الإثنين 10 يونيو 2024

سما وهام وفيلمها «غني لي» .. «مرقد عنزة» .. حلم الأقليات بالبقاء

29-3-2017 | 13:34

سمية عزام - كاتبة لبنانية

  حين تتقزم أحلام الأقليات الإثنية والدينية لتغدو بمساحة "مرقد عنزة"، ويمسي الإمساك بحلم البقاء ضربا من الجنون والمكابدة، ينفتح المشهد الإنساني المأزوم على غير سؤال ونداء، ليصبح بامتداد الأرض – كل الأرض – التي أقامت فيها الجماعات البشرية وأسست تراثها الثقافي.

    ما انفك القدماء في لبنان يرددون قولا من إرثهم الشعبي: "نيال اللي عنده مرقد عنزة بلبنان". مرقد ضيق يتسع برحابته المطمئنة لقلوب تنشُد السكينة، ويبدد كل قلق وغربة. أن يردد هذا القول فرد ينتمي إلى جماعة من "الأقليات" في ساعة دِعة، يختلف دفق النغم لكلماته عما يكونه في ساعة فقد واغتراب؛ تماما كما تتفاوت درجة التأثر والحساسية عمقا وقسوة حين مشاهدة فيلم وثائقي يحكي مأساة الاقتلاع وتهميش الهوية، لدى فردين، أحدهما "أقلوي" والآخر ذو إرث ثقافي واسع الانتشار، وإن كانا ينطقان بلغة إنسانية واحدة شديدة الرهافة. كيف إذا كان الفيلم هذا يجلله شجن الغناء العراقي المتدفق نهرا جاريا أبدا بحجم الحنين، فيلم "غني لي"(1) لمخرجته ومنتجته المندائية العراقية سما وهام؟!

    ينفتح المشهد على صوت الجد الآتي من الغياب لينغلق عليه، مترائيا خلال صفحة مياه رائقة، في تراسل حواس من سقسقة ماء وإيقاع شجي لصوت الأسلاف، وتواتر العناصر من تراب / وشجر، وماء / ونهر، رمزي الخصب، وهواء/ هوى، ليغيب مشهد – عنصر - النار عن العين، بيد أنه هناك، يقبع في الخلفية، في العمق المؤسس للمأساة المروية. كأننا بها دعوة إلى الإنصات إلى دواخلنا. هل نحن على عجل من أمرنا؟! فلنتوقف ونصغِ إلى صوت الماضي، ولننظر قليلا إلى الوراء كي نستوعب الحاضر ونفهم الحياة، بل كي نستشعر حضورنا ونخلص إلى ذواتنا.

    في هذا البناء الدائري للصوت والصورة المائية للدراما الوثائقية تتمثل دائرية البناء الزمني للولادة والموت وإخصاب الحياة، وتتأكد فكرة "العود الأبدي" التي كانت جوابا للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه F.Nietzsche عن سؤال الكينونة، في رده على اليونانيين بارمنيدسParmenides وهيرقليطس Heraclitus؛ حيث يصف الأول الكينونة بأنها تكون، ويعلن الآخر بأنها تصير، فيستكمل نيتشه في رؤيته قائلا إن "الكائن كينونة وصيرورة". هو صيرورة تعود أبدا، إنه إرادة اقتدار. ويتابع بأن العود الأبدي هو القيمة التي تكثف الحياة، وتجعلها تتخطى ذاتها(2). هكذا، تخطى هذا العمل الفني محليته وخصوصيته ليخلد الشعور بأبدية اللحظة، بما مضى وما دام حيا في مقولاته، على قاعدة: "الإيغال في المحلية يفضي إلى العالمية". ما فهم العمل الفني سوى عملية مشاركة إنسانية – وجودية تتأسس على الحوار، وما يتركه من صدى يمتد إلى الآتي من الأجيال، أي على إرادة اقتدار تحفظ رسالته وتجعلها متواصلة. هذا "التواصل" هو جوهر أي عمل فني، ولب نظرية الألماني ه.ج. جادامير Gadamer في رؤيته إلى "تجلي الجميل".

    فيلم "غني لي" خير تجل لهذا الاتصال بين المعاصرين والسابقين واللاحقين، بل هو إجابة عن سؤال العودة لمخرجته المقيمة في كندا إلى جذورها الدينية، ومكانها الأول في العراق، لفهم الفكرة الروحية الكامنة وراء طقس التعميد بالمياه الجارية/ مياه النهر لدى الصابئة المندائية المغرقة في التاريخ؛ إذ إنها من أولى الديانات التوحيدية التي نشأت في بلاد ما بين النهرين، والتي كان أفرادها يتبعون النهر هربا من الحروب وعمليات الإبادة بحقهم على مر الحقب التاريخية. تعترف المندائية بآدم أول الأنبياء، وبيحيى بن زكريا خاتمتهم في كتابها المقدس "كنزا ربا" بالآرامية أو كنز الرب بالعربية.

    قد يكون هذا المقال محاولة تقص لعوامل نجاة طائفة، وصمود عقيدتها، من التلاشي والانحلال في ظل نشوء ثقافات أثبتت قوتها، وانتشار دعوات عقدية توحيدية كبرى، وقيام حضارات أقصتها وهمشت حضورها. ذلك فضلا عن عوامل داخلية تسهم في تقليص عدد المنتمين إليها، تتمثل في عدم التبشير، وتحريم حمل السلاح ولو دفاعا عن النفس، واستبعاد من لم يولد لأبوين مندائيين من الطائفة.

    تقول سما وهام إن بقاءهم "معجزة" بفضل تلاحم مجتمعهم وانغلاقه، ويشير سعد القرش إلى أن المخرجة اتخذت من صوت جدها عبر شريط التسجيل "جسرا" إلى العراق(3). هي تصورات تحيل إلى رؤية المفكر المصري سمير أمين الفذة بأن "الإنسان حين يُهدد من قوى خارجية يلجأ إلى مآويه الثقافية- الداخلية، والدين هو الأقدر على الحماية". وبمتابعة الحفر الأنطولوجي، فإن "ما ينقلنا إلى حدود الوجود.. إلى زمن الأسلاف المؤسسين للماهية الأصيلة" هو "النغم"، هذا الدخول البدئي في عمق الكينونة، هذا العنصر الذي يفتح العالم ويجعلنا في وحدة كلية منظمة. هو ذا الجسر، وها هي المعجزة: "النغم الأصيل"، وهو أعمق من أن يكون حاجة للانتماء إلى مجتمع متناغم مؤتلف، لأن الأنغام تختص بالروح وليس بالنفس بحسب رؤية مارتن هايدجر Heidegger . نغم المندائيين مياه تجري أبدا، وجسرهم صوب الحياة/ النور ليس "الرستة" (ثوب النور الأبيض للتعميد) وحسب، إنما طريق النهر "يَرْدنا" حيث يتدفق فيه نداء العود الأبدي ليربط الكل بالكل.

    أن يُفهم هذا العمل الفني في ضوء علاقة الأنا بالآخر، يعني فهم الآخر في إطار التعميمات النفسية -الإنسانية المشتركة، والانفتاح على المعاناة التاريخية للوجود الآني.

    ما برح النهر العراقي متدفقا إن تتبع مريدوه المنبع – الأصل، لكن، هل سيظل من يتعمد في مياهه الجارية مرتديا ثوب النور؟ ولئن حال المندائيين أنموذج لمعاناة الأقليات العرقية والدينية، يبقى السؤال مفتوحا عن وضع العديد من الجماعات المماثلة في غير بلد عربي، لا سيما في لبنان. فهل سيبقى "مرقد العنزة" متسعا لها؟!

____

1-  فاز فيلم "غني لي" بجائزة الفيلم العربي الوثائقي الطويل (38 دقيقة) في مهرجان الإسكندرية السينمائي الثاني والثلاثين لدول البحر المتوسط في أيلول/سبتمبر 2016، إذ يلقي الفيلم الضوء على مأساة المندائيين في العراق، بوصفهم ينتمون إلى طائفة من الأقليات، من اقتلاع وتفريغ البلد منهم في ظل الحروب الإلغائية الأخيرة؛ بإشارة من المخرجة إلى أن مطمحها كان تصوير طقس التعميد في بلدها الذي تركته طفلة، إنما لم تسعفها الظروف آخذة بنصيحة أحد الأصدقاء بعدم زيارة العراق، وهي امرأة مندائية ستتعرض لمخاطر جمة؛ فاكتفت بتصوير التعميد في كندا حيث تقيم. يتناول الفيلم إذن، قضية الهوية والانتماء ومفهوم الوطن، هذا المصطلح المراوغ والمفرغ من دلالاته المعلومة حين تتغير ملامح المكان وتتحول العادات ويرحل قاطنوه.. سما وهام رحلت لتدرس الهندسة في بيروت وفق نصيحة جدها الشاعر المسجلة في شريط يحثها فيه على التعلّم، كما أن الأم تثمّن الشعر لترفعه إلى مرتبة العقيدة. هذا ما ورثته فضلا عن حب أغاني فيروز.

2-  ملهم الملائكة: "المندائيون في إيران من الإبادة إلى تغييب الهوية". ("العرب" 9 فبراير 2017): "تبدأ أبجدية اللغة المندائية المؤلفة من 23 حرفا بحرف الألف وتختم بحرف الألف، لأن لكل نهاية بداية وتدور الأمور في حلقة دائرية، وهكذا فإن الألف المندائية ترسم بشكل دائرة".

3-  سعد القرش: "غني لي" فيلم عراقي ينجو من فخاخ الخطابة والميلودراما". ("العرب" 28 أكتوبر 2016).