السبت 1 يونيو 2024

الهلال.. فى مدينة الشمس

فن11-10-2020 | 21:38

حين شدنى الحنين إليها.. واعدتها بلقاء ما كنت أخلفه حيث قدر الرحمن لى العودة فتوقف قطار عمرى على بابها..مدينة الشمس، طيبة، مدينة النور، مدينة المائة باب، مدينة الصولجان..مدينة الحضارات التى ضربت بجذورها أعماق التاريخ، شاهدة على عظمة المصرى الأول، الذى سما بعلومه وفنونه منذ آلاف السنين، الجامعة المفتوحة لتاريخ الإنسانية. 


( أيونو ـ شمع) مدينة الشمس الجنوبية، تمييزا لها عن مدينة الشمس الشمالية

( عين شمس حاليا ). 


( واست ) الصولجان..علامة الحكم الملكى، تعبيرا عن مدى السلطة التى كانت تتمتع بها. 

( نيوت ) المدينة. 


( أبت الثنائية) قسمى المدينة اللذان كانا يضمان معبد الكرنك شمالا ومعبد الأقصر جنوبا . 


( نو ـ آمون ) الاسم الذى ذكرت به فى التوراة، ويعنى مدينة آمون.


عاصمة مصر التى حكمت الدنيا1350 عاماً متتالية( من 2100 إلى 750 قبل الميلاد ) وحتى بداية الأسرة السادسة، حين انتقلت العاصمة إلى منف فى الشمال.


 ( مدينة المائة باب ).. كما قال عنها الشاعر اليونانى هوميروس فى النشيد التاسع من الإلياذة.." هناك فى طيبة المصرية حيث تلمع أكوام الذهب، طيبة ذات المائة باب، حيث يمر فى مشية عسكرية، أربعمائة من الرجال بخيلهم ومركباتهم، من كل باب من أبوابها الضخمة".


( الأقصر)..كما سميت بعد الفتح الإسلامى..لكثرة قصورها ومعابدها. 


تنسمت نسيمها، وعانقت حضارتها، ومسحت وجه نيلها وغرفت بيدى لأرتوى من عذوبته؛ جبتها شرقا وغربا، سيرا على الأقدام تحديا لحرارة شمس صيفها؛ كل خطوة أثر ينطق بعظمتها، مخزن حضارة مصر التى لم تبح بسرها بعد..وأراها لن تبوح به إلا للممخلصين من أبنائها.


تضم بين جناحيها الشرقى والغربى، أروع تراث البشرية، فى أعظم متاحف العالم المفتوحة. 


البر الشرقى..(مدينة الأحياء )


حيث ميلاد الشمس مصدر الحياة والنماء، رأيت أعظم كنوز الحضارة الإنسانية، وأبدع فنون العمارة الفرعونية، فى المعابد الدينية، وقصور الملوك، وبيوت العامة.


معبد الأقصر


كنت فى مدخله قبل أن تولد الشمس، أقف أمام الصرح الذى شيده الملك رمسيس الثانى، ملت إلى أحد التمثالين الضخمين اللذان يمثلانه جالساً، وأمامهما مسلة، وزنها 230 طن، وأثرا لأخرى الفريدة  التى هجرت قصرا لتزين ميدان الكونكورد بباريس رغم غربتها؛ كانت تغطى قمتهما مادة الإلكتروم ( خليط من الذهب والفضة معا) مما يعطيهما بريقا تحت أشعة الشمس، كأنهما عمودا إنارة؛ ( هذه المادة سرقت مع ما سرق إلى الخارج ).


شيد معبد الأقصر فى عهد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، كمركز عبادة للعديد من الديانات فى العصور الفرعونية المتعاقبة..وحتى العصر المسيحى، والعصر الإسلامى.


شيد لعبادة آمون رع وزوجته موت وابنهما خونسو(إله القمر)، وهم الذين أطلق عليهم لقب الثالوث الطيبى (ثالوث طيبة).


وكان "آمون رع" يحتفل بعيد زفافه إلى زوجته موت، مرة كل عام.. فينتقل موكبه من معبد الكرنك بطريق النيل إلى معبد الأقصر. 


وقفت فى فناء رمسيس الثانى، الذى يحوطه من ثلاثة جوانب، صفين من الأعمدة على هيئة حزمة البردى المدعم، وفى الجزء الشمالى الشرقى مسجد "أبو الحجاج"، وعلمت أن باقى أجزاء المعبد شيدها أمنحوتب الثالث، بدأ بقاعة الأعمدة الضخمة ذات الأربعة عشر عموداً مقسمة إلى صفين وصولا للفناء الكبير المفتوح الذى يحيط به من ثلاث جوانب صفان من الأعمدة – ثم إلى بهو الأعمدة الذى يضم32 عموداً – وفى غرفة القارب المقدس شاهدت كيف استطاع الإسكندر الأكبر أن يشيد مقصورة صغيرة له تحمل اسمه داخل مقصورة  أمنحوتب الثالث.

وخارج القاعة الرئيسية مررت بالبحيرة المقدسة التى كانت تستخدم للتنقية.


واتخذت طريق الكباش..سيرا على الأقدام ثلاثة كيلو مترات، رأيت آثاره تئن تحت وطأة الإهمال، فتملكنى الألم إلى أن وصلت..


معابد الكرنك


أكبر معابد مصر القديمة وأعظمها، وربما أكبر معابد العالم؛ سجلّ أمين لتاريخ وحضارات منطقة المشرق العربى القديم وما جاورها.


به المعبد الرئيس للإله آمون، أعظم دور العبادة فى التاريخ؛ استمرت أعمال البناء فيه لمدة 1500عام، فكان كل ملك من الملوك يحاول جعل معبده الأكثر روعة ليتميز به عن سابقيه، لذلك تحول إلى بانوراما تاريخية تُظهر مراحل تطور الفنّ المصرى القديم والهندسة المعمارية الفريدة.


أحيط بسور من اللبن على هيئة مستطيل طوله 550م، وعرضه 480م، وسمكه 12م، به ثمانى بوابات، يبلغ مجموع مساحته63 فدانا.. حوالى 3 كيلو مترمربع.


سمى بهذا بعد الفتح الإسلامى، ويعنى( الحصن أو المكان الحصين)، يضم العديد من المعابد التى لا نظير لها..تجاوزت الصرح الأول الذى يرجع إلى الملك نختبو "الأسرة 30" إلى الفناء الكبير، وقفت على اليمين أمام ثالث مقصورة لثالوث طيبة من عهد سيتى الثانى، ثم انحرفت يسارا حيث معبد رمسيس الثالث، فبقايا الصرح الثانى، يليه صالة الأعمدة الكبرى التى تحتوى على134 عمود تتميز بارتفاعها عن باقى الأعمدة، ثم إلى بقايا الصرح الثالث حيث تقف أمامه مسلة تحتمس الأول، ومنه إلى بقايا الصرح الرابع تتقدمه مسلة حتشبسوت، ثم بقايا الصرح الخامس ومنه إلى قدس الأقداس، وفى النهاية وقفت فى الفناء الذى يرجع إلى عهد الدولة الوسطى، ومنه إلى صالة الاحتفالات الضخمة ذات الأعمدة.. والتى ترجع إلى عهد تحتمس الثالث.

لم يمهلنى شغافى راحة قصيرة خوفا من رواح النهار، فانطلقت إلى..


البر الغربى "مدينة الأموات"


حيث تموت الشمس، مودعة الحياة فى مدار أبدى، لترقد فى سلام؛ وحيث المقابر والمعابد الجنائزية.

طريق النيل..الذى لم يتغير طعمه أو لونه.. ولم يفتر عطاؤه منذ أن فطر، رأيته فى قريتى حين يتحول من صديق حميم إلى عدو غادر فى عز الرضا، نروح فى المساء نغنى للحصاد ونغدو فى الصباح لنجده قد أخذ كل شىء، ساعتها يصبح عدوا قاهرا، كابوسا مزعجا.. يداهمنا كل عام، نراه فى أحلامنا إذا غضب يحاصر أبناءنا، الخوف والحزن والألم يعتصرون قلوبنا.. رغم ذلك لا نكرهه؛ الحياة فى رحابه.. فرح وترح.. سعادة غامرة.. وغضب جامح، إذا فرح أعطى.. وإذا غضب أخذ، الحياة فى حضرته إما عذبة.. أو سوداء بلون مائه، فالماء أساس لونه أسودا.. عرفناها من تاريخه الممتد وعمره الطويل.. بطول تاريخ الأرض.. رغم ذلك لا يشيخ أبدا ، يعطى بلا حساب.. ويأخذ دون استئذان، الصديق الصدوق.. والمعشوق الأول لكل أبناء قريتى.. كنت أكثرهم حبا له.. وأكثرهم قصصا وحكاية معه، لقاءات متعددة.. وأحاديث عذبة، حينما كنت أخلو إليه.. أبوح له بمكنون صدرى.. وأحكى له عن أحلامى.. وأمانى.. وأقرأ له ما حفظت من الآيات.. فيتفاعل معى ويغمرنى بنسماته الرطبة فى الحر الشديد.. وكثيرا ما كان يغرينى فى لحظات هدوئه بالارتماء بأحضانه.. حينما أرى ابتسامته العذبة الصافية.. أتجرد من الدنيا وأرتمى بحضنه ساعات طويلة.. لا يملنى ولا أمله.. أحاول اكتشاف الغموض الذى يعتريه عند الغضب.. وسر الخلود الذى لم يعط لغيره؛ أراه نقيا ومتوترا وقلقا.. أتجنبه ساعات الغضب.. لأن غضبه مرتبط بالموت.. موت الزرع أوموت أحدنا، صاحب هذا الوجه الجميل الذى تغنى به الخلان والآباء والأجداد.. وهذه الصفحة الرقراقة الممتدة التى تغمرنا بكل الخير.. يخبئ خلفه وجها آخر.. مظلما جدا.. قد لا نعرف عنه شيئا؛ أحلامى التى بحت له بها، وصداقته التى آثرتها على كل الصداقات.. جعلته معى دائما فى أنقى لحظاته.. يعاملنى معاملة خاصة جدا.. فلا أبوح لأحد بما يمنحنى من أسرار؛ فحينما ينفعل ويهم أن يقضى على أحدهم لأنه جرح سكونه.. أرتمى بأحضانه محاولا إنقاذه.. ومذكرا إياه بالعهد الذى بينى وبينه، يخفض جناحه لى.. وتهدأ ثورته.. ويحتوينى معلنا على الملأ أننى الوحيد الذى يسمح له بالدخول إليه وقت الغضب.. ليس هذا فحسب بل يزداد كرمه معى ويمنحنى الفريسة.. التى قلما تنجو منه.. إلا فى المرات التى أكون حاضرها، فأصبح وجودى مرتبطا بإنقاذ من تجرأ عليه. 


أنتبه على ارتطام القارب بأحجار الشاطئ، فأنطلق مجددا السير إلى.. 


معبد هابو 


الكرنك الغربى..أكبر المعابد الجنائزية التى خصصت لتخليد ذكرى الإنسان.. بناه رمسيس الثالث، ولا يزال يحتفظ بلوحاته الدينية ومناظره العسكرية، بألوانها البهية، وبه مخازن الغلال التى كانت مخزنا لطعام الأرض. 

ومنه إلى..


وادى الملوك


 الوادى الذى دفن فيه ملوك الفراعنة وبه حوالى 63مقبرة.. أهمها مقبرة الملك توت عنخ آمون، التى اكتشفت وهى على حالتها الأصلية تقريبًا قبل أن تصل إليها أيادى اللصوص.. فى عشرينيات القرن الماضى.

ومقبرة سيتى الأول، ومقبرة رمسيس الثالث، ومقبرة رمسيس السادس، ومقبرة حور محب، ومقبرة مينا موحد القطرين خلال عصر تسموسيس السادس.


ومقبرة راموز.. أحد مسئولى الدولة فى عهد أمنحوتب الثالث وعهد أخناتون.

ثم إلى..


وادى الملكات


 الوادى التى دفنت فيه ملكات الفراعنة وزوجات الملوك؛

وأهم مقابره.. مقبرة الملكة ( نفرتارى) زوجة الملك رمسيس الثانى. 

ونفرتارى يعنى.. جميلة جميلات الدنيا، أو ذات الوجه المحبوب.

ثم إلى..


معبد الدير البحرى.. أو معبد الملكة حتشبسوت


هذا المعبد الجنائزى الكبير الذى كان بمثابة القصر الملكى.. بنى بأمر الملكة حتشبسوت، الملكة الفرعونية الوحيدة التى حكمت مصر، فى القرن السابع قبل الميلاد، لكى تمثل فيه أسرار العالم السفلى؛ صممه وشيده المهندس سنموت فى العام التاسع من حكم الملكة، يتكون من ثلاثة أروقة خلابة يفصلها شارع.


استخدم فى بنائه الحجر الجيرى، وسمى فى عصر الملكة بقدس أقداس آمون، كما أطلق عليه العرب اسم الدير البحرى. 


ولم يسعفنى الوقت لمشاهدة تمثال المرمر


البقية الباقية من معبد أمنحوتب الثالث، يبلغ طوله 19.20 مترا ، بعد أن عانى المعبد من التصدعات، فأطلق عليه الإغريق "المرمر" قصة البطل الذى مات فى حروب طروادة، وقيل إنه كان ينادى كل صباح، باسم أمه "إيروس" إلهة الفجر، التى سحرته وكان يجهش بالبكاء وهو يناديها.


وأنا ألهث مررت بتمثالى ممنون، ومعبد دير المدينة، ومتحف رمسيس الذى بنى خصيصا للملك رمسيس الثانى، وبه جداريات المعبد التى تمثل معركة قادش، التى انتصر فيها على "الحيثيين".


ولم أستطع  زيارة مقابر الأشراف والنبلاء، ومقابر دير المدينة، ومعبد الرمسيوم، ومعبد سيتى الأول بالقرنة، ومعبد دندرة


 والذى يقع على بعد ستين كيلو متر شمال الأقصر، والذى بدأ البناء فيه بطليموس الثالث، وأكمله من بعده الحكام البطالمة.. ويحتوى على لوحة شهيرة للملكة كليوبترا وابنها "قيص" من زوجها الإمبراطور الرومانى يوليوس قيصر، ومشهور بشرحه للأبراج الفلكية.


وكذا معبد إسنا الذى يقع جنوب الأقصر، ويحتوى على قاعة مليئة بالصور والمنشورات، التى تتبع أباطرة الرومان، الذين جاءوا إلى مصر ، وقدموا الأضحيات من أجل الآلهة .


وأثناء استعداد الشمس للدخول إلى مرقدها إلى يوم البعث.. قفلت عائدا إلى مدينة الأحياء. إلى النيل مرة أخرى.. أشاهد حينما استيقظ الناس على أصوات ارتطام الماء بأحجار المنازل..فى لحظات يسمونها الغضب الأكبر.. لا يستطيع أحد أن يحد من هذا الغضب.. حتى أنا.. يقفون والحزن يعلوهم.. ينظرون إلىّ فى انكسار.. يعاتبوننى.. هذا صديقك الذى تتغنى بمجده وتاريخه العظيم، وتملأ آذاننا بجوده وكرمه وسخائه !.. انظر ماذا فعل بنا؟

ألملم نفسى أمام انكسارهم.. أجيب بصوتى المخنوق :


إنه طوع أمركم.. ورهن إشاراتكم.. طوال العمر.. تأمرونه فيطيع.. وتقذفونه فيبتسم.. وتضربون وجهه فيعطيكم فلذاته.. تلوثون طهره بأدرانكم.. فلا يهتم، وتفترون عليه بأكاذيبكم.. فيتعفف عن الرد؛ ألا تتحملوه فى لحظة غضبه.. كلنا يغضب؛ إنه النهر.. سر أسرار الحياة.. رمز الخلود والعطاء.. باق ما بقيت الدنيا.. يحمل الخير مغلف بالأسرا ر والحكايات..


تسيل دموعى.. ينقطع صوتى، أتنحى جانبا، وأجلس إليه كاشفا عن ساقى.. أقرأ له سورة الإنسان.