السبت 1 يونيو 2024

داعش من البداية إلى بداية النهاية والسقوط

22-3-2017 | 13:35

بقلم – طارق الحريرى

تمثل داعش نموذجا لافتا فى لعبة الأمم، التى تديرها القوى الكبرى فى الغرب وبعض القوى فى إقليم الشرق الأوسط باستغلال تنامى الفكر المتطرف، ولم يكن اختيار منطقة ما يعرف جغرافيا ببادية الشام لإقامة كيان سياسى يمثل تجسد هاجس فكرة الخلافة على الأرض عشوائيا، بل تم هذا التجسد الشكلى للدولة الإسلامية – الفاقدة لمقومات ما صار يعرف فى أدبيات السياسة بالدولة القومية – نتيجة اعتبارات ترتبط بمصالح وأهداف إقليمية هى التى مكنت من إقامة هذا الشكل الهلامى لما أطلق عليه الدولة الإسلامية، حيث لا علاقة لأنصار هذا التنظيم الغائبين عن الواقع السياسى الدولى بخفايا تحريكهم كعرائس الماريونيت.

 

لقد بدا للكثيرين أن سيطرة داعش على مساحات شاسعة من الأرض فى سوريا والعراق فى مدى زمنى قصير تحركا مخيفا يحيطه الغموض والتوجس من المستقبل وبدأت تحليلات تشير إلى أن ما حدث كان نتيجة للمشكلات السياسية الضخمة، التى كان يعانى منها النظام السياسى فى كل من البلدين، وهذا عامل صحيح، ولكن بقدر محدود، فالانتشار الذى تم للتنظيم جرى فى بدايته على نطاق واسع لا يمكن أن يتم فوق الأرض بدون معلومات استطلاع دقيقة تحدد أماكن وطرق التحرك لفرض السيطرة على الأرض.

كما أن الأسلحة التى كان يمتلكها التنظيم تجاوزت مستويات التسليح التقليدية للميليشيات وتم دعمه بأسلحة قتال متوسطة لا يمكن الحصول عليها بدون دعم خارجى لا يتوفر فى سوق السلاح إلا للدول، وهذا ما أسهمت فيه قطر والسعودية وتركيا.

أما الإمكانيات اللوجيستية لتغطية الاحتياجات ووسائل الاتصال فإنها كانت أكبر من أن تتوفر لميليشيا مسلحة مهما بلغت درجة قوتها وكانت ماكينة الدعاية والإعلام للتنظيم عبر شبكات التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية تتم بمستويات تكنولوجية بالغة الدقة وفى فضاء سيبرانى واسع دون تعرض للحذف والإعاقة وفى مرحلة تالية عندما وضعت داعش يدها على مناطق غنية في محافظة الرقة ساعدها هذا على تحقيق قدر كبير من الموارد من خلال بيع النفط والقمح والمياه والجزء الأكبر من حصة البترول المبيع كانت تحصل عليها تركيا بسعر أقل بكثير عن سعر السوق الذى كان منخفضا أصلا بعد أن فضحت هذا روسيا – عقب إسقاط إحدى طائراتها – بصور دقيقة من أقمارها الصناعية.

كما فضحت صور الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع الروسية ووسائل الحرب الإلكترونية فائقة الدقة عدم جدية طائرات التحالف فى قصف التنظيم، وأن غارته كانت وهمية ويدرك الخبراء العسكريون جيدا أن داعش لم يتعرض لأى ضربات تعجيزية من طائرات التحالف، الذى تقوده الولايات المتحدة فلم يتم ضرب مراكز القيادة والسيطرة، التى تخل بقدرات التنظيم فى إدارة العمليات العسكرية ولم يتم ضرب الاحتياطيات ومناطق إعادة تجميع القوات وكانت القوات والطوابير المتحركة على الطرق الرئيسية، وهى أهداف أكثر من سهلة لإبادتها لا تتعرض للقصف كما تجاهلت طائرات التحالف مخازن السلاح ومراكز التدريب والقواعد الإدارية.

ما بين الترويع وأساليب القتال

ومن اللافت أن تنظيم داعش طور تكتيكات قتال حرب العصابات الخاصة به من خلال إحداث ترويع هائل للسكان المحليين، الذين يعتبر أنهم غير موالين وفى مواجهة أى قوة عسكرية معادية أو عند الهجوم عليها يستخدم التنظيم أساليب مناورة بالنيران غير تقليدية بمصايد الألغام والتفخيخ، وهى بذلك تعتمد على بدء الهجوم بتمهيد نيرانى مبتكر ليعوض غياب امتلاك قوة جوية من القاذفات أو مدفعيات ثقيلة تقوم بضرب غلالات نيرانية تساعد الأفراد على التقدم والهجوم، وكان أسلوب داعش يعتمد على الدفع بعدة عربات مفخخة فى توقيت متزامن محملة بكميات ضخمة من المتفجرات بالغة الشدة فى إحداث الانفجار مثل “السى فور “ لإحداث ثغرة تسمح لعناصره بالاختراق فى صفوف القوات المتصدية للهجوم.

كما أن التنظيم يعمد إلى الانتشار وسط السكان المدنيين لتعقيد فرص القوات التى تحاربه وكثيرا ما كان فى ظروف القتال الحرجة يستخدم المدنيين العزل كدروع بشرية ومن الأساليب المستخدمة فى بناء خطط الدفاع كان يستعاض عن الخنادق المكشوفة بشبكة من الأنفاق، التى تتيح الانتقال الآمن والمناورة بالقوات.

ومن اللافت أيضا أن التنظيم كان يخضع للتحكم المركزى إعلاميا لتحاشى ارتكاب أخطاء قد تكون فادحة، وذلك على نقيض الأسلوب الذى تتبعه تنظيمات جهادية أخرى في سوريا على سبيل المثال ويتجلى هذا النهج فى عدم التقاط تنظيم داعش عادة صورا لقادته ولا يظهرهم في الميديا، حيث يتم الكشف عنهم بالاسم والصورة في حال مصرعهم فقط وطالما هم على قيد الحياة تتم تغطية الأخبار، التي ترد عنهم بأسماء وهمية.

سقوط أسطورة داعش

 أخيرا بدأت مرحلة بداية النهاية لما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية داعش آخر حلقات الإسلام السياسى الجهادية، التى تعتمد الصراع المسلح طريقا لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، التى طرأت على الفكر السياسى للنخبة فى قطاع واسع من المتشددين الأصوليين، الذين يحلمون باستعادة أشكال متوهمة من التاريخ بعد سقوط الدولة العثمانية، التى كانت تأخذ من الخلافة متكأ دينيا للهيمنة على الشعوب المسلمة.

كانت الدولة التى أقامتها داعش تفتقد إلى مقومات أساسية تتمثل فى الافتقاد الكامل لمقومات الشرعية الدولية، والأهم أن أدوات القوة العسكرية كانت نسبة كبيرة منها من خارج مواردها الذاتية، وأن فضاءها الاقتصادى يعتمد على التجارة غير الشرعية خارج نظم الاقتصاد المتعارف عليها دوليا وبالطبع لم تحظ هذه الدولة بأى نوع من الاعتراف أو حتى العلاقات الدبلوماسية غير الرسمية.

نتيجة لطبيعة التنظيم وطبيعة دولته التى لا تتوفر لها الشروط الموضوعية كانت عوامل السقوط منذ البداية بادية للخبراء السياسيين والعسكريين وبالفعل مع توفر الإرادة السياسية للدولة العراقية وإعادة تنظيم القوات المسلحة بها وتوسيع قاعدتها بقوات الحشد الشعبى بدأ مسلسل الهزائم وتداعى داعش فى العراق، حتى أن التنظيم صار قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام فى هذا البلد وفى خطوة تالية مع توفر الإرادة السياسية الدولية لمحاربته فى سوريا، فإن انتهاء هذه الأسطورة المصنوعة وزوالها كدولة أو بمعنى أصح ككيان يحتل مساحة من الأرض يصبح مسألة وقت.

هنا يتبادر للرأى العام سؤال لماذا يسقطون سريعا هكذا مع أول مواجهة حقيقية على الأرض والإجابة بعد استعراض طبيعة التنظيم فيما تقدم تتمثل فى عدة عوامل فى الجانب العسكرى.

أولها: توقف الإمداد بالسلاح بعد توقف القوى التى كانت تقوم بهذا الدور عن الاستمرار فى ضخ شحنات جديدة.

ثانيا: نفاد مخزون قطع الغيار اللازمة للإحلال أو الإصلاح، مما يعنى أن الأسلحة الثقيلة والمتوسطة فى حوزة عناصر التنظيم المقاتلة أصبحت حديد خردة لا نفع منها.

ثالثا: استهلاك مخزون الذخيرة وبالأخص ذخائر الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وافتقاد التنظيم لقدرة تصنيعها..

رابعا: توقف الإمداد بالمقاتلين من الجنسيات المختلفة بعد سد المنافذ، التى كان تهريب المقاتلين يتم منها، وبالتالى لم يعد لدى التنظيم قدرة على تعويض الخسائر البشرية..

خامسا: جزء كبير من القدرات اللوجيستية كان يعتمد إمكانيا من خارج التنظيم، وبالتالى أصيبت الهياكل التنظيمية بخلل فى إمكانيات التنقل والاتصال ..

سادسا: توقف عمليات التجارة غير الشرعية والتمويل من الخارج أديا إلى العجز عن تدبير الاحتياجات المالية.

سابعا: القصف الجوى الفعلى لمراكز القيادة والسيطرة والمناطق الإدارية ومخازن الذخيرة أخل باستقرار التشكيلات القتالية.

ثامنا: مع تعرض التنظيم للخسائر المستمرة وتواصل الهزائم وفقدان الأرض ونزيف والبشر والسلاح تبدأ الروح المعنوية فى الانهيار وتتراجع معها الكفاءة القتالية والقدرة على الصمود.

مرحلة ما بعد الانهيار

هنا يأتى السؤال الجوهرى ما الذى يمكن أن يتمخض عن سقوط التنظيم من زاويتين أولهما تأثير ذلك على داعش نفسه، ولاسيما أن بقاء قيادة التنظيم فى الرقة عاصمة الدولة الإسلامية بعد سقوطه فى العراق مآله إلى زوال فى مدى زمنى لن يزيد عن بضعة أشهر أو عام على أقصى تقدير فالمنطقة جغرافيا لا تسمح للقياد بالبقاء متخفية مثل تنظيم القاعدة فى كهوف أفغانستان وثانيا تأثير ذلك على الإقليم عسكريا وسياسيا.

بالنسبة للتداعيات المتوقعة بعد سقوط التنظيم فإنها تتمثل فى أن التنظيم الذى سوف يفقد السيطرة على الأرض قد يتحول إلى قيادة مركزية تحافظ على المنبع الفكرى، لكنها ستقوم بتأسيس هيكل جديد غير مرتبط بإطار مركزى يدير العمليات العمليات العسكرية، وهو بهذه الصيغة سوف يكون أقرب إلى تنظيم القاعدة فى وضعه الحالى، الذى لا يمارس قيادة عسكرية مركزية مباشرة للعناصر، التى تؤمن بفكره لكن تنظيم داعش – وهذا هو الأهم – يمتلك إمكانية أخرى غير متاحة للقاعدة، وهى أن بعض أذرعه الخارجية، وبالتحديد فى إفريقيا فى منطقة صحرائها الكبرى وغرب القارة لها سيطرة على الأرض، بل سيطرة كاملة على مناطق غير خاضعة لتهديد متوقع فى المدى الزمنى القريب أو المتوسط من حكومات الدول التى تنتشر بها العناصر الموالية لداعش، لذا ليس من المستبعد أن يقوم التنظيم بنقل مركز قيادته الحالى إلى إحدى هذه المناطق فى إفريقيا، وهنا علينا أن نتذكر أن للتنظيم سابقة ليس فى نقل مركز قيادة فقط، ولكن فى نقل قوات كاملة مثلما حدث عندما نقلت تشكيلات قتالية كاملة إلى سرت فى ليبيا، وبالتالى فمن السهل أن ينتقل مركز القيادة إلى إفريقيا فى مواقع توفر ملاذات آمنة، وليس من المستبعد أن تبقى بعض العناصر الخامدة فى سوريا والعراق كخلايا نائمة يتم تحريكها فى أوقات ومناسبات معينة للانتقام والإعلان عن استمرار التنظيم وأنه لم يفن.

أما بالنسبة للتداعيات المتوقعة عسكريا وسياسيا بعد سقوط التنظيم فإنها سوف تكون أكثر إيجابية فى العراق لوجود حكومة مسيطرة وقوية، وسوف يؤدى انتصار جيشها على داعش إلى مزيد من الاستقرار وبسط سيطرة الدولة على كامل مساحة الدولة سياسيا وأمنيا، ويمكن أن يكون هذا الانتصار عامل مساعد فى طريق الحل للملفات الشائكة المعلقة مع الأكراد وعسكريا فإن انتصار الجيش العراقى سيجعله يستعيد فيما بعد عافيته كجيش احترافى قوى كان فى وقت من الأوقات من جيوش الشرق الأوسط القوية.

وعلى عكس العراق فإن القضاء على داعش فى سوريا سوف يكون تورتة تتقاسمها عدة أطراف فى لعبة تجاذبات القوة بتعزيز هذه الأطراف لمساحات سيطرتها على الأرض لتقوية موقفها فى مفاوضات الحل السياسى، التى دارت عجلتها أخيرا فى بعد “جنيف٤” ، كما أن هناك الدور الدولى المتوقع من القوى العسكرية وتحديدا الولايات المتحدة، التى أصبحت لها قوات على الأرض فى سوريا وقواعد لوجستية، وبالمثل لكن بدرجة أقل بعض الدول الأوربية على الأقل بالمشاركة الفعالة فى التحالف وبالطبع دور روسيا، الذى تجلى أخيرا فى استعادة القوات الحكومية لتدمر ومن جانب آخر تحرك تركيا قوات تابعة لها لبسط نفوذ أكبر من خلال معركة القضاء على داعش، لذلك فإن الوضع السورى ما بعد داعش عسكريا وسياسيا سوف يكون أكثر تعقيدا وغموضا مقارنة بالعراق، لكن القضاء على داعش فى سوريا يمكن فى حال تقدم مفاوضات جنيف نحو حل نهائى عامل مساعد بقوة فى حل الأزمة.