الخميس 20 يونيو 2024

"شغل عفاريت" عرض مضاد لفلسفة المسرح

22-4-2017 | 10:13

د. وفاء كمالو - ناقدة مصرية

    تعلن تجربة العرض المسرحى "شغل عفاريت" عن موت الفكر، وانهيار آلياته، وعدمية ثقافته، واندفاعه المخيف نحو الجهل والردة والتغييب. وأمام هذا النفى الفاضح لمفهوم جدلية الفن مع تيارات الواقع، وموجات مده وجذره، نصبح فى مواجهة ساخنة مع تلك الرؤى الأحادية المغلقة، التى تلقى بصفعاتها على وجه كل التيارات التقدمية الباحثة عن الحياة، وتصادر أحلام البقاء وامتلاك الذات. وتتجاوز طبيعة الحقائق المتشابكة، لتضيف مزيدا من التشويه لواقعنا المثقل بالخلل والتناقضات والعذاب.

   العرض الذي قدمه مسرح الطليعة بالقاهرة اركتب مؤلفه ومخرجه "مناضل عنتر" إثما مسرحيا لا يغتفر، عبر اتجاهه إلى تزييف مفاهيم القهر والفقر والكبت والاستبداد، ليمنحها شرعية مقدسة، ومثالية أسطورية مطلقة؛ لنصبح أمام مفارقة ثقافية ساخنة تكشف عن دلالات التردي، ومؤشرات السقوط، ووقائع تغييب الفكر، واغتيال الفن فهل نحن بحاجة إلى مزيد من الهزائم والانكسارات؟ وهل تحتمل هذه اللحظات الفارقة مزيدا من الظلام والجهالة والفرار إلى المجهول؟ وأين دور الفن وفلسفته ورؤاه الباحثة عن الوعى والحرية، والرفض والتمرد والعصيان؟ وكيف يرى المناضل "عنتر" الوجود؟ وما رؤيته للمسرح باعتباره بحثا عن الحياة وممارسة فعلية للحرية والديمقراطية؟ وما الفرق بين هذا الخطاب المسرحى المسكون بالمراوغة الفكرية، والإفلاس الجمالى، وبين خطاب فضائيات "بير السلم" المشبوهة، التى تقدم برامج الدجل والسحر والشعوذة، والمس والربط والجن والعفاريت؛ لتأتى النتيجة واحدة فى الحالتين، حيث التشويش والتضليل والتسطيح، والتكريس للجهل والردة والتطرف والإرهاب، واستلاب الروح وقمع الجسد.

    من المؤكد أن فلسفة عرض "شغل عفاريت" تتنافى تماما مع فلسفة المسرح بشكل عام؛ لذلك كان من المفزع أن نراه على مسرح الطليعة، فالوقائع تؤكد أن الناس فى بلادنا معذبون، محاصرون بالضغوط والتناقضات، بالفقر والقهر والفساد. بالبذاءة التى توحشت فى وجودنا وبالردة التى تدفع مجتمعنا إلى هاوية السقوط؛ لذلك، فهم بحاجة إلى إبداع حى متجدد، يأتى كفعل احتجاج دائم ضد كل أشكال الزيف والغياب، يواجه هوس الاستلاب والاختزال، ويمنحنا حرية مواجهة العالم. ولكن كان من المؤسف أن يتخلى مسرح الطليعة عن دوره، ويعجز عن فتح مسارات للضوء والشمس؛ ليضيف إلى الواقع ظلاما على ظلام.

   لم يكتب مناضل عنتر، نصا بالمعنى العلمى والفنى والنقدى المتعارف عليه لذلك يصبح من العسير أن نعتبره مؤلفا مسرحيا، فقد تبنى بعض الأفكار والرؤى الغيبية الأسطورية، الساكنة خلف أبواب الظلام، ودخل عالم الشياطين والجن والعفاريت؛ ليمنح المتلقى ذلك الخدر العقلى الصاخب، ويكرس لموجات من الفكر الثمل، عبر صياغته الجسدية لجلسة علاج امرأة شابة أصابها مس الجان. لذلك، يصبح من الطبيعى أن يؤكد المناضل على أن اسم العرض هو "شغل عفاريت" وبين قوسين: (الجلسة)، ذلك الاسم الذى يأتى كتكثيف بليغ لطبيعة ما يقدمه مسرح الطليعة للجمهور، من خلال وجهة نظر مستسلمة تماما، ومتفقة بقوة مع تفاصيل التغييب، دون أى محاولة يفرضها ضمير الفن، لإيقاظ الوهج العقلى وإدانة ممارسات الضلال.

    هكذا تختفى قيم الجمال، وأصول الدراما، وتهدر مفاهيم الإبداع وطقوس الحرية، ويغيب عن المؤلف والمخرج مناضل عنتر، أن المسرح لم يكن أبدا نقلا حرفيا لبؤس الواقع وبشاعته، ولم يكن قراءة عقيمة لظواهر السقوط، لكنه مسار صعب نحو تجاوز الكائن، والبحث عما يجب أن يكون، ويبدو أن المناضل لم يقرأ ما قاله "برتولد بريخت" عن أن مجرد التفكير فى كتابة مسرحية أو إخراجها، هو إعادة لتنظيم الدولة، واشتباك مع الفكر والأيديولوجيا وقضايا الناس، لم يدرك أن الفن تجربة فريدة، لا تقبل الفصل أو التجزيء، تتضافر كل مفرداتها فى نسيج هارمونى، ويظل أثرها باقيا يخدش الأعماق، ويثير الوعى.

   يمتلك مناضل عنتر موهبة واضحة فى مجال الأداء الحركى الراقص، ولغة الجسد. ويتعامل بحرفية عالية مع منظومة الضوء، كما أنه يجيد السيطرة على خشبة المسرح. ولكن هذا التميز لا يعفيه من المسئولية الكاملة عن كل مفردات تجربته. فهو مسئول عن ضعف مستواها الفنى والفكرى، وعن ثغراتها وعيوبها، وعن مستوى أداء معظم فريق العمل الذى يفتقد لأبجديات التمثيل والإلقاء، وجماليات فنون الأداء. وفى هذا السياق، يدخل المخرج عالم الشيطان والجان، ونتعرف رؤاهم وصراعهم الطويل فى الحرب ضد الإنسان، فالوجود كله كان ملكا لهم، خلقهم الله كما يشير العرض، وأسكنهم الأرض قبل آدم، وكانوا ملوكها، يتعبدون ويأكلون ويشربون، ويعملون، مخلوقين من نار، اعتادوا سفك الدماء كروتين يومى، وتباعدوا عن الخير. فأرسل الله لهم الملائكة ودقت طبول الحرب، وكانت الهزيمة الكبرى، فهربوا إلى الكهوف البعيدة، وجاء آدم إلى الأرض، وزاد نسله، وامتلك الإنسان كل شيء، وصار الجان يبحثون عن مجال يعيشون فيه بعيدا عن البشر، ويظل التساؤل الأساسى، الذى يعذبهم هو لماذا خلق الله آدم؟ ولماذا ورث أبناؤه الأرض، رغم ضعفهم وانتمائهم إلى الطين؟

    تتضح أبعاد الصراع وملامحه، من خلال حكاية المرأة الممسوسة بالسحر والجان، والتى يعالجها شيخ وقسيس، بالقرآن والإنجيل، فى محاولة لطردهم من جسد الفتاة. وفى هذا السياق يأخذنا منظور الإخراج إلى الكشف عما يحدث مع تلك الأنثى الجميلة، التى تنظر دائما إلى المرآة، تبحث عمن يمتلك مفاتيح الجنة، ومن يدفعها إلى الجحيم، يناجيها الشيطان، فتحس بوهج النار فى رقبتها وصدرها، وأسفل بطنها كلمات العشق تعذبها. والضوء وأنفاس الرغبة تهزمها، فتستجيب للشر الشهى، ويمتلك الشيطان روحها وجسدها، وعقلها. ورغم اعتراضى على كل هذه التفاصيل، التى يمكن قراءتها وفقا لمنظور مغاير، إلا أن "المناضل" ينجح فى تكريس القهر والغياب، عبر الضوء والحركة المدهشة، والكوريوجرافيا الغريبة اللاهثة، التى تتوافق مع عالم الجن النارى.

    تدور الأحداث فى إطار تشكيل سينوغرافى شديد البساطة، يموج بالضبابية والرمادية الغائمة، الخلفيات السوداء للقاعة تشتبك مع درجات السلالم الخمس؛ على اليمين واليسار، في إحالة إلى العالم السفلى الذى يسكنه الجان والعفاريت، وعبر الدقات العالية والإيقاعات الساخنة، ورائحة البخور وخطوط الحركة، والملابس الحمراء التقليدية للشياطين والجان، يدخل المتلقى إلى بدايات الجلسة، حيث الشابة الجميلة المعذبة بمس الجان ترقص حولها، والشيخ والقسيس يقرآن السور والآيات، ويتحدثان عن الخطايا والآثام والصراع مع مخلوقات النار.

    تمتد موجات الضوء الأحمر، وتتضافر مع الكوريوجرافيا الرشيقة المتميزة تابوهات الجنس والكبت والغموض تظل حاضرة بقوة فى قلب المشاهد، والتفاصيل تكشف مسارات خضوع الفتاة للسحر وهمس الجان، بينما يدخل الشيخ والقسيس إلى ذلك العالم عبر حوارات عن الإيمان واليقين، وعن تواصلهم مع كل من يعمل بين العالمين من السحرة والعرافين.

    وفى هذا السياق تتصاعد صراعات العبث والسقوط، ونرى كبير الشياطين وهو يدخل عالم الأنثى الجميلة، يمنحها شكا عنيدا فى كل من حولها، يلامسها ويعانقها، ويثير موجات رغباتها، فتندفع إليه بكل الوهج والأشواق تلك الحالة التى تتبلور عبر جماليات الموسيقى والحركة ولغة الجسد ودلالات الوصول إلى سحر الاكتمال، وجموح الرغبة. وتمتد الحوارات المراهقة الضعيفة، وتتقاطع مع المنطقة الذهبية، التي يجيدها "مناضل عنتر"، حيث الضوء الدرامى اللافت، والخطوط المبتكرة، ولغة الجسد المدهشة. وتتقاطع آيات القرآن والإنجيل، ويظل "كبير الشياطين" يرقص، مؤكدا أن الغواية هي هدفه، والتوبة: لا تعرف طريقا إليه. بينما الفتاة تذوب فيه عشقا، يقتربان، فتهمس له: أحبك. فيبادلها الهوى ثم يستلب حياتها وتموت.

   ينتهي العرض ويصبح علينا أن نؤكد أن هذه التجربة، هي وصمة عار في جبين المسرح المصري، وعلى المسرحيين أن يشتبكوا مع قضايا الناس، وعفاريت الواقع، بعيدا عن جلسات السحر والمس، وصراعات الجان.

    شارك في المسرحية مجموعة من الشباب: طه خليفة، فهد إبراهيم، ميدو عبدالقادر، زينب غريب، إيمان غنيم، حسن نوح، مصطفى عبد الهادي، مارينا مجدي، أحمد عادل، إيناس عزت، كريم فراج، محمد علي، وكريم نوار. والديكور لعمرو الأشرف. وتصميم الأداء الحركي لعمرو البطريق. والملابس لمروة عودة.