الأحد 2 نوفمبر 2025

مقالات

الإرادة المصرية.. درس التغلب على الصعوبات والتحديات


  • 30-10-2025 | 10:59

د. محمد عبد المقصود الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار

طباعة
  • د. محمد عبد المقصود الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار

يُعد المتحف المصري الكبير واحدًا من أهم وأكبر المشاريع الثقافية التي تبنتها مصر في العصر الحديث، ويهدف إلى عرض التراث المصري القديم بشكل متكامل وعصري، بما يتناسب مع قيمة الحضارة المصرية القديمة ومكانتها العالمية. وقد جاء هذا المشروع ليكون بمثابة نقلة نوعية في مجال المتاحف، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على المستوى العالمي، من حيث الحجم والتنظيم والتقنيات المستخدمة، وعدد القطع الأثرية.

بدأت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير منذ أكثر من عشرين عاما وكان الوزير الفنان فاروق حسني وزير الثقافة في ذلك الوقت هو صاحب تلك الفكرة التي ارتبطت في الأساس بتعظيم قيمة مصر وآثارها خاصة بعد أن أصبح المتحف المصري بالتحرير مكدسًا بالآثار وصار أشبه بمخزن كبير للآثار مما أثر على العرض المتحفي. وفي ظل التوسع في التنقيب على الآثار واكتشاف آلاف القطع الأثرية أصبحت بيئة العرض لا تليق بأهم وأندر القطع الأثرية في العالم وخاصة مجموعة الملك توت عنخ أمون. وفي عام 2002 وضع الرئيس الراحل محمد حسني مبارك حجر الأساس في احتفال مهيب بحضور العديد من الوزراء ورجال الدولة بالإضافة إلى الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الراحل الأستاذ الدكتور جاب الله على جاب الله.
 وتم اختيار موقع إنشاء المتحف من بين عدة أماكن واستقر الرأي على موقع إستراتيجي للمتحف بالقرب من هضبة الأهرامات، ليكون في قلب المنطقة الأثرية الأكثر شهرة في العالم، وهو ما أعطى للمشروع أهمية كبرى، لكنه في نفس الوقت جلب مجموعة من التحديات والصعوبات التي واجهت المشروع الذي أصبح مشروعا قوميا للدولة المصرية.
أولًا: الصعوبات الإنشائية والهندسية
تم اختيار تصميم المتحف المصري الكبير بعد الإعلان عن مسابقة دولية وقد فاز بها المهندس المعماري الأيرلندي شينجو شيان  (Shih-Fu Peng) من شركة هينجان بينج (Heneghan Peng)وهي شركة معمارية دولية مقرها في أيرلندا. وتميز التصميم بالحداثة المعمارية. إلا أن تنفيذ هذا التصميم على أرض الواقع تطلّب جهودًا مضاعفة وتنسيقًا عاليًا بين فرق الإنشاء والتصميم. كما كان هناك حاجة إلى إجراء تعديلات هندسية على التصميم الأصلي لأكثر من مرة خلال مراحل التنفيذ.
 وتقرر فتح المظاريف علنيا للمناقصة العالمية لتنفيذ المشروع في عام 2011 وتم اختيار شركتي أوراسكوم للإنشاءات، والمقاولون العرب بالشراكة مع شركات أجنبية لتنفيذ المراحل الرئيسية، ونجحت اللجنة في اختيار أفضل العروض فنيا وماليا. وأصبح المتحف نموذجا لإدارة المناقصات الكبرى في مصر من حيث الشفافية في المشاريع القومية خاصة ما أحاط بها من أوضاع في عام 2011. 
 والمتحف مقام على مساحة تبلغ نحو 500 ألف متر مربع، منها أكثر من 100 ألف متر مربع للمباني. وكبر حجم المشروع تطلب قدرات إنشائية وتقنية غير مسبوقة في مصر، خاصة مع وجود قاعات ضخمة مخصصة لعرض أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، ومناطق خدمات، ومراكز بحث وترميم، وقاعات محاضرات، وساحات خارجية وحدائق.
 كما أن الموقع المختار للمتحف يقع بالقرب من هضبة الأهرامات على أرض صحراوية ذات تربة رملية ضعيفة، ما استدعى استخدام تقنيات خاصة في تأسيس المباني. كما تطلب الأمر إجراء دراسات زلزالية وهندسية معمقة لتأمين المباني ضد أي هزات أرضية محتمله.
ثانيًا: التحديات الفنية والتقنية
المتحف يهدف إلى تقديم تجربة تفاعلية للزائرين، ولذلك تم إدخال تكنولوجيا الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR)، وأنظمة عرض رقمية، وإضاءة ذكية، ووسائط متعددة تشرح الحضارة المصرية بطرق حديثة. هذه التكنولوجيا وتركيبها وتشغيلها شكل تحديًا كبيرًا، خاصة مع تأخر التوريدات واعتماد بعض الأنظمة على شركات أجنبية.
ونظرًا لأهمية المتحف واحتوائه على قطع أثرية لا تقدر بثمن، كان لا بد من تصميم أنظمة أمنية على أعلى مستوى عالمي، تشمل كاميرات مراقبة، حساسات حركة، أنظمة إنذار، وأبواب آمنة.
ويضم المتحف أكبر مركز ترميم إقليمي في الشرق الأوسط والعالم حيث تم بناؤه على مساحة 32 ألف متر مربع، يحتوي على 19 معملًا متخصصًا لترميم الآثار المختلفة. وتجهيز هذا المركز بأحدث الأجهزة كان تحديًا ماليًا وتقنيًا، حيث تطلب الأمر شراء أجهزة دقيقة للغاية من الخارج، وتدريب الفنيين المصريين على استخدامها، مع الالتزام بمعايير بيئية صارمة لحفظ الآثار وتدريب الكوادر اللازمة لإدارة المشروع. 
ثالثًا: صعوبات الموقع والمنطقة المحيطة
كان لقرب المتحف من منطقة الأهرامات قد استلزم تنسيقًا مستمرًا مع وزارة الآثار واليونسكو لضمان عدم الإضرار بالموقع الأثري والتأكد من خلو منطقة إنشاء المتحف من أي آثار ثابته. وبعد إجراء أعمال الحفائر في العديد من أجزاء الموقع ثبت عدم ظهور أي آثار وكان ذلك أحد متطلبات الموافقة على إنشاء المتحف في ذلك الموقع، كما كان هناك قيود على ارتفاعات المباني واستخدام المعدات الثقيلة بغرض تسوية الأرض. 
كما تطلب تنفيذ المتحف في ذلك الموقع والاستعداد لاستقبال ملايين الزوار سنويا مما تطلب تنفيذ شبكة طرق جديدة، وتوسعة الموجودة، وتحسين وسائل المواصلات، بما في ذلك التخطيط لخط مترو أنفاق مستقبلي يمر بجوار المتحف. مع إيجاد الحلول اللازمة للازدحام المروري في شوارع الجيزة، وكان ذلك تحديا أمام تصميم مداخل ومخارج المتحف مع تطوير المناطق المحيطة به، وإزالة العديد من المباني العشوائية حول المنطقة. ولتشجيع الاستثمار تم توفير مناطق خاصة للمرافق السياحية في محيط المتحف بالإضافة إلى مناطق انتظار سيارات، ومراكز خدمة الزائرين.
رابعًا: التحديات المرتبطة بالقطع الأثرية
كان اختيار عدد 100 ألف قطعة للمتحف تحديًا كبيرًا حيث تم تشكيل أربع لجان لاختيار القطع الأثرية المطلوبة للعرض المتحفي من المواقع الأثرية في الوجه البحري والقبلي، ومن المخازن المتحفية بالمناطق الأثرية بالإضافة إلي اختيار عدد كبير من القطع الأثرية من المتحف المصري ومخازنه، الأمر الذي كان موضع انتقاد في بعض الأحيان بسبب التخوف من تأثيره علي العرض المتحفي، كما أن عملية نقل آلاف القطع من متاحف ومخازن ومناطق أثريه من محافظات مختلفة كان تحديًا كبيرًا، خاصة أن بعضها يحتاج إلى ظروف نقل خاصة، وقد تم ذلك بواسطة فريق مدرب من المجلس الأعلى للآثار وبعض الخبراء. وكان من أكثر القطع الأثرية صعوبة في نقلها إلى المتحف الكبير كان تمثال الملك رمسيس الثاني، ومراكب الشمس التي نقلت إلى المتحف الجديد المضاف إلى المتحف الكبير بمسطح 400 متر مربع.
وبالنسبة للقطع المنقولة كان لا بد من تخزينها في ظروف مناخية مناسبة إلى حين عرضها داخل القاعات. بعض تلك القطع احتاج إلى عمليات ترميم فوري عند وصولها، والبعض الآخر احتاج إلى إعادة تجميع مثل توابيت أو تماثيل مكسورة.
 وقد صاحب عملية اختيار القطع الأثرية أعمال توثيق رقمي من أجل ضمان عدم ضياع أي قطعة أثرية، لذا تم إنشاء قاعدة بيانات رقمية شاملة تضم وصفًا دقيقًا لكل قطعة؛ صورها من جميع الزوايا، وسجلًّا لحالتها قبل وبعد الترميم. إعداد هذه القاعدة تطلب مجهودًا ضخمًا ووقتًا طويلا وقد تم ذلك بواسطة فريق مصري مدربا تدريبا جيدا.
خامسًا: الصعوبات التمويلية
إن تكلفة المشروع تكلفت 1.2 مليار دولار، منها 750 مليون دولار قروض معظمها من الحكومة اليابانية والباقي تم تمويله من الحكومة المصرية. 
 وقد تم تمويل المشروع جزئيًا من خلال قرض ياباني في عام 2006 بقيمة 34.8 مليار ين ياباني ما يعادل 300 مليون دولار يسدد على 20 عاما بفترة سماح 10 سنوات بسعر فائدة 1.5 سنويا، والقرض الثاني كان في عام 2016 وبلغت قيمته ما يعادل 360 مليون دولار يسدد على 18 عاما بفترة سماح 7 سنوات بسعر فائدة 1.4 سنويا، أي بفائدة بسيطة جدا من وكالة التعاون الدولي (JICA، وهو ما تطلب إجراءات وضغوطًا زمنية تتعلق بمواعيد السداد والتنفيذ.
ولم يكن التمويل مقتصرًا على البناء فقط، بل يشمل أيضًا التشغيل والصيانة، وهو ما تطلب التفكير في آليات مستدامة مثل تذاكر الزيارة، والأنشطة الثقافية، والشراكات مع مؤسسات أجنبية.
سادسًا: التحديات التي واجهت اختيار موقع المتحف
منذ الإعلان عن اختيار موقع المتحف بالقرب من هضبة الأهرامات، ظهرت اعتراضات وتحفّظات من بعض علماء الآثار والمهتمين بالحفاظ على التراث بسبب أن الموقع المختار يقع في نطاق أثري مفتوح، وكان يُخشى أن تكون هنالك آثارا مدفونة تحت الأرض، مما أثار تساؤلات عن مدى ملاءمة إقامة مشروع بهذا الحجم في تلك المنطقة.
 وترى بعض الآراء أن إقامة المتحف في هذا الموقع قد تؤثر سلبًا على هضبة الأهرامات، سواء من ناحية التأثير البصري للمنشآت الحديثة، أو من ناحية الحركة والضوضاء التي قد تنتج عن استقبال ملايين الزوار، مما قد يعرّض المنطقة التاريخية للضرر أو التلوث.
واستجابة لهذه الاعتراضات، قامت وزارة الآثار المصرية بإجراء عدد كبير من الأعمال الأثرية كالحفائر والمسح الأثري ومجسات للتربة (حوالي 1200مجس)، لدراسة طبقات الموقع مع الدراسات الجيولوجية.
وقد تم الاستعانة بفرق دولية متخصصة في هذا النوع من المسح الأرضي، وجرى التأكد من أن موقع البناء لا يحتوي على آثار مدفونة يمكن أن تتعرض للضرر أو التلف.
وكان من أبرز التحديات أيضًا هو كيفية تحقيق التوازن بين إقامة صرح حضاري حديث يمثل مستقبل مصر الثقافي، وبين الحفاظ على السياق التاريخي لمنطقة الأهرامات وعدم التأثير على طابعها الأثري، ولهذا خضع تصميم المتحف الي معايير بيئية ومعمارية ورقابة شديده من جهات محلية ودولية، وتم الحرص على ألا تتجاوز المباني ارتفاعات محددة، مع استخدام مواد وألوان تتناغم مع البيئة المحيطة. 
ولأن منطقة الأهرامات مُدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، كان لا بد من الحصول على موافقات ومراجعات مستمرة من المنظمة لضمان أن المشروع لا يؤثر على القيمة العالمية الاستثنائية للموقع. 
سابعا: التحديات الإدارية والتنسيق المؤسسي
كان لتعاقب الإدارات وتغيير الخطط في بعض الأحيان أثناء إنشاء المتحف أثرا كبيرا أدى إلى طول مدة تنفيذ المشروع التي تجاوزت 20 عامًا، وبدا المشروع كأحد مشروعات وزارة الثقافة ثم وزارة الآثار ثم وزارة السياحة والآثار. وكان يتبع المجلس الأعلى للآثار ثم أصبح هيئة مستقلة بناءً على قرار رئيس مجلس الوزراء 2795 لسنه 2016 بإنشاء وتنظيم هيئة المتحف المصري الكبير قبل أن يصدر القانون رقم 9 لسنه 2020 بإعادة تنظيم هيئة المتحف كهيئة عامة اقتصادية تتبع الوزير المختص بشئون الآثار، مما أدى في بعض الأحيان إلى اختلاف في الرؤية أو تغيّر في الأولويات. وهذا أوجد تحديًا إداريًا كبيرًا في الحفاظ على استمرارية الخطة التنفيذية وعدم فقدان البوصلة مع كل تغيير وزاري.
وفي عام 2014 وجه الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى ضرورة العمل على سرعة الانتهاء من المتحف بشكل كامل وتابع سيادته عن كثب أدق تفصيلات المشروع، بالإضافة إلى المتابعة المستمرة من رئاسة الوزراء لإنجاز مشروع المتحف والمنطقة المحيطة به، وإنشاء الطرق المتصلة به. 
 وكان التنسيق بين الجهات المحلية والدولية أثناء إنشاء المتحف أمرا مهما لخروج المتحف في أفضل صورة. 
وفي النهاية، يعد مشروع المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى أثري أو مزار سياحي جديد، بل هو مشروع حضاري ضخم، يهدف إلى استعادة مكانة مصر الثقافية والتاريخية بين الأمم، وإبراز عمقها الحضاري الممتد لآلاف السنين. لقد واجه المشروع تحديات غير مسبوقة على المستويين المحلي والدولي، وتعقيدات لوجستية 
ويعتبر هذا المشروع تجسيدا للإرادة المصرية في التغلّب على الصعوبات، والقدرة على تنفيذ مشروع بهذا الحجم والتعقيد في واحدة من أكثر البيئات الأثرية حساسية في العالم، فهو ليس فقط بوابة إلى الماضي، بل هو نافذة على المستقبل، ومرآة تعكس قوة مصر الناعمة، وعظَمتها، وقدرتها المستمرة على الإبداع والبناء رغم كل الظروف. وسيظل شاهدًا على حضارة لم تنتهِ، بل تتجدّد مع كل جيل يحمل مسؤولية الحفاظ عليها، 
وتقديمها للعالم في أبهى صورها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة