السبت 18 مايو 2024

الناقد الجاد سمير فريد .. صاحب الرؤية العميقة والكتابة السلسة

23-4-2017 | 10:25

كتب : د. حسن عطية

ليس من قبيل المبالغة المقترنة دوما بحديث الحزن عن القامات التى ترحل عن دنيانا ، القول بأننا قبل "سمير فريد" وجيله لم نكن نعرف نقدا سينمائيا بالمعنى العلمى الدقيق لمصطلح (النقد السينمائي) بل هى حقيقة تاريخية ، فكل من سبقوه وسبقوا جيله كانت علاقتهم بالنقد واهية ، وكانت كتابتهم تتراوح بين المديح والهجاء ومغازلة النجوم ، عبر عرض سريع لـ (قصة) الفيلم ، والبحث عن (رسائله) الظاهرة ، واهتمام مبالغ به بممثلي الفيلم المتعرضين له ، لكن لا حديث عن رؤية مخرجه وبنائه الدرامي للفيلم وجمالياته ، وتقنيات مدير تصويره وصائغ مونتاجه ، ولا أى حديث بالمرة عن قيمة الصورة ودلالاتها الفكرية .

سبق "سمير فريد" أبناء جيله ، حتى ممن وفدوا إلي الحياة قبله بسنوات مثل "سامى السلامونى" و"رءوف توفيق" ، ومهد لجيله من النقاد المتميزين ومن تتلمذوا على أيديهم سبل التعامل مع الفيلم السينمائى باعتباره عملا دراميا رائقا ، ينتمى لهذا النوع الخاص الذى يجمع تحت مظلته المسرح والإذاعة والتليفزيون إلى جانب السينما ، وبالتأكد كان لقسم النقد المسرحي الذى درس فيه "سمير فريد" بالمعهد العالي للفنون المسرحي ، وتخرج فيه عام 1965 مجتازا اختباراته بجدارة وحاصلا على تقدير امتياز عن مشروع تخرجه النقدي (دلالات الصمت فى مسرحية صمويل بيكيت فى انتظار جودو) ، كان له دور مهم فى تأسيس وعيه النقدى للفيلم السينمائى ، وإدراكه لقيمة اللغات غير الكلامية مثل: الصمت فى المسرح ، والصورة فى السينما ، دعمه بقراءات عميقة فى الأنواع الأدبية المختلفة ، كما أكد د. "جابر عصفور" فى تقديمه لكتاب "سمير فريد" (أدباء العالم والسينما) "ان هذه القراءات دعمت "رؤاه النقدية ، وأكسبتها عمقا لا يكف عن التجدد مع المتابعة الدءوب لكل ما يحدث فى السينما على امتداد العالم" (أدباء العالم - 2008- ص11) ، وهى قراءات ممتدة من قبل ما يلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية ، وحتى رحيله عن عالمنا ، قراءات لم يكف لحظة عن الاستفادة منها فى قراءته للفيلم السينمائي ، الذى أخلص له ، فانفتحت الشاشة أمامه على آفاق لا محدودة ، فلم يعد الفيلم كما هو عند من لم تدركه حرفة النقد الجاد مجرد (قصة ومناظر) تعبر عن لحظات عابرة تمر بالواقع المعيش ، بل صار عالما فسيحا يحمل الماضى والحاضر والمستقبل معا ، ولذا صارت الواقعية لديه مدانة إذا اقتصرت على مجرد نقل نفايات الواقع وسفالته على الشاشة كما يظن بعض المتطفلين على عالم السينما ، وكم كان مقالا قديما له ، أتذكره اليوم ، نشره عام 1967 بجريدة الجمهورية ، التى عمل بها فور تخرجه فى المعهد ، كان حادا وصريحا وهو ينتقد فيلم "سيد عيسي" (جفت الأمطار) وحمل عنوان (أيتها الواقعية كم من الجرائم ترتكب باسمك) لعدم وعى صناع الفيلم ، أن الواقعية لا تعنى نقل الواقع كما هو والتمسك بأهداب البطل الإيجابي ، بل إعادة صياغة الواقع فى بناء درامي يتضمن رؤية تنويرية لوعى الجمهور تدفعه لإدراك الخلل القائم فى واقعه ، فيعمل على تغييره .

وقبل رحيله عنا كتب بزاويته الشهيرة (صوت وصورة) بجريدة (المصرى اليوم) داعيا "السينمائيين الأحرار فى مصر ، أو بالأحرى صناع السينما المستقلة ، إلى أن يحملوا كاميراتهم الفوتوغرافية والسينمائية ويذهبوا إلى العريش وإلى الإسماعيلية ، حيث ذهبت مائة وثلاثين أسرة مسيحية من العريش ، ويصنعوا الأفلام عما حدث ويحدث له" ، لم تكن دعوته هذه تعنى نقل الواقع فى أفلام (تسجيلية) توثق الواقع عبر شهادات المواطنين المسيحيين الذين واجهوا الموت فى العريش وأجبروا على الفرار منها ، وإنما أيضا لتكون مادة لصياغة أفلام (روائية) ترصد ما حدث وتعيد بناءه فى أفلام قادرة على العيش عبر الزمن ومخاطبة عقل الإنسان ووجدانه فى أزمنة مختلفة ، وهو ما تجلي فى مشاركته عقب نكسة 67 فى تكوين (جماعة السينما الجديدة) مع "رأفت الميهي" و"محمد راضي" و"سامي السلاموني" و"فتحي فرج" وأيضا "على عبد الخالق" الذى قدموا معه أول أفلامه (أغنية على الممر) بالمشاركة فى الإنتاج مع مؤسسة السينما ، التى تم اغتيالها أوائل السبعينيات ، وأعاد الفيلم الذى كتبه "على سالم" كنص مسرحي ، تصوره لفصيلة على طريق الموت أثناء النكسة ، وتمسكهم حتى الرمق الأخير بموقعهم حتى لا يمر العدو الصهيونى منه .

درامية السينما

أسس "سمير فريد" رؤيته للسينما وعلاقتها بالواقع منذ تلك السنوات العصيبة التى مرت بجيلنا ، لم ييأس لحظة من قدرة هذا الشعب على المواجهة والتصدى للهزيمة بقوة إرادته ، ولم يغترب لحظة عن واقعه ويدين شعبه متهما إياه بالفهلوة كما فعلت شريحة من المثقفين وقتها ، وعبرت عن رأيها المتعالي فى أحد أعداد مجلة (الفكر المعاصر) حينذاك ، وراح "سمير فريد" يطور رؤيته هذه خلال سبعينيات القرن الماضى ، ويوثق علاقته برفيقيه المقربين والمتفقين معه فى الرؤية "كمال رمزى" الذى تخرج بعده بثلاث سنوات فقط ، بنفس قسم (النقد المسرحي) بالمعهد العالي للفنون المسرحية ، وإن بدأ الكتابة النقدية تقريبا فى نفس عام عمل "سمير فريد" متسلحا بإدراك كبير بقيمة الفيلم الدرامية والفكرية ، وحاملا وجدانا إنسانيا يتخطى به حدود الواقع الظاهرة ، و"على أبو شادى" القادم من قسم التاريخ بكلية الآداب ، والمعمق لرؤيته النقدية ربطا لعلاقة اللحظة الراهنة بالتاريخ ، ودراسة أكاديمية بالمعهد العالي للنقد الفني لجنس الدراما أواسط السبعينيات .

منذ منتصف ستينيات القرن الماضى و"سمير فريد" يتابع بدأب حركة السينمائيين المصريين والعرب والدوليين ، وراح طول الوقت يعمق من رؤيته النقدية لواقعية السينما ، مانحا توجهات مبدعي سينما الثمانينيات مثل "خيرى بشارة" و"عاطف الطيب" اسم (الواقعية الجديدة) ، وهو مسمى يتجاوز ما تعارف عليه من موجة (السينما الإيطالية الجديدة) فى أربعينيات القرن الماضي ، وأفلام فرسانها "روسللينى" و"دي سيكا" و"فيسكونتى" ، المستهدفة تصوير حياة الطبقات الدنيا فى الشوارع والبيوت المفتوحة ، بصورة أقرب للسينما التسجيلية ، إلى مفهوم (الواقعية الجديدة) الذى بشر به "روجيه جارودى" فى كتابه المهم (واقعية بلا ضفاف) ، الذى ترجمة "حليم طوسون" ترجمة واعية ونشر لأول مرة عام 1975 ، والتى أسست الواقعية على الانطلاق من الواقع وإليه ، بغض النظر عن الأسلوب الذى يكتب به الشعر حتى ولو بدا غامضا مثل قصائد "سان جون بيرس" أو الرواية التى تبدو كابوسية مثل أعمال "كافكا" أو ترسم به لوحات كتكعيبيات "بيكاسو" ، ولذا احتفي "سمير فريد" بفيلم (المومياء) لشادى عبد السلام ، وقدمه عام 1970 فى فينسيا بإشادة كبيرة بجمالياته التى لم تخف عنده واقعيته ، بنفس القدر الذى احتفي فيه بأفلام "توفيق صالح" التحريضية ، منطلقا من رؤيته النقدية التى ترى "أن العبودية للواقع فى كافة الفنون لا تقل عن العبودية للاستعمار" (الانسان المصرى على الشاشة ، سمير مع آخرين 1986 ، ص209) .

وضوح الرؤية

هذا الوعى بالواقع والواقعية أدى بناقدنا الكبير إلى إدخال الإنسان المبدع عنصرا أساسا وفاعلا بين الكاميرا السينمائية والواقع الذى يعبر عنه ، فالسينمائى لا ينقل الواقع أبدا كما هو ، وإلا فقد مهنيته ودوره كمثقف يؤثر أو ينبغي أن يؤثر بفيلمه على وعى جمهوره ، وحتى فى السينما التسجيلية ، فهو لا يسجل ما يحدث فى الواقع إلا من خلال عينه وزوايا تصويره وتحديده لمن يتحرك فى بؤرة عدسته ومن سيغيبه خارج الكادر ، كما أن كم الصور الملتقطة عن الواقع لابد وأن تبنى داخل فيلم له بنيته الدرامية ، حتى مع هذه السينما التسجيلية التى يتصور معها البعض أنها مجرد تقرير خبرى عن الواقع ، وقد صاغ "سمير فريد" رؤيته النقدية للواقع ، والمؤسسة على قاعدة درامية ، وعقل متحرر من كافة قيود الرقابة وأساليبها المختلفة ، صاغها فى مقالات صحفية تعد نموذجا لكيفية النقد غير الجارح ، والكتابة غير المتقعرة التى تغرق فى المصطلحات الأكاديمية ، مصرا على الكتابة الواضحة الواعية التى تحمل رؤيته كاملة لقرائه دون إلغاز .

إنه بالفعل الناقد الجاد عميق الرؤية ، سلسل الكتابة ، المخلص لحرفة النقد ، والمدرك بأن الناقد قيمته فى أن يظل ناقدا ، وليس ناقدا وحرفا أخرى ، وبأن على المثقف ألا ينعزل عن مجتمعه ، بل عليه أن يتفاعل معه ، ويشاكسه ، ويعمل على التدخل فى حركته من خلال المشاركة بالرأى والعمل فى مؤسساته المختلفة ، فالمجتمع لن يتغير بمجرد أن ننقده ، والسينما لن تتقدم بمجرد أن نشاهده فرحا بها أو سخطا عليها ، بل لابد وأن نشارك فى دفعها للأمام بالإدارة أو بالاستشارة ، لذا لم يكف "سمير فريد" لحظة عن إبداء الرأى وتقديم النصيحة وومنح ثقافته وخبراته لمن يلجأ إليه .. إنه المثقف الفاعل فى المجتمع .. النموذج الفذ للناقد الممسك بجمرات الجمر .

    الاكثر قراءة