أو في عهد أحد خلفائه الضعاف. وقد كان إيبوور – فيما يبدو – أحد الإصلاحيين في عصره، وكان قريبًا من السلطة السياسية، وربما كان يتولى بعض المناصب السياسية، حيث بدا من النص أنه قابل الملك نفسه.

أما النص، فقد عُرِف اصطلاحًا باسم "بردية ليدن"، بعد أن انتقل إلى حوزة متحف ليدن بهولندا. وكانت أول دراسة كاملة لهذا النص مع ترجمته قد قدمها "جاردنر" في ليبزج عام 1909م. وقد أطلق الباحثون عليها بعد ذلك أسماء مختلفة؛ فقد أطلق عليها "برستد" "تحذيرات إيبوور"، وأطلقت عليها "كلير لالويت" "مراثي إيبوور"، وإن كان الأصدق تعبيرًا عن مضمونها أن نطلق عليها "تحذيرات ونبوءات إيبوور"، حيث إن هذا النص يصف حالة الفوضى الأخلاقية والسياسية والاجتماعية التي عمّت البلاد في أعقاب الاضطراب والثورة الاجتماعية مع نهاية عصر الدولة القديمة وإبان مرحلة الانتقال الأولى حوالي عام 2190 – 2070 ق.م.

ومن ثم، فهو أول نصّ يصوّر ويحكي عن أسباب أول ثورة سياسية مكتملة الأركان في التاريخ.

لقد اشتمل هذا النص على ستة أجزاء أو أدوار تبدأ كلها بكلمة واحدة تكررت كلازمة في كل المقاطع، وهي كلمة "انظر" أو "انظروا"، وبعدها يُورد إيبوور تعليقًا أو نقدًا لإحدى حالات أو صور الفوضى والاضطراب التي شاهدها في البلاد. ويتدرج النص من وصف هذه الحالة البائسة المضطربة إلى التحسر على أيام الماضي الجميل التي شهدتها البلاد قبل ذلك، ثم ينتقل من هذا وذاك إلى التنبؤ بأن الأيام المقبلة في المستقبل ستشهد عودة لهذه الحياة الآمنة المستقرة المزدهرة، حيث سيعود المصريون إلى سابق عهدهم، ليعيشوا حياة مرِحة جميلة على ضفاف نهر النيل.

إن النص في مجمله يُعد اتهامًا مفعمًا بالغضب يصوغه إيبوور في صورة أدبية مفعمة بالحزن والألم، ويقدّمه أمام ملك البلاد – الذي لم يُعرَف اسمه على وجه التحقيق حتى الآن – وفي حضور آخرين، ربما كانوا من حاشية ذلك الملك المجتمعين لديه في هذه اللحظة.

وقد تعددت الصور النقدية التي قدّمها إيبوور، فشملت تقريبًا كل جوانب الحياة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد؛ فهو يبدأ بنقد الأوضاع الاجتماعية المقلوبة التي تسود البلاد، حيث قال:

 "لقد ابتُليت البلاد بعصابات اللصوص، وعلى المرء أن يذهب للحرث ومعه ترسه... إن الجريمة في كل مكان... والرجال المفلسون صاروا أصحاب ثروات... وخدمهم مهمومو القلب، وعظماء الأمس لم يعودوا يختلطون برجالهم ليفرحوا... إن الأغنياء ينتحبون والمعوزون في فرح... إن جسد السيدات النبيلات يعاني من الأسمال التي يرتدينها، وقلوبهن مغمومة عندما يقوم المرء بتحيتهن... إن من كانوا يشيدون المنازل باتوا الآن يعملون في الحقول... ومن كانوا في قارب الإله صاروا الآن يُساقون إلى العمل على متنه... لقد اختفت البسمة، فلا أحد يبتسم... إن الشكوى هي التي تعم البلاد، مختلطة بالنحيب... إن الكبار والصغار يتمنّون الموت، ويقول الصبية الصغار: ما كان ينبغي لأبي أن يمنحني الحياة".

(هذا النص والنصوص اللاحقة لإيبوور: نقلًا عن الترجمة العربية لكتاب "نصوص مقدسة ونصوص دنيوية" لكلير لالويت، الجزء الأول – عن الفراعنة والبشر).

أما الأوضاع السياسية، فقد انتقدها بشدة، مؤكدًا على أن حركة الحكومة قد توقفت تقريبًا:

 "فقد سُلبت مدوّنات قاعة المحفوظات الكبرى، ومكان الأسرار قد جُرّد من محتوياته... والمكاتب الإدارية قد فُتحت واختفت منها السجلات، بحيث إن من كان قِنًّا (أي عبدًا – رقيقًا) يمكن أن يصبح سيد أقنان... كما قُتل الكتبة واختفت مدوّناتهم... وكتبة مكتب الحبوب قد انتُزعت دفاترهم... أما قوانين القاعة الخاصة (يقصد قاعة العدل) فقد طُرحت خارجًا، ويدوسها الناس في الشوارع، ويمزقها المعوزون في الطرقات...".

كما قال:

   "إن المجلس الخاص العظيم قد تم اجتياحه، والمعوزون يروحون ويجيئون في البيوت العظيمة"... إلخ.

وقد ركّز على نقد الأوضاع الاقتصادية التي تغيّرت في البلاد وغيّرت وجهها المشرق، وتسبّبت في هدم استقرارها وفقدان أهلها للسعادة والأمان؛ فقد حدثت فوضى اقتصادية شاملة في البلاد، لدرجة تسببت في قلب الأوضاع تمامًا:

 "فمن كان لا يملك شيئًا، هو الآن يمتلك... ومن يُشكّلون شعب مصر هم منذ الآن قوم آخرون يدلهم الناس على الطريق" (يقصد أن الأجانب صاروا كثرة مفسدة في البلاد)...
"لقد أصبح العظماء جوعى ويتألمون، بينما أصبح للخدم من يخدمهم... إن الذي لم يكن في إمكانه أن يصنع لنفسه تابوتًا، بات يمتلك الآن مقبرة... إن السيدات الكريمات الأصل يرقدن على الألواح، والأعيان أُلحقوا بالحوانيت... والذي لم يكن في مقدوره أن ينام ولو على صندوق، يمتلك الآن سريرًا... إن من كانوا يمتلكون موائد نحاسية للمسكوبات، لم تعد هناك الآن جرة واحدة بين جرارهم تُحاط بجدائل الزهور... إن من كان لا يمتلك شيئًا هو الآن رجل موسر، والعظيم يُقدَّم له التكريم... إن من كان لا يجد خبزًا، يملك مستودع حصاد، ومخزنه مليء بممتلكات الغير... ومن لم يكن عنده مجرد علبة، في حوزته صندوق حُليّ... ومن كانت ترى وجهها في الماء، تمتلك الآن مرآة نحاسية... من لم يكن يمتلك مجرد ثورين مقرونين، صار في حوزته الآن قطيعًا... من لم يكن في استطاعته أن يجد ثيرانًا للحرث، يمتلك الآن المواشي... من لم يكن لديه بذور، يمتلك الآن مخازن غلال... من كان يجلب لنفسه قمحًا يقترضه، يقوم هو الآن بتوزيعه"...إلخ.

أما الأوضاع الأخلاقية والدينية، فقد لاقت اهتمامًا غير عادي من جانب أيبوور؛ فقد انتقد ما صارت إليه أخلاقيات الناس وعقائدهم ورموز هذه العقيدة بلغة بالغة القوة والإتقان:

"فالذين كانوا في المكان الطاهر يُوضَعون فوق المرتفع، لأن أسرار التحنيط قد ضاعت... لقد أُقصي السادة المقدّسون في المكان الطاهر إلى مرتفع، بينما ذلك الذي كان لا يستطيع أن يصنع لنفسه تابوتًا، بات الآن في بيت الخزانة".

وإذا كان ذلك عن انفلات الوضع الديني للبلاد، وعدم احترام قدسية أماكن دفن الموتى، وعدم احترام رجال الدين، فإن أخلاق العامة قد تدهورت بشكل لم يعرفه المصريون من قبل:

"فاللصوص أصبحوا في كل مكان، والخادم مُحمَّل بما استولى عليه... وبعد أن تأكدت القدرة للجميع (يقصد أن هيبة الدولة قد ضاعت فأَتاحت للجميع أن يتصرفوا كما يشاءون)، صار الإنسان يضرب شقيقه المولود من أمه، وصار الناس يقولون: ماذا يحدث؟!... صارت الطرق والدروب محروسة (يقصد مراقبة من قِبَل اللصوص)، ويجلس المرء في الأدغال حتى يصل أحد مسافري الليل، فيستولي على أمتعته، ويجرده من كل ما معه، ويمتّعه بضربات من عصاه، ثم يقتله بإجرام".

لقد انتشرت صور الجريمة المختلفة في البلاد، لدرجة جعلت:

"مواطني الأمس (يقصد المصريين من أهل البلاد) يروحون ويجيئون وهم ينتحبون... وآه لو كان هذا هو نهاية البشرية، لما حملت النساء، ولما أنجبن قط، ولغرقت الأرض في السكون...".

لقد ساءت كذلك أحوال التجارة الخارجية، فلم يعد هناك من يُقلِعون بسفنهم إلى الخارج، سواء لجلب ما يحتاجه الناس داخل البلاد أو لتصدير ما يفيض عن حاجتهم:

"فأصبح القوم – كما يقول أيبوور – لا يُقلعون بسفنهم شمالًا إلى جبيل" (وهو أعظم ميناء تجاري في فينيقيا آنذاك).

أما الأحوال العسكرية وقوة الجيش، فلم تعد هي الأخرى بالطبع على ما يرام، حيث انتقد أيبوور كذلك هذه الأوضاع، موضّحًا أن أملاك مصر وأراضيها صارت نهبًا للغزاة، وأصبح رجال الجيش غير قادرين على صد غزوات الآسيويين على حدود الدلتا.

وهكذا عمّت نظرة أيبوور النقدية كل ما في البلاد من أوضاع داخلية وخارجية. وبالطبع، فإن هذه النظرة النقدية الشاملة للبلاد لم تكن لتكون بذات الأهمية، لولا أننا نعلم أن أيبوور قد قدّمها في حضرة الملك وأمام حاشيته؛ ففي ذلك دلالة على أن الأمور قد صارت أسوأ مما يمكن تصوره، بما أتاح لأيبوور أن ينقلها بهذه الجرأة أمام ملك ذلك الزمان، بل ويتّهمه بأنه هو السبب في ذلك.

فلقد بلغت جرأة أيبوور النقدية أن قال للملك، الذي اعتُبِر رمزًا للفناء بتعبير "جون ويلسون"، قال له:

 "تتجمع فيك السلطة وشدة الإحساس والعدل، ولكنك لا تنشر في البلاد غير الفوضى وضوضاء المنازعات... انظر، كل شخص يطعن الآخر، لأن الناس يمتثلون لما تأمر به... فهل أصبح الراعي يحب الموت؟! إن هذا يعني في الحقيقة أنك سعيت حتى يحدث ذلك، وأنك كاذب في قولك!!".

وبالطبع، فإن المتوقع في تلك الحالة، لو أن الأمور كانت عادية، أن يصبّ الملك جام غضبه على أيبوور، ويأمر بإهلاكه، لكن ما تقوله الوثيقة التي أمامنا غير ذلك؛ فقد كان الملك هو الآخر يأسى لحال الرعية، ويأسف لما وصل إليه الحال، ومن ثم فقد حاول في رده على اتهامات أيبوور توضيح أنه حاول حماية شعبه، بالوقوف في وجه الغزاة والأجانب الذين كانوا يهاجمون البلاد!

وحينما سمع أيبوور من الملك هذا الرد، خجل فيما يبدو، وتراجع عن لهجته اللاذعة الغاضبة، ونظر – فيما يقول "ويلسون" في كتابه القيم عن الحضارة المصرية – إلى مولاه الملك بشيء من العطف، وقال بأن الملك أحسن القصد، ولكنه لم يصل إلى الغرض، وعزا ذلك مرة أخرى إلى جهل الملك وعدم كفاءته.

وقد عبّر أيبوور عن ذلك بقوله:

 "إذا كنت تجهل ذلك، فإنه أمر محبب إلى القلب... لقد فعلت ما هو حبيب إلى قلوبهم (يقصد قلوب المصريين)؛ لأنك جعلت الناس يعيشون بسبب ما فعلته، ولكنك تغطي وجوههم خوفًا من الغد".

ولا شك أن هذا العرض لأحوال البلاد والعباد، وهذه المناقشة الحامية حول أوضاع البلد بين أيبوور وملكه، إنما تكشف عن روح ديمقراطية حقيقية بدت في هذا العصر، تلك الروح التي سمحت لأحد الحكماء أن ينتقد أداء الملك علنًا وأمام حاشيته، مؤكدًا له أن مقابلة الخطر ليست هي كل شيء في الحكم الصالح، الذي يتطلب من الحاكم مجهودًا إيجابيًا لا يكل.

والخلاصة أن المجتمع المصري القديم لم يكن مجتمعًا خاملاً يخضع لسلطة سياسية مستبدة، كما هو شائع –للأسف الشديد– بين عامة المثقفين! بل كان، في معظم فترات تاريخه القديم، مجتمعًا حيًّا مُنجزًا، يتمتع أفراده بالحريات العامة، ويعيشون حياة آمنة، سعيدة، مستقرة، تحت رعاية حكومة ملكية عادلة، تحرص على تحقيق العدالة، وتحترم شعبها وتحبه.

وقد لخّصت عبارة "كان خبزي العدالة"، التي كتبتها الملكة العظيمة حتشبسوت على قبرها، كل ذلك بوضوح!

لكن كان لهذا الشعب المتحضّر ثوراته على حكامه حينما يتكاسلون عن أداء واجباتهم، ولا يحرصون على إقامة العدل واحترام النظام!

أخبار الساعة

الاكثر قراءة