بقلم – أحمد بان
هذا السؤال ورد على خاطرى وأنا أتابع جلسات ندوة نظمتها وزارة الداخلية الأربعاء الماضى ٢٩ مارس بأكاديمية الشرطة، تحت عنوان «مواجهة الفكر المتطرف».
الجلسة شهدت حضورا مميزا لعدد من قيادات الوزارة خصوصا قطاع الإعلام والاتصال برئاسة مساعد الوزير اللواء طارق عطية، وتولى الإعداد لأعمال اللجنة بتجهيزات مميزة أعضاء ومسئولو مركز بحوث الشرطة، الذراع العلمية للداخلية الذى عقد المؤتمر فى قاعاته الرئيسية
مركز بحوث الشرطة.. تم إنشاؤه بقانون رقم ١٤٩ عام ١٩٨١ كأحد كيانات أكاديمية الشرطة، للمساعدة فى إجراء البحوث العلمية والنظرية والتطبيقية، وعقد المؤتمرات والندوات فى المجالات الشرطية ووضع الحلول الملائمة للمشكلات الأمنية طبقا للأساليب العلمية الحديثة أمام متخذى القرار الأمنى، هذا إضافة إلى تشجيع الإبداع العلمى الشرطى فى مجال التأليف والترجمة والنشر.
الندوة حملت عنوانا لافتا هو مواجهة الفكر المتطرف، وتوزعت أعمالها على مدار يوم بحثى طويل شهد ثلاث جلسات حوارية حملت الأولى منها عنوان الدور الثقافى التكاملى لمؤسسات الدولة فى مواجهة التطرف، وأدارتها الإعلامية أمانى الخياط ضمت المفكر السياسى الدكتور مصطفى الفقى، والفنان الكبير والمثقف محمد صبحى، والشيخ محيى الدين عفيفى أمين عام مجمع البحوث الإسلامية.
دارت كلمة الدكتور مصطفى الفقى حول أهمية الفن فى مواجهة الفكر المتطرف، حيث عرف الفن بأنه يعنى الحياة بينما الإرهاب يعنى الموت، كما عرج على دور المعاهد الأزهرية فى نشر ثقافة التطرف، حيث استنكر غياب ضوابط صارمة فى إنشاء تلك المعاهد والرقابة على تعيين معلميها، بعد أن تحولت إلى أحد أبواب الصدقة الجارية، إلى حد إنشاء أحد الموسرين سلسلة من تلك المعاهد فى عدد من المحافظات، مؤكدا ضرورة بروز شكل من أشكال التكامل بين مؤسسات الدولة فى مكافحة الظاهرة.
خالف الفنان محمد صبحى وجهة نظر الفقى، مؤكدا أن الفن بصورته الحالية ومنتجاته المعروضة من فيلم وأغنية ومسرحية أو مسلسل، يجعله يقول إن الفن إرهاب، وأن هناك حرصا على تكريس صورة ذهنية سلبية عن الفن المصرى عبر الابتذال والتهتك، وأن تقديم المرأة فى كل الأعمال الفنية باعتبارها عاهرة عدوان وإرهاب، وأنه يتعجب من حال الدولة التى أرادت أن تأخذ بزمام المبادرة وتقدم إعلاما وفنا مختلفا، فى إشارة إلى مجموعات قنوات دى إم سى التى تمولها الدولة، حيث تورطت من وجهة نظره فى تبنى نفس أشكال الابتذال والتهتك، عبر اختيار مذيعيها وبرامجها لتتماهى مع نوع الإعلام المقدم الذى يعد أحد مظاهر المشكلة، إلى حد تخصيص ٤٠ مليون جنيه لمطربة لا تملك سوى صوتها، دون أى ثقافة أخرى تجعلها فى مقام القدوة التى ينبغى أن تظهر للناس عبر برنامج خاص.
أكد صبحى على الحاجة لإعادة الاعتبار للتعليم كقاطرة للنهضة ومقاومة ثقافة التطرف، مشيرا إلى أن حجر الزاوية فى التعليم ليس المدرسة أو المنهج، بل المعلم وأن فى الهند عرفوا مدرسة الشجرة حيث يجلس الطلاب فى حلقة حول مدرس فى ظل شجرة يتلقون التعليم، لكن هذا المعلم تم إعداده بشكل جيد، كما أشار إلى واقعة حدثت له فى الثمانينيات عندما كان فى زيارة الى الإمارات العربية المتحدة ليجد أساتذة الجامعات المصرية يدرسون لطلبة التعليم الابتدائى هناك، ناهيا أنه لا توجد خريطة ثقافية أو تنسيق بين الوزارات، مستنكرا أن يُترَك أبناؤنا لخطط ثقافية وافدة، قائلا هل من العقل أن يترك أطفالنا أمام قنوات تذيع برامج كرتون تعلم الطفل كيف يكون شاذا جنسيا أو يتزوج زميله، التطرف هنا يستدعى التطرف، ونحن بهذه الطريقة نصنع التطرف عندما نسمح باستفزاز قيم المجتمع وبناء الإنسان هو المدخل.
أما الشيخ محيى الدين العفيفى فقد دافع كالعادة عن الأزهر فى مواجهة الاتهام بان المعاهد الأزهرية لا تخضع لإشراف كافٍ، وأنها تخرج من بين خريجيها عناصر متطرفة مؤكدا أن الدين ليس حكرا على أحد متحفظا فى الحديث عن أدوار الأزهر، مؤكدا أهمية الحوار الطويل والمتعمق حول الأمر، لكن بدت الكلمة تقليدية كشأن الأزهر ومعالجته للظاهرة.
لكن الجلسة بشكل عام أكدت أهمية الإمساك بمنابع التعليم وخضوع التعليم الدينى لرقابة واعية، كما أشار الدكتور الفقى الى ظاهرة خطيرة وهى غياب العلماء الراسخين بعد عشرة أو عشرين عاما بسبب التكوين العلمى الضعيف الآن.
فى الجلسة الثانية التى حملت عنوان تجديد الخطاب الدينى والتى ضمت الدكتور ناجح إبراهيم أحد مهندسى المراجعات والمفكر المعروف، حرص الرجل على حمد دور وزارة الداخلية فى شخص اللواء أحمد رأفت وتلاميذه، الذين قدموا للوطن خدمة جليلة برعاية هذه المبادرة التى أخرجت عشرين ألفا من السجون بعد تأهيلهم وتحصينهم، عبر مراجعة جادة توفرت لها كل عوامل النجاح، مؤكدا أن تجربته تقول إن الحوار هو الحل، وليس المقاربة الأمنية التى تتوسع فى الوسائل الأمنية الخشنة كما سماها، كما وافقه اللواء فؤاد علام وقد كان اللواء أحمد رأفت أحد تلامذته كما هو معروف، حيث أكد أن الحوار مطلوب ومجدٍ حتى مع من تلوثت يده بالدماء وأنه ينطلق من تجربة عريضة فى هذا المجال.
فى الجلسة الثالثة والتى حملت عنوان مواجهة الفكر المتطرف بين الواقع والمأمول كانت تلخيصا لمجمل ما جرى خلال يوم طويل، بدأ من العاشرة صباحا وحتى السادسة مساء، وهى مبادرة لافتة من الوزارة فى هذا الوقت الحرج، الذى تخوض فيه قواتنا المسلحة مع قوات الشرطة معارك طاحنة مع شراذم الإرهاب فى سيناء وعلى امتداد الوادى والدلتا.
لكن أهم ما ورد فى هذه الندوة هو اعتراف بعض المتحدثين بأن مصر كما كانت صاحبة ريادة فى كل مجالات الحضارة، كانت صاحبة الريادة أيضا فى خلق هذا الخطر الذى انطلق من أراضيها، وأنه يجب البحث عن تيار إسلامى معتدل يتصدى للمواجهة من جهة كما يقدم صحيح الدين من جهة أخرى، وهى الحلقة المفقودة التى صنعت ريادة الداخلية فى مرحلة سابقة قادت فيها مراجعات الجماعة الإسلامية، التى قدمت للتاريخ المصرى أول مراجعة جادة لأفكار التطرف لكنها نجحت عبر مكون يبدو مهمشا الآن، وهو التيار الإسلامى المعتدل الذى لا يخضع لتوجهات السلطة ولا لأحلام الكيانات الحركية المتطرفة، هو محايد لذا يبدو مؤهلا للنجاح فى مهمته المقدسة التى تتعلق بالانتصار للنسخة الأصلية للإسلام بمضامينها السمحة المنفتحة، فضلا عن تفنيد ومواجهة الفكر المتطرف بالحجة والبرهان الناصع.
إن هذه المهمة رغم أن الداخلية قامت بها فى السابق إلا أنها كما يبدو أحجمت عن المضى نحوها تلك المرة، ربما لأن رجال أحمد رأفت وتلامذته تم تهميشهم فى القرار الشرطى، أو أن الوزارة تدرك أن كثيرا من الأمور تغيرت فى السنوات التى مرت بعد مبادرات وقف العنف، وأن نجاح هذه المهمة مرهون بأن تضلع بها مؤسسات أخرى فى الدولة مع شركاء من المجتمع المدنى، ويكفيها أنها قذفت حجرا فى مياه راكدة عبر تلك الندوة التى تؤكد أن المواجهة مع الإرهاب تبدأ فكرية، وأن الريادة هذه المرة قد لا تكون للداخلية فى العلاج لكنها تبقى لها فى الإشارة والتنبيه على أهمية تلك المواجهة وهو ما يدعم لا شك المهمة الشرطية المقدسة.