الأحد 16 يونيو 2024

«شريط الحزن الأبيض».. سيرة ذاتية في نسق روائي

22-4-2017 | 10:27

د. رمضان متولي - كاتب مصرى

إذا كان هدف التاريخ البحث وراء الحقيقة وتمحيصها وجلاء غموضها، فإن فن السيرة يهدف إلى البحث عن الحقيقة فى حياة الكائن البشرى، وما تحفل به من معان إنسانية ومن أسرار عبقرية استقاء من ظروف حياته ومن الأحداث التي واجهها فى محيطه والأثر الذي تركه. ومن هذه الناحية فإن شكلها الأدبي أقرب إلى التأثير الدرامي لما تحفل به من انفعالات إنسانية وعواطف كامنة فى أعماق النفس البشرية والتي تحرص الواقعة التاريخية على التجرد منها كحدث واقع أو كفعل واقع وإن كانت من صنع الإنسان نفسه؛ فالكاتب وهو يقص خبر الحدث التاريخي يحرص على تجريده من كل ما يبين عن الحدث من أسرار النفس الإنسانية لتبقى عارية إلا من الحقيقة وحدها، إذا إنها المسؤولة عن احتفاء رداء التاريخ.

ولهذا فإن رواية السيرة الذاتية من المنجزات القليلة فى المدونة الروائية العربية والمصرية. وتنتمي رواية "شريط الحزن الأبيض" إلى ما يعرف برواية السيرة الذاتية التي تتناول سيرة واحد من أقطاب اليسار المصري انخرط في حركة النضال الوطني ضد المحتل البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، إذ حل بطلها الكاتب المصري شريف حتاتة ضيفا دائما على زنازين السجون المصرية، حتى بعد أن هرب سرا من محبسه منفيا إلى باريس للتزود بالعلم والمعرفة، تحركت بذرة الثورة الكامنة في عروقه واشترك مع الثوار الفرنسيين الأحرار المطالبين بالحرية والاستقلال للشعب الجزائري، فسجن وعذب من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي البغيض.

    حرص الكاتب المجيد لحرفته وصنعته على اختيار عنوان للرواية يحمل جين تشكله سواء من خلال ثورة الحدث أم من طبيعة الشخصية المتحركة أم من خلال مركزية الرؤية التي تنتظم حركية السرد، بحيث يشكل مرتكزا دلاليا قد يوحى بمضمون روايته ويبسط ظلاله عليها كجزء من استراتيجية النص. وهذا ما فعله شريف حتاته، فقد اكتشف أثناء قيام الممرضة بتمشيط شعر أمه أثناء مرضها بالمستشفى خصلة من الشعر ذات لون مغاير لباقى لون شعر أمه الذى كثيرا ما تغزل فيه وفى جماله وسحره وما يرسله من إيماءات وإيحاءات ذات تأثيرات جمالية فأطلق عليها "شريط الحزن الأبيض" الذى عبر به عن مكنون نفسه وما يعتريها من حزن شديد على قرب النهاية. واختار هذا العنوان لروايته ليوحي لقارئه بمدى حبه وحزنه على موت أمه.

    أمضى البطل صباه بين أحضان عروس البحر الأبيض المتوسط، ويحدثنا بحميمية آثرة عن تلك الفترة فيقول: "سبحت فى مياهها الزرقاء صبيا حتى صخرة ميامي، وسرت على كورنيشها فى الشتاء يسقط عليّ الرذاذ المالح ويبلل وجهي وثيابى، وتذوقت فيها قبلة الحب الأولى وأخطاء الشفاه المرتعشة"، ولكن رياح الإسكندرية تأتى بما لا تشتهى سفنها، فقد تحركت بذور الوطنية وحب الحرية - الذى أنزله من بطن أمه وهو ابن سبع - وراح يعلن كرهه للمحتل الغاصب ويطالب مع أبناء جيله بالاستقلال؛ مما حمل السلطات الحاكمة على إلقائه فى زنزانة بسجن الحضرة، وكان فى التاسعة عشرة عام 1938. ثم ينتقل بالحديث عن بلوغه الثلاثين وتشوقه إلى طعم الحرية ونور العلم فى أوروبا وقيام أصدقائه زملاء النضال الوطنى بتهريبه سرا من بورسعيد على إحدى بواخر الشحن إلى باريس ومواصلته الدراسة بها وحرصه على الاختفاء عن أعين السلطة الحاكمة، خاصة بعد أن تحركت بذرة الكفاح والنضال الكامنة فى شرايينه وراح يشترك مع أحرار فرنسا فى مظاهرات غاضبة مطالبة باستقلال الجزائر، فى عهد الجبهة الشعبية التى أقيمت بين الاشتراكيين والشيوعيين ووصلت إلى الحكم فى فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فسجنته السلطة وعذبته، ولما أطلق سراحه غاص بكليته فى الحياة الباريسية إبان الخمسينيات من القرن الماضي، ويفيض فى سرد ألوان من تجاربه وحياته فى باريس واصفا مركزا على ما يغذى العقل والوجدان بمختلف أنواع الفن والأغاني الرومانسية من الفرق الأوروبية القادمة إلى باريس، ويعترف بذهابه إلى حي البغاء، ولكنه يمر على هذه التجربة مرور الكرام، كما يتوسع في الحديث عن قيامه بعدة رحلات إلى بلدان أوروبا، ويقدم وصفا مستفيضا عن الحياة فى مدريد وبرشلونة، ومدى حرصه على حضور مؤتمرات الموسيقى والأدب وخاصة عن موسيقى موزار، وتكوينه علاقات نسائية ذات طابع إنساني مع بعض جميلات أوروبا.

   كما يفيض فى الحديث عن فترة لها تأثيرها المباشر فى تشكيل شخصيته والتى قضاها مع والدته ووالده الذى كان يعمل فى سفارة مصر بإيطاليا ومن هنا تمكنه من إتقان اللغة الإيطالية، وسماع الموسيقى وكافة الفنون الإيطالية وخاصة الأغاني الشعبية، إضافة إلى ما كان يسمعه من موسيقى وأغان كانت توفرها له خادمته ماريا، ويخص بالذكر العناية الفائقة التي كانت والدته تخصه بها، فقد كانت كامرأة أوروبية مولعة بالموسيقى وأغاني الأوبرا حتى أنه لم تكن تفوتها فرصة للاستماع إلى أوبرا فيردى أو بوتشينى أو غيرهما. كما يسجل عودته للإقامة بلندن بعد بلوغه الخمسين، وتجوله بين متاحفها ودور الفن والمسرح والموسيقى، ثم ينتقل بالحديث عن استقرار الأسرة بالقاهرة، وتنقلهم للإقامة بأحيائها المختلفة، وخاصة إقامته مع العائلة الإقطاعية التي ينتمي إليها والده ثم انفراده مع أمه بسكنى شقة بحي الزمالك ولا ينسى ما قام به أبوه سرا من الزواج بأخرى، إضافة إلى استغراقه فى لعب الميسر ومعرفة أمه بذلك ودخولها فى الإسلام حتى تنال حقوقها الشرعية، ثم مرضها وانتقالها إلى الرفيق الأعلى.

   ومن محطات سيرته، يأتى حديثه عن أبيه باهتا خاليا من المشاعر والعواطف التى ينبغى أن تكون بين الابن وأبيه فلم يقل "أبي" دائما وإنما يقول "الرجل"، في حديثه عن أمه تبدو قوة عاطفة البنوة: "عندما أستعيد صورتها فى روما أراها أجمل مما كانت فى أى مرحلة أخرى من مراحل حياتها، أراها شابة مشرقة الوجه، تطل سعادة زرقاء وهاجة من عينيها". وعن علاقته بأبيه يقول: "أثناء إقامتنا فى روما هناك صورة تطفو على سطح الأحداث صورة وحيدة وخاطفة يظهر فيها الرجل كأنه ظل، قبل ذلك مختفيا فى مكان ما يخرج فجأة من خلف الغيوم يبدو لى غريبا، فقد كان مقيما معنا فى الشقة طوال مدة السنة ونصف السنة التى قضيناها فى المدينة، كما كان يعولنا ويصرف على إقامته من مرتب عمله كملحق زراعي بالسفارة المصرية رغم مغامراته الغرامية وولعه بلعب الميسر". ثم يضيف "كانت تربطني به علاقة من المفترض أنها كانت من أوثق العلاقات في حياتي، أما في الواقع فمن الواضح أن هذه العلاقة بقيت غامضة لأني لم أكن أراه إلا نادرا طوال السنين التي جمعتني به".

   الرواية سيرة ذاتية كتبت فى نسق روائي فني وهى سرد لحياة كاتبها الذي يرى ثمة نقاط تقاطع والتقاء كثيرة بين حياته وبين الخلفية التي سارت هذه الحياة فى إطارها، وقد تم له ذلك بالاستعانة بلغة أدبية راقية تقوم على صور بلاغية صيغت بعناية فائقة مبتعدة عن التقرير والتحذلق والتعقيد، فجاءت لغة سردية محاذرة من السقوط في مباشرة لغة التقارير، كما أنه لذكاء المؤلف وإجادته لصنعته بَعُدْت تماما عن أن تكون لغة تسجيلية على نحو ما نراه فى لغة بعض المؤرخين.

    نجح شريف حتاتة فى تقديم صورة حية للحياة كملامح لسيرة ذاتية بشكل فنى متكامل نستدعي معه ما قاله هنرى جيمس عن الرواية عامة: "الرواية صورة للحياة، وإن الحياة لا يمكن أن تظهر على أحسن وجوهها فى العمل الفنى إن لم يتوفر لها الشكل الفني المتكامل، وإن مهمة الفن هي إبراز الحياة فى الصورة الفنية فى أجمل وأتم صورها". وقد أحال المؤلف الهم الخاص إلى هم عام، وهو أحد ضرورات الفن، وذلك بتقديمه صورة عن الحياة السياسية فى مصر.