السبت 18 مايو 2024

العلاقة الملتبسة بين الأزهر والسلطة السياسية

22-4-2017 | 10:28

بسمة عبد العزيز - طبيبة وكاتبة مصرية

المشهد الأخير

  صحا الناس ذات صباح على ملامح معركة وشيكة أو هي واقعة بالفعل بين السلطتين الكبريين؛ السياسية والدينية. لم يكن الأمر طبيعيا بالمرة؛ لا لأن عدم اتفاق السلطتين أمر غير وارد الحدوث، بل لأن الصراع يكون في العادة مكتوما، مخفيا تحت الأسطح البراقة، فيما ترتسم الابتسامات الخادعة على الوجوه. دعا رأس السلطة السياسية إلى عدم الاعتراف بوقوع الطلاق الشفوي في تصريح ارتجالي مدهش، فرفضت مشيخة الأزهر الاعتراف بها وعزفت عن إسباغ الأسانيد الشرعية عليها، واحتدمت الأمور فناور شيخ الأزهر مُستخدِما حيلة المناداة بالديمقراطية، معتبرا أن الهجوم خير وسيلة للدفاع.

   لم تبدُ تلك الحِيلة مقنعة؛ أن يلوح شيخ الأزهر بمسألة الديمقراطية، طالبا من النظام الالتفات إليها وإلى معاناة الناس اليومية، بدلا من التطرق إلى أحاديث الزواج والطلاق التي تنظمها الشريعة، لم تبدُ الحيلة مقنعة إذ أن كثيرا من المواقف السابقة أثبتت أن أحوال المواطنين تقع في ذيل قائمة اهتمامات المشيخة أو ربما لا تقع فيها مطلقا، يؤكد هذا أن شيخ الأزهر لم يلبث أن تناسى ما قاله، وغض البصر عن المعاناة والديمقراطية في الأيام التالية بعدما هدأت الأمور، وسكتت السلطة السياسية عن المسألة الشائكة التي طرقتها والتي عدت من صميم اختصاصات المشيخة. يعني هذا أن المبادرة المحمودة والدعوة إلى إيلاء الجماهير الاهتمام الذي تستحقه والديمقراطية التي طال انتظارها، لم تكن أبدا مبادرة أو دعوة حقيقية، بل مجرد رد فعل لفعل أوجع المشيخة وهدد مساحة نفوذها: الدين. هكذا يمكن القول بأن ما دعا شيخ الأزهر إلى التلويح بمسائل سياسية هو ما سبق وقامت به السلطة السياسية من تلويح بالتدخل في مسائل دينية. ربما كانت المبادرة منطقية على المستوى النظريّ لكنها لم تنطل عمليا على المتابعين لمشهد ليّ الأذرع، والمعتادين على مثل هذه المناورات.

المشاهد الأولى

   العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية هي علاقة يمكن وصفها بأنها علاقة احتياج متبادل وتوجس متبادل أيضا. تمتلئ بالألغام وتنقصها الشفافية ويعوزها الانضباط المفترض، على الأقل في سُلطة تدعي الحياد وتنزه نفسها عن صراعات السلطة وتنسب لمواقفها أخلاقية مثالية مُستمَدَّة من الدين؛ أي مما هو مقدس عند القسم الأعظم من الجماهير.

   ينبع احتياج السلطتين كل منهما للأخرى من حقيقة امتلاكهما؛ الساسة ورجال الدين، لثلة من الأدوات المتباينة في مظهرها، المشتركة جوهريا في قدرتها على توجيه المواطنين وإخضاعهم. الساسة التابعون لمؤسسة الحكم يملكون سلطات تشريعية وتنفيذية ورجال الدين يملكون سلطة الشريعة والفقه والتراث الديني العريض. أما التوجس فينبثق من كون كل فريق منهما ينتقي الأداة الصالحة وقتيا وظرفيا لتحقيق أغراضه وقد تتعارض الأدوات والوسائل أو تتناغم، بل وربما تنتج عنها آثار جانبية لا يرضى عنها فريق، والحال إذن فيه تحفز وترقب وحذر، فإن اتفقا والتزم كل منهما بحدوده لا يتعداها إلى مساحة الآخر، استتبت بينهما الأمور ولاحا في حال الوفاق والانسجام ووقعت الجماهير فريسة لاتحادهما، أما إذا اغتر طرف بقوته وغزا الحدود المقابلة، ظهرت حال الصراع على السطح فلاحا متعاديين متناحرين بينهما جذب وشدّ، ويتواصل الأمر إلى أن يرخي أحدهما أو كلاهما الحبل من جانبه ويتنازل كل طرف عن بعض عسفه لتعود المياه إلى مجاريها. العداء السافر لا يستمر وخلاف الرؤيا الذي يظهر بعض الأحيان على السطح لا يدوم، أو يعاد دفنه وإخفاؤه فلا غنى عن اكتمال آيات السلطة وأوجهها.

   يشي التناقض الداخلي في مواقف الأزهر بأن ثمة ما يسوء وبأن ثمة عوامل وشروطا حاكمة، لها الغلبة بمعزل عن فضاءات الدين؛ تمثل السياسة بالطبع الشرط أو العامل الرئيس فالحفاظ على مكانة المؤسسة الدينية الرسمية عند السلطة الحاكمة يزن في غالبية الأحيان بأكثر مما تزن المبادئ الدينية الكبرى والخطوط الأخلاقية العريضة، وحين يتحدث المرء عن مسألة التناقض الموقفي لا يفكر كثيرا كي يجد الأمثلة والنماذج إذ هي حاضرة وجلية، إنما تمر مرور الكرام لفرط ما وقعت واعتاد الناس عليها. يمكن بقليل من الانتباه طرح علامات استفهام ضخمة أمام موقف الأزهر من مسألة الإيذاء الجسدي الجسيم الذي يصل أحيانا إلى حد القتل، فمن ناحية تصدر عن الأزهر تصريحات وبيانات تندد بأعمال العنف التي تطال أفرادا من الشرطة أو المؤسسة العسكرية، ومن الناحية الأخرى لا يصدر عنه إلا صمت تام فيما يتعلق بالعنف الذي تمارسه هاتان المؤسستان بانتظام تجاه المواطنين. السؤال هو لماذا؟ وإجابته المنطقية هي أن الدين لم يعد المرجعية الوحيدة للأزهر في مواقفه وإلا امتدت الإدانة إلى الأطراف الجانية جميعها.

   ختاما؛ ما كان الأزهر في يوم من الأيام بمنأى عن حسابات السلطة، وما كان بمعزل عن المساومات والمناورات والحيل والألاعيب التي تمارسها جماعات الحكم طمعا في تكريس نفوذها والاحتفاظ بمقاعدها لأطول فترة ممكنة أو حتى تنقضي الحاجة من ورائها، وما صار اليوم إلا تابعا من أتباع الأنظمة السياسية المتعاقبة، يواليها ما حفظت له منطقة نفوذه سالمة متحققة، ويعاندها ما جارت على سلطته وذاته وامتيازاته التي اكتسبها ورسخها على مر السنين.

    الاكثر قراءة