د. حسن يوسف طه - كاتب مصري
يمر هذا العام أربعون عاما على رحيل عبد الحليم حافظ. أحببنا مع أغنياته، مع صوته وأغانيه عشنا آمالنا وطموحاتنا وآلام وفرحة الوطن. صوته كان تعبيرا عن الوطن وعن الإنسان. لذلك غاب هو وبقى فنه مؤثرا.
وإذا كتب يوسف إدريس عن عبد الحليم فإنه يجبرك على أن تقف لتتأمل وتتعقل ما يكتبه. في كتابته جوانية خاصة تجاه موضوعه أو فكرته أو رأيه. فهو يكتب بصدق عال. ويوسف إدريس أحب عبد الحليم. سمعه وكان يدرك جوانيته العميقة إلى جانب إدراكه لمظهره الخارجي. نظر إليه واستمع إليه وكتب عنه.
"غنّ يا عبد الحليم". وهى العبارة التي ستظل تتكرر طيلة الموضوع. يريده أن يغنى ويغنى لماذا؟ لأنه يخترق الوجدان. كان عبد الحليم له القدرة أن يخترق المتلقي بلا أدنى ممانعة. كان يجد طريقه ممهدا فى وجدان متلقيه ومستمعيه. كان لديه القدرة أن يغسل وجدانهم وينظف أسماعهم ويحرك عقلهم وقلبهم. "غن يا عبدالحليم". يوسف إدريس سمع وشاهد عبد الحليم وهو يغنى (قارئة الفنجان). كلمات نزار قباني وألحان محمد الموجى. وتمكن وهو يغنى أن يوصل المعنى واللحن إلى درجة الاكتمال. وهنا يحدث التأثير في داخل المتلقي. وقدرة إدريس تكمن في أنه لا يقف فقط عند الأغنية، ولكنه ينتقل بها من الأغنية لكي يلقى بظلالها على الواقع المعيش، ويفسر عن طريق الأغنية واقعنا. هنا يكون الفن إلى درجة كبيرة تعبيرا عن الواقع ولكن في صورة أجمل وأكثر ألقا، وليس الفن نقلا أو تسجيلا للواقع. والفن الحقيقي هو الذي يتجاوز الواقع ولا يبرر أو يرسخ للقائم الآسن الذي يجب أن ينتهي ويرحل.
"غن يا عبد الحليم". كلمة يستجير بها إدريس كي يرحل من الواقع الآسن. في غناء عبد الحليم هروب من الجحيم والدمار. هي لحظات أن تعيد الذات ترتيب نفسها كي تتمكن أن تواصل مرة أخرى. وغنى عبد الحليم. وكتب إدريس. "قد مات شهيدا يا ولدى من مات فداء للمحبوب". اصدح يا عبد الحليم وغن، فالمتعة قد بدأت تتسرب إلى نفوسنا الجافة.
عبد الحليم قوة ناعمة حكمت العرب!
الفن هو أكبر قدرة عرفها الإنسان. وهى قوة طاغية لايقف أمامها شيء، الفن هو القوة الناعمة القادرة أن تتحدى وتتصدى لكل أشكال القمع والقتل والحرب.
يقول إدريس: "غن أيها الناحل الأسمر في بدلتك البيضاء الجميلة، زنبقة من قلب طيننا البني، أعرف كم تعانى وتقاسى وكم قاسيت لتشرخ التربة وفى عناد تشق الطريق وتصعد وتتبوأ مكان النغمة جميلة العذاب في قلوب الملايين والملايين. غن يا بلدياتي. يا بن القنايات الذي استولى على القاهرة بلا جيش أو انقلاب. وحكم العواصم العربية بلا حسب أو نسب أو مخابرات، بأغنية الحب، يقولها لقلوب وألسنة رغم كثرة (كلامها) عن الحب و(استعمالها) للحب لا تحب، ويتسرب صوتك إليها هامسا، ودودا لا تجفل منه ولا تنكمش، إذ هو صوت يحرض على الحب، وحتى لو حرض على اللوعة والأسى، فهو ذلك الأسى الجميل الذي يمهد لتقبل الحب وزرع الحب، وحب الحب". ذلك هو عبد الحليم عندما يغنى، وإدريس التقط جوهر اللحظة التي يغنى فيها عبد الحليم. واعتقد أن عبد الحليم لم يكن صادقا على الإطلاق إلا عندما يقف ليغنى. فهو يغنى بكل صدق وبكل مشاعره هو ليس مؤديا بل يجسد المشاعر والأحاسيس، ولذلك بقى وهذا هو جوهر الفن الصادق والأصيل وهو الذي يجعله يبقى عبر الأجيال.
مازال عبد الحليم يغنى أو ما زلنا نسمعه. أو مازلت أنا أسمعه! وما زال لديه القدرة أن يخترق الوجدان بلا ممانعة. هكذا أرى وقد يرى البعض ذلك. قالوا عنه إنه فعل كذا وكذا وأبكى وارتبط بفلانة. كل ذلك لا يعنيني. كل الناس فيها عيوب. الكل رحل ولكن الباقي هو الذي نستمتع به ونسعد ونفرح ونحب. المهم ماذا بقى بعد الرحيل. لأن الذي يبقى دائما هو القيمة الأصيلة المؤثرة. وعبد الحليم قيمة مؤثرة في الوجدان المصري خاصة والعربي عامة.
متعة التلقي تخديرية
إدريس يطلب من عبد الحليم ألا يتوقف عن الغناء. يكتب: "غن يا عبد الحليم، فهي دقائق متعة، فعلا أحس ويحس معي الآخرون بالمتعة ليتها كانت متعة التخدير، ولكنها للأسف أو لحسن الحظ، متعة مفتوحة الأعين، مفتوحة الذاكرة، مفتوحة الوعي. أعرف أن الدماء تسيل من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب في وطننا العربي ولكن، غن يا عبد الحليم، غن فلربع قرن من الزمان أيها الناس ونحن بلا يوم راحة، نحيا في جهنم الحرب وجهنم الثورة وجهنم الانقلاب، وجهنم الحكم العرفي، وجهنم البيان رقم واحد ورقم مليون، نجوع ونموت، نمرض ونموت، نثور ونموت، ننتكس ونموت، ننتصر ونموت، نموت ونموت. غن يا عبد الحليم واقرأ لنا الفنجان يا نزار. قد مات شهيدا يا ولدى من مات فداء للمحبوب. ليتنا هذه الأنواع من الشهداء. إنما نحن في معظم الأحيان شهداء الرعونة، وشهداء أيدينا وسيوفنا، شهداء حكمنا الوطني وحكوماتنا المختلفة أو المتفقة، شهداء آلاف وملايين النوازع الصغيرة التي يحفل بها إنساننا وعالمنا العربي، شهداء الأعداء الأذكياء الذين يلعبون على الدوام ولم نلعب بهم إلا مرة. شهداء عقول من فرط رجعيتها تحجرت، وأقوال من فرط تخفيفها من معانيها نصبت أقفاصا من حديد، وقيودا، شهداء عصر (الاستقلال) نحن، في كل كفاحنا ضد الاستعمار الأجنبي بقديمه وحديثه لم نخسر جزءا من خسارات كفاحنا ضد أنفسنا وكله – ويا للغرابة – باسم الشعب وكله باسم الثورة، وكله تحت أروع وأضخم وأمجد الشعارات.
غن يا عبد الحليم، فلم يبق لنا إلا أن نسمعك. مقدورك يا ولدى أن تبقى مسجونا بين الماء وبين النار. مقدورنا أن نبقى مسجونين مخنوقين بين الدم القريب الذي تحول إلى ماء وبين نار العدو التي تحولت إلى جحيم. وبرغم جميع حرائقه، برغم جميع سوابقه وبرغم الريح، الحب سيبقى يا ولدى لحين، سيبقى يا عزيزي نزار، في أي مكان من أرضنا يبقى، في أي كوخ، وكل كوخ ساكن فيه الحزن والحقد والدم ليل نهار. صدقت فقط حين قلت مقدورك أن تمضى أبدا في بحر (الحب) بغير قلوع، وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع. أو تكون الراء قد سقطت سهوا منك وتكون تقصد بحر (الحرب). وأي حرب لا معنى لها بالمرة.
غن يا عبد الحليم، فقد استمتعت بك ساعة، وربما ملايين معي اختلسوا هذه الساعة الممتعة.
غن، فقارئتك لم ولن تقرأ أبدا فنجانا يشبه فنجانك. رأت ونجمت كثيرا ولكنها لم ولن تعرف أحزانا تشبه أحزانك. والحزن أبدا ليس علينا بغريب، إنه دمنا ولحمنا وشرابنا، نحفظه ونرعاه ونعتنقه ونحتفظ به كما نحتفظ ونقدس التراث. كل ما في الأمر يا عبد الحليم ويا نزار ويا قارئة الفنجان. أنى هذه المرة ألمح الحزن وقد أخذ سواده الفحمي يتحول إلى جمرة نار والفنجان من كثرة ما حمل فيه من بن أسود قد أخذ قاعه يثقل ليستعد للاعتدال".
وبعد. هل كتب إدريس ذلك للتعبير عما نحن فيه اليوم. ماذا يحدث في عالمنا العربي؟ أنهار الدماء التي تسيل في كل مكان بأيدي العرب وبسيوف العرب وخناجرهم وحناجرهم، نحن حقا في بحر الحرب. وكم تمنينا أن نكون في بحر الحب. انتصرت الحرب على الحب. ولكن ما زلنا نقول. وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار. الحب سيبقى يا ولدى أحلى الأقدار. صرخ عبد الحليم عندما قال ذلك، صرخ وصرخ وما زال صوته يصرخ ليعلن أن الحب سيبقى.