الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

الحرب حفزت الشعر فصعد إلى السطح بعد سنوات الهمود الثقافي

  • 21-4-2017 | 13:38

طباعة

رولا حسن

ولدت في طرطوس (1970)، نالت إجازة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء. لها خمسة دواوين بداية بديوانها "شتاءات قصيرة" (1997)، وصدر لها عام 2014 كتاب "فراشات السرد : قراءة في الرواية النسوية السورية.

سأل أدونيس يوما: ماذا يفعل الشعر في مدن تزدهي بجدبها؟

  بدا هذا السؤال اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، ولا سيما أن المدن أخذت تعج بالخراب، والقتل والموت. ولم يعد هذا السؤال وحيدا، بل أخذت أسئلة كثيرة تزاحمه، فماذا للشعر أن يفعل في عالم غاب عنه اليقين؟! في زمن سقطت كل الأقنعة، وتساقطت كل المطلقات، مع تساقط الإمبراطوريات. في عالم يشهد أعلى درجات التقدم العلمي، وأعلى موجات الديمقراطية، لكنه في المقابل ينتج أعنف أشكال التعصب، والإلغاء الاعتقادي، والعرقي، وأبشع أنواع التكفير، ويتفنن في أساليب الموت والتصفية، وينتج أكثر أشكال الهيمنة حداثة. ماذا يفعل الشعر؟! وقد سقط الشاعر العراف الكاهن المتنبئ. وتخلى عن مكانه لنموذج أكثر بساطة وإنسانية، وأكثر قربا من الواقع، وأكثر قدرة على ملامسته، بما لا يغيب عن الإدراك.

   فالشاعر الجديد (والجدة هنا تعني النص ولا أقصد بها جيل الشاعر) يرهص بنموذج أحَدَّ. شاعر يؤمن بالسؤال أكثر من الجواب. كما يؤمن بأن الشك علامة العافية. وأن البحث الذي يولد السؤال من السؤال هو سر الحضور المتجدد للإبداع.

   النموذج الجديد للشاعر يمزج التفاؤل بالتساؤل، مثلما يمزج الإيقاع بالإيقاع، مدركا عبر حواسه التي أصبحت نافذته الوحيدة ليتلمس العالم في زمن لا يسمح بحدية الألوان، أو المشاعر، أو حتى جذرية الحقائق. فكل ما في الحاضر لا يستجيب للشاعر إلا بوصفه سؤالا لا جواب له سوى سؤال آخر في سياق معرفي لا يعرف راحة الإجابة النهائية.

   ذلك هو الواقع الذي يواجهه الشعر حاليا في اتجاهه نحو المستقبل، وفي حلمه بالمستقبل، وهو واقع ليس فيه من يقين يفيد الشعر سوى يقين القدرة على مساءلة الحضور، الذي يعني بشكل من الأشكال مساءلة الهوية والإمكانات التي قد نتصورها لنشكل حلم المستقبل.

   هنا في هذا العرض الذي يمكن أن نسميه عرضا بانوراميا، سنمر على تجارب شعراء سوريين من تيارات مختلفة، لا يزال صوتهم الشعري واضحا، وإن كانت الأصوات الجديدة هي سيدة المشهد في الفترة الأخيرة. فمن الشاعر شوقي بغدادي وهو من الرعيل الأول في الشعر السوري، الذي نظم الشعر العمودي، وقد امتاز نصه بظلال أيديولوجية، كونه عاش زمن الأيديولوجيات التي تسعى إلى التغيير، إضافة إلى استغلاله لليوميات البسيطة، وتحويلها إلى شعر، وهو من رواد الحداثة في الشعر السوري المعاصر، مما جعل نصه عفويا من حيث اللغة والشكل والقصيدة، وفي اعتماده الكبير على الثقافة والموروث الشعري.

   إلى نزيه أبو عفش الذي تتميز تجربته ببنيتها الرثائية والسوداوية، ولغتها الخطابية العالية، أحيانا، وإن كان يكتب قصيدة النثر منذ سبعينيات القرن العشرين، لكنه لا يزال يستثمر لغة الإنشاد، ويمكن القول إن تذرعه بالنشيد هو إحدى محاولات تبجيل الخسارة لدى الإنسان العربي المهزوم، والإشارة بالعجز التام له.

   إلى منذر مصري وتقطير السرد، واستثمار طاقة كل مفردة حياتية، في موقعها الذي يمكن أن تشغله في النص. حيث يحاول مصري إعادة إنتاج القدرية كسؤال لا مهرب منه، والإجابة دوما هي إحداث المواجهة بين العادي وعاديته، عبر مرايا متقابلة يمثلها السرد.

   إلى صقر عليشي الذي يعد أحد أهم شعراء قصيدة التفعيلة السورية، ولتجربته نكهتها الخاصة، حيث نقل القصيدة إلى مكان آخر، معتمدا السخرية المرة، والنكتة الموجعة. وقد قال عنه الناقد السوري محيي الدين صبحي: إنه شاعر يقتحم المحرمات، بفكاهته وخفة دمه، وهو بارع في استخدام السخرية بكل أنواعها، بارع في إلقاء الهزل عن عواهنه، يستطيع استثمار توتر البنية اللفظية في إطلاق المكبوت، من الطاقة النفسية. إنه من أهم المساهمين في تأسيس شعر البداهة والفطنة بالعربية.

   إلى محمد عضيمة وتجربته التي تتميز بالشغب اللغوي، والنضال على الجبهة الشعرية المضادة، وهو الذي يوصف بالساموراي السوري، وقد حاول أن يتلمس مناطق جديدة، ومهملة في الشعر، وأن ينسف كل ماهو إيقاعي، مؤسسا لمتن شعري جديد في عراء اللغة، ولا تقف رؤيته للشعر المضاد عند خندق القصيدة الإيقاعية، بل يتعداها إلى قصيدة النثر، حيث يتهمها بأنها قصائد عمودية تتكئ على مطولات شعرية، وليست سوى امتدادا للغة الأسلاف. (بدهونها الميتافيزيقية وحذلقتها اللغوية) فيميل إلى الاختزال الشديد، وكتابة نص قصير، لقناعته بأن النص القصير يمكن السيطرة عليه جماليا، وهو فتح الباب واسعا للالتفات إلى العالم الهامشي.

ثقافة سورية مستقلة

 لم تتواجد قبل الحرب أي بوادر لحركة ثقافية مستقلة، فالحركة الثقافية كانت محصورة بالمنابر الحكومية، ووزارة الثقافة، وما تصدره من دوريات إضافة إلى بعض الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية، وبالرغم من كل هذا أفرزت الثقافة السورية كتّابا مهمين في الشعر، والرواية والقصة والنقد، إلا أنه لم يثمر على أرض الواقع أسوة بالحركة الثقافية المستقلة التي بدأت في مصر بعد هزيمة 1967. حيث أصدر مجموعة من المثقفين مجلة "جاليري 68"، التي استهدفت الخروج من أسر الرؤى والطرائق التقليدية في القصة والشعر، وفتحت صدرها للجيل الجديد الشاب في ذلك الوقت. تلاها مجلة "إضاءة 77" التي سعت إلى بلورة وجهة نظر جمالية وثورية في التجربة الشعرية الجديدة، وفي النصف الثاني من السبعينيات تكونت مجموعة "أصوات" الشعرية، التي اهتمت أيضا بجيل الكتابة الشعرية الجديدة، وأصدرت عددا من المجموعات الشعرية، ثم صدرت مجلة "الجراد" في بدايات االتسعينيات، واهتمت بالكتابة الجديدة.

   هذا الأمر افتقدته الأجيال الجديدة من الكتابة الشعرية في سوريا، منذ السبعينيات حتى قيام الحرب حيث بدا أن الشعر هو الظاهرة الأكثر بروزا في المشهد الثقافي السوري، وكأن الحرب أعطت لهذا الجيل ذريعة ليفتح بوابة الشعر على مصراعيه، فخرج من الأماكن المغلقة التي سجنته بها المنابر الحكومية، إلى أماكن أكثر رحابة، وحرية فظهر جيل جديد وظهرت أسماء كثيرة، روجت لها الميديا وفوضاها حيث وجدت نفسها وجمهورها في ملتقيات دمشق، التي اكتظت بها المدينة القديمة بمقاهيها التراثية، المتوزعة بين باب شرقي وباب توما وحي القيمرية. حيث تحولت هذه المقاهي إلى ملتقيات شعرية مثل (يا مال الشام) الذي كان ولا يزال يقيمه المخرج المسرحي أحمد كنعان، وقدم من خلاله أسماء شابة لا يستهان بها، وكذلك (مسا الشعر) الذي كانت تقيمه الشاعرة رولا حسن، و(أضواء المدينة) للروائي جورج حاجوج والشاعر عمر الشيخ و(نصف الكأس) للشاعر محمد خير داغستاني، وتطول القائمة.

   إلا أن الملتقى الذي كان بلا جمهور، وله مشروعه الخاص كان ملتقى "ثلاثاء شعر"، وتأتي أهميته ليس من تقديمه تجارب مهمة على مستوى قصيدة النثر، ولكن من دعمه لها لاحقا، حيث تم طبع كتب وأنطولوجيا، وهنا سأترك الحديث لمؤسس هذا الملتقى الشاعر والصحفي زيد قطريب:

   ثلاثاء شعر، هول أول لقاء ثقافي أهلي أقيم في نيسان 2013، حيث كانت الحرب تحدق بدمشق والحركة صعبة، خاصة في الشام القديمة حيث مرمى الصواريخ والقذائف.. كنا ستة شعراء قررنا إنشاء هذه الورشة الإبداعية، لأننا استشعرنا تطورات ما بدأت تعصف بالنصوص، والأفكار والعناوين بسبب الأحداث التي حركت جميع الأسئلة، ومن جانب آخر كان الشعر ملاذا أخيرا لنا في الحرب، بعد أن حسمنا أمرنا بالبقاء في البلاد، وعدم الهجرة والتحول إلى لاجئين.. في هذا الفضاء كان ثلاثاء شعر وأثناء مسيرته كانت تتولد الأفكار، والمشاريع، فطبعنا كتابين شعريين الأول بعنوان (كريستال طائش) ويضم الشعراء: معاذ زمريق، أحمد علاء الدين، أحمد سبيناتي، جوزيف حداد، أحمد ودعة، مناهل السهوي، أحمد كرحوت.. والكتاب الثاني (قاع النهر ليس رطبا) وضم الشاعرة مناهل السهوي والشاعر أحمد كرحوت.

   صدر للقاء ثلاثاء شعر أنطولوجيا باللغة الألمانية، والعربية، بعنوان (بورتريه للموت) ترجمها د. سرجون كرم وسيباستيان هاينه، ضمت الأنطولوجيا تسعة أسماء من ثلاثاء شعر وقد صدر في ألمانيا وهو يدرس في جامعة بون.

   وبدأنا نعد طقوسا لجلساتنا، التي تناولت شؤونا نقدية، وإبداعية وفكرية مختلفة.. في هذا الجو أيضا خرجنا بأفكار حول تطوير النص السوري، ورأينا أن المعجم اللغوي لا بد أن يتغير بشكل جذري، لأن اللغة المستخدمة اليوم تواطأت في حلف مدمر، جمعها مع النص الديني والنص الاستبدادي، وانطلاقا من هذه القاعدة كتبنا نصوصا أضفنا إليها عبارات وألفاظا باللغة الآرامية والسريانية مع الحرص على وضع شرح المفردات في نهاية النص.. المشروع كان كبيرا ومازال يمشي ببطء ليستكمل مبرراته الفكرية والانفعالية.

   في ثلاثاء شعر بقينا نراهن على الشعر فقط، ولم نجمع أي فن آخر، ولم نقم بدعوة الجمهور للحضور على اعتبار أننا ورشة عمل إبداعية، ولسنا أمسية شعرية.

الموجة الجديدة في الشعر السوري

  ست سنوات من الحرب كانت أشبه بمرجل يغلي تحت نار قوية، فبعد سنين من الهمود الثقافي كانت الحرب التي لم ترحم أحدا محفزا قويا ليصعد الشعر إلى السطح، ويكون هو الظاهرة الأبرز في المشهد الثقافي السوري الراهن.

   والحال كذلك لم يعد بالإمكان تجاهل جيل بأكمله يحط رحاله على أرض الشعر، فهناك تجارب جديدة سنعرض هنا ما أمكن منها، أثبتت قدرتها على إنشاء نص قادر على تجاوز النص الأسبق، نص لا يعنى ببلاغة اللغة، بقدر ما هو مصر على إنشاء لغة خاصة، ومنطق خاص يفرضه النص وعلاقاته.

   حاول هؤلاء الشعراء خلق محطات لغوية جديدة، تنظم نمو النص وتفضل العلاقات اللغوية ذات المدلولات المادية الملموسة، لنقف أمام لغة معادية للتحليق، والإسماع الصوتي العالي، محبذة لليومي والمادي حيث تتلاشى المطلقات ويتوازن الدال والمدلول.

   فالنص الجديد لم يعد بمنأى عما يحدث حوله، يتشظى كما العالم. نص مشحون بالفقد والخسارة والخذلان، تفوح منه رائحة الحرب والبيوت المهجورة، نحن هنا أمام شعرية جديدة أخذت تتبلور، ولم يعد بالإمكان أن ندير ظهرنا لها. شعرية من أهم مميزاتها إعادة الاعتبار لشعرية السرد، واعتماد ظواهر سردية جديدة في السرد الشعري. لعل أهمها الصورة السردية التي تعتمد على حكائية السرد، مما يجعل القصيدة الجديدة مناوئة لاستقرار الأجناس، وثباتها ووضوح حدودها، فنحن هنا أمام الانتقال من شعرية الجملة إلى شعرية النص، فلم تعد اللغة شعرية في حد ذاتها، بل أصبحت الشعرية مبنية في جسد النص كله، لا عبر توثين اللغة ورفعها إلى المطلق ولا عبر الانزياح عن المرجع، فقط بل من خلال التركيز على شعرية السرد المتكئة على الاختيار بين الممكنات، واللعب مع الزمن السردي والاستبعاد والمفارقة والتوقيع...إلخ.

   هنا نحن أمام شعرية جديدة، تبدأ من نسبية معرفية، لا تتحقق إلا في ممارسة التجربة الحية نفسها، وتنطلق من رفض السطوة المرجعية سابقة الوجود على النص، وإخضاعه لحساسية شعرية مختلفة، تفرض في النتيجة نصا طازجا وبريا.

   الشعر الجديد في سوريا يحوطه فضاء شاسع من الحرية، ظاهرة تتسع لنماذج عديدة ولا يمكن اختصارها في نموذج واحد أو شاعر واحد، فليست هناك قوانين يمكن للشعر الجديد أن يجعل منها قلاعا في مواجهة خصومه، وليس هناك تاريخ إبداعي يهب الأمان الكاذب أو الحقيقي لشعراء وشاعرات هذه الموجة، وحدهم يقفون في العراء، لا يحميهم سوى نصوصهم، يواجهون فيها عالما متخما بالخراب، ولا تزال ترشح من نصوصهم بقايا الألفة والحنين.

الحرب امرأة شاعرة

  وحدها المرأة السورية في ظل الحرب احتكرت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة صورها باكية متفجعة وحدها ظهرت في كل وسائل الإعلام العربي والغربي. وكأنها نالت حصة كل نساء الأرض من الحزن والخسارة والفقد. ظهرت بقسوة وبحزن يفيض عن حاجته الممسوسة إلى صور الدمع والعويل وشق الثياب وكثير الإثارة والشجن. لقد جرت الحرب المرأة السورية وبقسوة إلى مستنقع الخسارة القذر. فلم نعد نراها إلا منكوبة أو مفجوعة من مجزرة إلى أخرى، ومن تشييع إلى آخر تقبع هناك في أسودها تدفن فيه أحلامها ومستقبلها أفراحها وذكرياتها.

   عملت الحرب وبجد على ضرب وجود المرأة الاجتماعي والثقافي والأخلاقي لأنها تعرف أنه حينما تفعل ذلك تضرب البنية التحتية الاجتماعية، تماما على التوازي فعلت ذلك مع المدن حينما ضربت بُناها التحتية بقصد ضرب كينونة المجتمع.

   أكثر تعقيدا والتباسا لطالما كانت علاقة المرأة بالرجل في مجتمعاتنا العربية علاقة ملتبسة. ولطالما حاولت عبر التاريخ رأب صدع، تلك العلاقة التاريخية بينها وبينه ولطالما كانت العلاقة تلك من علاقة نساء الغابات برجالها. لكن على المستوى الثقافي ظهرت امرأة أخرى خرجت من التباس العلاقة بين الرجل والمرأة وخرجت من وراء أسوار القمع التي سجنتها طويلا فردت شعرها للريح وتنسمت هواء جديدا وإن كان مشبعا برائحة البارود، لكن عطرها طغى على رائحة الموت وصوتها علا على أصوات القذائف والتفجير وقالت ما أرادت قوله منذ أمد طويل فقدمت نصا متميزا، ودخلت التجريب من أوسع أبوابه والنماذج المختارة في هذا الملف كفيلة بإيضاح ذلك.

    الاكثر قراءة