الخميس 16 مايو 2024

تأنيث الفقر.. ظاهرة متنامية تلتهم مكتسبات المرأة

30-3-2017 | 11:10

رشا رمزي - باحثة مصرية

في كل مرة أمر على أحد الأسواق الشعبية أو المناطق المجاورة لأحد المصالح الحكومية يشد انتباهي البائعات. فوجود باعة جائلين للفاكهة والخضراوات ومستلزمات المنازل أصبح أمرا معتادا؛ إلا أنه من غير المعتاد زيادة أعداد البائعات، تغير أنواع البضاعة من فاكهة أو خضر أو مستلزمات المنزل منخفضة الجودة، لتشمل أكلات نصف مجهزة، أو أكلات شعبية.

   يعكس حال أولئك النسوة ما يعرف حديثا بدراسة "تأنيث الفقر" وهي ظاهرة منتشرة في جميع أنحاء العالم، لا فرق بين دول عالم أول أو ثالث فما زالت المرأة تمثل النسبة الأكبر من فقراء العالم. وتتم قياس درجة تأنيث الفقر وفق مؤشرات ثلاثة:

(1) عدد الأسر التي تعيلها امرأة.

(2) عدم المساواة داخل الأسرة والتحيز ضد النساء والفتيات في الإنفاق عليهن في التعليم والصحة والغذاء وخلافه.

(3) السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تتبعها الدولة، بما في ذلك التعديلات الهيكلية وتحولات السوق ما بعد الاشتراكية، والأنماط "الثقافية".

   منذ ثمانينيات القرن العشرين، اهتمت الدول بالدراسات حول انتشار الأسر التي تعيلها نساء مع البحث في الآثار الاجتماعية وآثار سياسات التكيف الهيكلي على النساء الذي اعتبر كعلامة على زيادة الاهتمام بما أصبح يعرف بظاهرة "تأنيث الفقر". وتزيد معدلات الفقر في العالم كله وبالتالي فإن نسب النساء الفقيرات تزيد أكثر فأكثر. وكشف تقرير للأمم المتحدة 1990 أن "عدد النساء الريفيات اللائي يعشن في فقر في البلدان النامية قد زاد بنسبة 50٪ على مدى السنوات العشرين الماضية ليصل إلى 565 مليون أسرة، منها 374 مليون أسرة في آسيا و129 مليون أسرة في الدول الأفريقية. رغم أن الفقر بين الرجال في المناطق الريفية زاد على مدى السنوات العشرين الماضية بنسبة 30٪، إلا أن الزيادة بين النساء كانت 48٪".

   وفي تسعينيات القرن العشرين، اتخذ الفقر وجها نسائيا، وبالرغم من ذلك فإن الدراسات حول تأنيث الفقر لا تزال محدودة وغير دقيقة وذلك لعدم إشراك المنظمات النسائية في عملية التشاور. وبالرغم من محدودية البيانات، فإنه ليس من الصعب تحديد الرابط بين فقر المرأة وعدم المساواة الاجتماعية القائمة، أو الحاجة إلى الاعتراف بتقاطع الطبقة بالنوع الاجتماعي في بحوث الفقر.

   وعلى الرغم من أن 15 دولة عربية من أصل 22 دولة؛ تضمنت دساتيرها صراحة المساواة ما بين الجنسين في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ إلا أن معظم الدول العربية ليس لديها قوانين تحظر مباشرة التمييز بين الجنسين مما كان له أثر كبير في تركيز الفقر بين النساء. وسيتم استعراض وضع المرأة في الدولتين العربيتين الأكثر تطورا في الحقوق والحريات من بين الدول العربية هما تونس ومصر.

تونس

   اتبعت تونس استراتيجيات تنمية مختلفة منذ الستينيات، باستخدام النمو الاقتصادي لتوسيع خيارات الناس ومحاربة الفقر في كل جوانبه كهدف ثابت ودائم أمام الدولة. علاوة على ذلك، ركزت هذه الاستراتيجيات التنموية دائما على تعزيز المساواة بين الجنسين بتأكيد المساواة في فرص التعليم في المدارس الأساسية، وتوفير الخدمات الصحية الأساسية، وإنشاء نظام الضمان الاجتماعي للجنسين. كما تم ضمان المشاركة الفعالة للمرأة في عملية التنمية من خلال سن قوانين للأحوال الشخصية منذ عام 1956 تحظر تعدد الزوجات وتنظم الطلاق لتعزيز المساواة بين الجنسين.

   أسفر هذا المنهج للتنمية البشرية في تونس عن نتائج باهرة، فمستويات الصحة تحسنت، مع تحسن الزيادة في متوسط ​​العمر المتوقع. كما تم وضع النمو السكاني تحت السيطرة بعد برنامج تنظيم الأسرة التي تم تبنيه. أصبحت نسب التعليم الابتدائي للإناث والذكور تقارب المعدلات العالمية، مع الاقتراب من القضاء على الأمية بين الأجيال الشابة. ومع ذلك، لا تزال معدلات الأمية بين الإناث أكبر من نظرائهن من الرجال؛ فوفق تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2003) فإن نسبة الأمية 41% بين النساء فوق 15 عاما، بينما يبلغ هذا المعدل 20% بين  الرجال من الفئة العمرية نفسها، هناك أيضا بواعث جدية للقلق حول حالة الفقر لدى الأسر التي تعيلها نساء والتي بلغت 34.1% في عام 2015.

    وبالرغم من ذلك، فبعد أكثر من أربعة عقود أجريت دراسات حول النساء في تونس أسفرت عن نتاج مخيبة للآمال. فقد زاد عدد أسر النساء المعيلات بين الفقراء، كما أن نسبتهن في الفقر العام تزايدت بمرور الوقت، وتضاءلت ملكية النساء، وزادت الفجوة بين دخول النساء والرجال. فبينما كانت الأسر التي تعيلها نساء هي الأقل فقرا في 1990، انقلب الوضع في 2000 لتصبح هي الأكثر فقرا من الأسر التي يعيلها رجال. وهناك ارتباط وثيق بين زيادة معدلات الفقر وارتفاع نسبة الفقراء من النساء. ويرجع السبب في ذلك إلى تراجع الدولة التونسية بدءا من عام 2000 عن استراتيجيات دعم النساء التي اتبعتها منذ الستينيات وذلك نظرا لتطبيق سياسات التكيف الهيكلي والدخول في ما يعرف باتفاقيات التجارة الحرة، مما أدى إلى تقلص دور الدولة وبالتالي زيادة عدد الفقراء حيث تكون المرأة هي المكون الرئيسي من بينهم.

   كما يعكس مؤشر مهم مدى الفجوة بين المرأة والرجل في تونس إذ إن نسبة مالكات الأرض لا تتعدى 12% على الرغم من أن مساهمة المرأة في القطاع الزراعي بلغت 58% حسب تصريح سعد الصديق وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري.

   أما على المستوى القانوني والسياسي فقد حققت المرأة في تونس مكتسبات سابقة لغيرها في بقية الدول العربية. فبينما تعاني أغلب النساء في العالم العربي التحرش تم استصدار قانون بالحبس عام لمن يضايق امرأة. كما أن نسبة مساهمة المرأة في الحياة السياسية (وتحديدا البرلمان) متقدمة على مثيلاتها في بقية الدول العربية إذ تراوحت بين 28.1-30% مما كان له أثر على النجاح في استصدار القوانين المدافعة عن النساء.

مصر

   خلال الخمسة عشر عاما الماضية، زاد الفقر من 16% إلى 26%، وتركزت النسبة الأكبر في الأقاليم وقد وثقت دراسات سوق العمل أيضا زيادة الفجوة في الأجور بين الجنسين، وخاصة في مجال التصنيع، وكذلك التمييز المهني على نطاق واسع، هذا جنبا إلى جنب مع الانخفاض المستمر في المشاركة في القوى العاملة من الإناث، سواء في القطاعات الرسمية وغير الرسمية طوال العقدين الماضيين مما أدى إلى زيادة ظاهرة "تأنيث الفقر".

    ووفقا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي؛ جاءت مصر في المرتبة الأخيرة في حقوق المرأة وفق خمسة معايير هي: المشاركة الاقتصادية والفرص الاقتصادية والسياسية والصحية والرعاية الاجتماعية، كما انخفضت نسبة الإناث العاملات في الجهاز الحكومي للدولة 50% بين عامي 1989 و2006. وفي الوقت نفسه، زادت أسعار جميع السلع بنسبة 52.5٪ (متوسط المناطق الحضرية والريفية) مرتين بين 2004/2005 و 2008/2009. بينما تراوحت معدلات الزيادة في أسعار المستهلكين في 2015/2016 ما بين 50-300% للمواد الغذائية فقط. كل ذلك عمل على زيادة أعداد النساء الرازحات تحت خط الفقر وهذا ما يفسر دخول منتجات منزلية الصنع (مثل الأطعمة نصف المجهزة) ضمن السلع المبيعة من قبل البائعات الجائلات، الأمر الذي يعني دخول فئة جديدة من السيدات دائرة الفقر، هن نساء المدن.

    ظاهرة أخرى بدأت في الانتشار في مصر في العقد الأخير، هي عمالة المرأة عبر الإنترنت والتي يصعب قياسها، لكنها مؤشر على خروج المرأة المتعلمة من سوق العمل الرسمي واتجاهها للسوق غير الرسمي مما يؤثر على المستوى المادي. فمجموع الأسر التي تعيلها نساء تزايد مع مرور الوقت، وارتفع من 14.7٪ عام 1999/2000 إلى 17.7٪ في 2012/2013. في حين أن المستوى التعليمي لأولياء الأسر من الجنسين تزايد مع مرور الوقت، إلا أن النساء المعيلات ما زلن يمثلن نسبة كبيرة من إجمالي الأميين. لكن الغريب أن نسبة النساء المعيلات من المتعلمات أصبحت في زيادة بل أصبحت ثاني أكبر نسبة 2012/2013، حيث إن نسبة مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي الرسمي 23.1% ، كما تشير الإحصاءات إلى أن معدل البطالة لدى النساء يمثل أربعة أضعاف معدلها بين الرجال مما يجبرهن على الاتجاه للاقتصاد غير الرسمي حيث تمثل نسبة مشاركة المرأة فيه 47.5%، وفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

    أما فيما يتعلق بالمشاركة السياسية للمرأة في مصر فهي متدنية بشكل ملحوظ بالرغم من إقبال النساء على ممارسة حقهن الانتخابي والتصويت. وفي عام 2009 تم تخصيص 64 مقعدا من مقاعد البرلمان للنساء لترتفع النسبة إلى 14% في برلمان عام 2010 وتم التراجع عن هذا القرار لاحقا. وكان لهذا الغياب للمرأة أثر كبير على ترسيخ الفقر بين النساء إما بتغييب قضايا المرأة من البداية أو تم تجاهل أثر السياسات الاقتصادية على النساء.

   من هنا يتضح أن على الدولة واجبا للحد من هذه الظاهرة أهمها توفير الآليات اللازمة لإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك المدنية والسياسية للمواطنين/المواطنات. من الناحية النظرية، يجب على الدولة الاستفادة من مختلف أشكال الإيرادات (على سبيل المثال، الضرائب، الإيجارات، والتعريفات الجمركية) لضمان التنمية البشرية وخاصة في القطاع النسوي، لكن حتى الآن، استعداد الدول العربية للقيام بذلك تخلف بشوط كبير عن المستوى العالمي بالرغم من أن وجود تلك الفجوة بين النساء والرجال ظاهرة منتشرة عالميا حتى في دول العالم الأول.

   ويتعين على مؤسسات الدولة كذلك أن تتحمّل مسؤوليتها في الرقابة وتطوير منظومة تغطية اجتماعية وصحية والتصدي لكلّ أشكال العمل غير القانوني والتّهرّب من توفير أدنى شروط العمل اللاّئق من حيث عدد ساعات العمل وتوفير بيئة آمنة للعاملات. كما يجب مراجعة السياسات والبرامج التنموية وتغيير المنوال الاقتصادي والاجتماعي الذي يثبت يوما بعد يوم فشله وخدمته لمصالح رأس المال ويعمل على زيادة تأنيث الفقر في الدول العربية.