الأحد 23 يونيو 2024

سيرة عرب أقدمين «الهلالية» قصة الصراع على مملكة بني زيري في القيروان

فن11-10-2020 | 18:54

السيرة الهلالية سيرة شعبية، تعد الأشهر في صعيد مصر، إلى جوار "الزير سالم" و"سيرة الظاهر بيبرس"، يؤديها شعراء الربابة الشعبيون، ومن أشهرهم في صعيد مصر علي جرمون (قنا) وهو أول شاعر للسيرة الهلالية، وجابر أبو حسين ( سوهاج )، وسيد الضوي (قنا)، وعزالدين نصر الدين (سوهاج)، وعبد الباسط أبو نوح (سوهاج)، وشوقي القناوي (قنا)، والنادي عثمان (الأقصر)، ومحمد اليمني (قنا)، ومحمد عزت (سوهاج).


كما أن هناك شعراء آخرين للسيرة الهلالية في الوجه البحري من مصر، وشعراء للسيرة في تونس في تشاد ودول الشمال الإفريقي. 


وعلى وحدة أحداث السيرة فإن تناول تلك الأحداث يختلف من شاعر إلى شاعر، بحسب اهتمام الشاعر، وبحسب جمهور مستمعيه، فمنهم من يضع أبا زيد في الصدارة من سيرته، ومنهم من ينتصر لدياب ابن غانم. ومنهم من يعلي من شأن الزناتي خليفة (ابن باديس)، ومنهم من يجعل الهلاليين أصحاب حق في مطالبهم، وخصوصا بعد مشاركته في مقتلة عظيمة لمتشييعي آل البيت، ومنهم من يتتبع أصل بني هلال ومضاربهم قبل التغريبة، ومنهم من يتتبع مضاربهم وأماكن تمركزهم في تونس بعد تمام الهجرة.


وفي ضوء هذا التباين الواسع بين شاعر وشاعر، والاختلاف في الأحداث بين رواية وأخرى يأتي جهد ودور شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي أخذ على كاهله تتبع مرويات السيرة لدى أكثر من شاعر من أبرزهم سيد الضوي، ثم جابر أبو حسين بعد وفاة الأول، والاستماع إلى مرويات شعراء آخرين من الوجهين القبلي والبحري، وبعض رواتها في تونس، ليصل إلى نوع من الضبط لرواية للسيرة يمكننا أن نعدها نسخة الأبنودي من تلك السيرة التي تصل أحيانا إلى مليون بيت شعري وأكثر.


عندما تولى المعز بن باديس ولاية القيروان، وكان عمره سبعة أعوام -وقيل ثمانية- خلفا لوالده باديس بن منصور بن بُلقين، كان رابع خلفاء الدولة الزيرية في المغرب الأوسط التي استقرت عاصمتها في القيروان. وكان المعز -الذي تولى خلافته تحت حكم الدولة العبيدية (الفاطمية)- في رعاية معلمه ومؤدبه أبو الحسن بن أبي الرجال الشيباني، وهو وزيره الذي استماله إلى المذهب المالكي، في مقابل الدولة الفاطمية التي تعتنق المذهب الشيعي الإسماعيلي، ما أوقع الخلاف بين الدولتين الزيرية (الصنهاجية) في القيروان والفاطمية في القاهرة.


وكان مبدأ الأمر أن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله منح المعز بن باديس حاكم إفريقيا عام 435 هـ لقب "شرف الدولة"، ولكن بدلا من أن ينحاز المعز بعد هذه المنحة إلى الخليفة الفاطمي، نادى باتباع مذهب الإمام مالك، وخطب في المساجد للخليفة العباسي القائم بأمر الله، واعترف له الأخير باستقلال المغرب تحت إمرته ما جعل المستنصر بالله يبعث إليه ويتهدده في رسالة بدأها بقوله: هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء.


وجاء في معرض رد ابن باديس على المستنصر: إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك المغرب قبل أن يتملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم، ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم.


وفي الوقت الذي كابدت فيه الدولة الفاطمية في مصر حالا من الضعف بعد أن بلغت تمامها، بسبب من مؤامرات الوزراء وصراعات الحكم والتدخل السافر للسيدة رصد والدة المستنصر في اختيار الساسة والوزراء، اتخذ ابن باديس خطوة أخرى في العداوة بين الدولة الزيرية والدولة الفاطمية، عندما شن حملة واسعة لتتبع الشيعة في تونس والتنكيل بهم وقتلهم، الأمر الذي لم يكن في وسع المستنصر رده بالحرب المباشرة، فشرع في تنفيذ خطة وزيره أبو محمد اليازوري بتحريض قبائل نجد على الزحف على تونس.


وقد كان بنو هلال وبنو سليم ومن معهم من القبائل يقيمون في المنطقة الممتدة بين الطائف ومكة، وبين المدينة ونجد، وشاركوا في الفتوحات العربية الإسلامية، إلا أنهم احتفظوا بثقلهم وطابعهم البدوي في الجزيرة العربية حتى تاريخ هجرتهم 440 هـ. 


وانتشرت هذه القبائل القيسية منذ عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك  في كل من الشام والعراق والجزيرة ومصر، حيث قامت المجموعات القيسية باضطرابات متكررة ولا سيما إبان حكم الدولتين العباسية والفاطمية، مما دفع ببعض الخلفاء إلى مراقبتها ومقاومتها.


 وكانت تلك القبائل تقوم بعمليات إغارة من حين لآخر، ولا سيما بني سليم الذين ذكرهم ابن خلدون بقوله: "ربما كانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء بأطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، وربما أغارت بنو سليم على الحج أيام الموسم في مكة والزيارة بالمدينة، ولقد بلغ الحذر والتخوف من هذه القبائل درجة جعلت الخليفة المنصور يوصي ولده وخليفته المهدي على ألا يستعين برجل من بني سليم ولا يقربه إليه".


ولما كان الفاطميون قد تغلبوا على قبائل بني هلال وبني سليم بعد عدائها لهم؛ فنقلوها إلى صعيد مصر أول مرة، فقد بدت خطة الوزير اليازوري ذات وجاهة لدى المستنصر، فهو من جهة سوف يتخلص من مشاكسات تلك القبائل وغاراتهم المتكررة، ومن جهة أخرى سيضرب بهم ابن باديس، الذي ترجع أصوله إلى صنهاجة، وينسبه المؤرخون إلى قبائل زناتة الشهيرة في المغرب، ولذا لقبوه بـ"الحليفة الزناتي" أو "الزناتي خليفة" كما ورد في تغريبة بني هلال.


وعلى ذلك فقد قامت خطة اليازوري على محورين، أولهما تسهيل عبور قبائل بني هلال وبني سليم الذين ضربهم الجفاف من نجد إلى تونس، مرورا بصعيد مصر، والثاني مد القبائل المهاجرة بمن استقر منهم في الصعيد بالفعل للمشاركة في تلك الهجرة العربية الكبيرة الأحدث من نوعها (الأقرب إلى عصرنا)، وهي الهجرة التي قامت عليها واحدة من أشهر السير الشعبية المعروفة في عصرنا الحديث "ملحمة بني هلال" أو هي "تغريبة بني هلال – سيرة عرب أقدمين".


والسيرة الهلالية  ملحمة طويلة تصف هجرة بني هلال، وتمتد لتشمل تغريبة بني هلال وخروجهم من ديارهم في عالية نجد إلى تونس. وهي السيرة الأقرب إلى ذاكرة الناس، والأكثر رسوخًا في الذاكرة الجمعية. وتبلغ نحو مليون بيت شعر. وإن أضفى عليها الخيال الشعبي ثوبًا فضفاضًا باعد بين الأحداث وبين واقعها، وبالغ في رسم الشخصيات.


ومن السيرة الهلالية تتفرع قصص كثيرة مثل قصة الأمير أبو زيد الهلالي، وقصص أخته شيحة المشهورة بالدهاء والاحتيال، وسيرة الأمير ذياب بن غانم الهلالي، وقصة زهرة ومرعي. وغيرها من السير المتراصة التي تشكل في مجموعها ما يعرف بسيرة بني هلال.

أما أبرز أبطال سيرة بني هلال فهم:


• الأمير أبو زيد الهلالي، أمير بني هلال، وهو: سلامة (بركات) بن رزق بن نائل من بني شعيثة بن الهزم بن رؤيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الهلالي العامري الهوازني.


• ذياب بن غانم: وهو ذياب بن غانم الزغبي الهلالي العامري الهوازني أمير الزغبيين وأحد أمراء بني هلال وأحد أشهر فرسانهم وشعرائهم وعاش في نفس العصر مع أبي زيد الهلالي والأمير الحسن بن سرحان الهلالي.


• الجازية الهلالية: كانت الجازية الهلالية من الفاعلين الأساسيين في تغريبة بني هلال المشهورة. قيل إنها احتكرت ثلث المشورة في مجلس الشورى لقومها ومجلس حربهم نظرا لرجاحة عقلها وحسن تدبيرها وصواب المشورة والحكمة .  


من أجل قبيلتها بني هلال تركت زوجها "شكر الهاشمي" صاحب مكة الذي كانت تحبه، ولا ترضى برجل غيره، والذي أنجبت منه ولدًا اسمه محمد، ولم يغلبها على هذه العاطفة الخاصة إلا العاطفة العامة تجاه قبيلتها؛ والتي تستوجب سفرها معهم إلى تونس لحاجتهم إلى مشورتها وتحميسا لهم على النصر؛ ولذا فارقت زوجها الذي آثرت وولدها الذي أحبت، وفارقت رغد العيش معه إلى جفوة الحياة القاسية التي تقوم على النقلة والحرب.


كما تضم السيرة عددا آخر من الأبطال من بينهم حسن بن سرحان المعروف بـ (أبي علي) الملقب بالسلطان، والقاضي بدير بن فايد، والخضرة الشريفة، أم أبي زيد الهلالي، وغيرهم.


وعلى ما واجهته نسخة الأبنودي من سيرة بني هلال من معارضة وانتقاد من قبل الكثيرين المهتمين بالدراسات الشعبية والمتخصصين في فروعها، فإن الجهد الكبير الذي بذله الأبنودي في ضبط نسخته منها لا يمكن إنكاره، خاصة وأنه، من جهة، حرص على تتبع وقائع السيرة ومراجعتها وفق الوقائع المنضبطة في التاريخ الرسمي، وأنه، من الجهة الثانية، بذل وحده ما لا تبذله مؤسسات ومجامع للتراث الشعبي، من تتبع لروايات السيرة، واستماع إلى أبرز شعرائها، ومناقشتهم في اختلاف الروايات، ومراجعتهم في ضبط الأحداث والتفاصيل المتنوعة التي توردها، فضلا عن كون نسخة السيرة بتوقيع الأبنودي كانت أول محاولة من نوعها لحفظ تلك السيرة من الضياع برحيل آخر "المضروبين" بها من شعراء العصر الشفاهي القديم.


إن حيثية الدفوع التي عارضت "هلالية الأبنودي" لا تسقط جهده العلمي والبدني في تتبع تلك السيرة وتوثيقها، وإن القصور عن التمام هو أصل كل جهد بشري، الذي يظل خطوة في طريق تضحك من طرف خفي لأول قدم عبدتها.


وقديما قال الأبنودي: يكفينا شرف المحاولة.