لأن ”التطهير العرقى” يرتبط، فى الغالب بعمليات ”الإبادة الجماعية”، فإن سؤال ”العنف” يعود للظهور : لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟
ولمّا كان ”التطهير العرقى” محاولة خلق حيز جغرافي متجانس عرقيا بإخلائه من مجموعة عرقية معينة باستخدام القوة المسلحة، أو التخويف، أو الترحيل القسري، أو الاضطهاد، أو طمس الخصوصية الثقافية واللغوية والإثنية، بالقضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يُراد له أن يسود.
إشكالية الهوية تأتى كمقولة مفتاحية لحل معضلة العنف الجمعى الممنهج، فعدم الاعتراف بالآخر والعمل، بكل الطرق، على إقصائه، مادياً ومعنويا.. حدودياً ووجودياً، هو ما يبرر هذا السلوك غير الإنسانى الذى يصدر عن بنى الإنسان. بل ولعله كان سبباً فى إعادة النظر فى مفهوم الإنسان من الأساس، ربما تكون للسياسة اليد الطولى فى تحريك الأحداث، لكن يظل الأدب الأقدر على الاقتراب من الحدث وملامسته من الداخل من أجل فهم أعمق للإنسان وللسياسة وللتاريخ؛ ولأن العنف لا يرتبط بمكان أو زمان أو دين، فقد اخترنا روايتين مهمتين فى هذا السياق لنضعهما تحت مجهر البحث النقدى المقارن، وهما "الطيور العمياء” للكاتبة العراقية ليلى قصرانى، و”عائلة من الروهينجا” للكاتب الأردنى مصطفى القرنة، فالأولى تقع أحداثها فى بدايات القرن الماضى، بينما تقع أحداث الأخيرة فى بدايات القرن الحالى، والأخيرة تصور المسلمين فى دور الضحايا، فى حين تصورهم الأولى فى دور الجلادين، وهى مسألة تستحق التأمل والدراسة.
ومن زاوية خاصة سنحاول أن نجيب عن بعض الأسئلة من قبيل: كيف تفكر الضحية؟ وكيف يفكر الجلاد؟ وكيف يفكر الكاتب الذى يصور العلاقة التى بين الاثنين؟ سعياً منا إلى التعرف على إجابات أخرى لأسئلة أخرى ملحّة تجاوزت ترف التنظير المجرد، وصارت واقعاً مجسداً ومؤثراً، ولعل أهمها سؤال الإنسان، وهل مازالت مفاهيم من قبيل ”النزعة الإنسانية”، ”البعد الإنسانى”، ”التعاطف الإنسانى” تحمل الدلالات نفسها، أم أن المسألة برمتها تحتاج إلى مراجعة؟!
1- رواية الطيور العمياء.. كيف تفكر الضحية؟
تدور أحداث ”الطيور العمياء” فى بدايات القرن الماضى، وتصور وقائع التهجير القسرى والمذابح الجماعية التى تعرض لها الأرمن على أيدى الأتراك إبان الحكم العثمانى. وفى هذا السياق، تتناول الكاتبة مأساة الأرمن من خلال أسرة مسيحية تعيش فى قرية صغيرة تسمى طورباراز، تتكئ الكاتبة على تفاصيل الحياة اليومية لأسرة التاجر ديكران، وهى حياة مستقرة بالرغم من بساطتها، وتتبدى فيها الروح المسيحية المحبة المتسامحة، نلحظ ذلك منذ السطور الأولى للرواية عندما نقرأ: ”استيقظت كوهار ذات صباح ربيعى، على رائحة الخبز المحمص القادمة من التنور، حيث كانت والدتها تخبز. نادتها: تعالى خذى أقراص الخبز هذه إلى الكنيسة.. كسرت كوهار قطعة صغيرة من الخبز فى القفة، ووضعتها فى فمها وهى تسمع - للمرة الألف - العبارة ذاتها: يا ابنتى، علينا أن نعطى باكورة خبزنا للمحتاجين، فلو لم نفعل ذلك، لمات أحد أفراد عائلتنا.. حملت كوهار القفة ونزلت إلى الكنيسة” (الطيور العمياء، منشورات المتوسط، ميلانو - إيطاليا، ص٧).
بهذا المعنى تهتم الكاتبة بالضحية أكثر مما تهتم بالجلاد، فهى تحرص على سرد تفاصيل الحياة فى طورباراز على النحو الذى يجعل من المسيحية أسلوباً للحياة المستقرة السعيدة، وهى تنجح كثيراً فى مسعاها بحيث تكسب تعاطف القارئ، وتكشف عن الفجوة العميقة التى بين إنسان يحرص طوال الوقت، بفعل الإيمان الدينى، على أن يحتفظ بإنسانيته، وبين إنسان يأبى إلا أن يتخلى عن إنسانيته ويضع نفسه فى مصاف الوحوش، ويتجلى الإيمان المسيحى حتى فى تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، وهو إيمان ينطوى على فلسفة للوجود ورؤية كونية للعالم، يتضح ذلك من الفقرة التالية: ”الجميع كان يعرف كيف يصفى الحداد هايك الحديد، إذ يصلى عليه، ثم يصفيه من الشوائب، ومن شر إبليس، بطلب بركة الله على كل ما فى يده، لا يضع الحديد جافياً حتى يرى لهيب الله، حينئذ يعلم أنها إشارة من العلى أن ما بيده سينجح، ويتبارك المال الذى منه ”هناك نار الله، ونار إبليس”. هذا ما كان يقوله الحداد لأصدقائه” (ص١٠).
وفى ظل وحشية كاسحة، وموت محدق من كل مكان لا يملك سكان طورباراز سوى كلمات رجل الدين المعزية، التى تحمل رؤية تصالحية مع الموت باعتباره مدخلاً لعالم أفضل، وباعتبار ذلك العالم السماوى هو الأصل وأن العالم الأرضى الذى يعيشه البشر هو الاستثناء. فبعد مذبحة كبيرة قام بها الأتراك، وراح ضحيتها أطفال، نقرأ العديد من العبارات الإيمانية التى تؤكد هذا المعنى من قبيل: ”إن أنفاسهم الأخيرة فى هذا العالم، هى ذاتها أنفاسهم الأولى فى السماء... أحبائى تهللوا بدل أن تنوحوا، لأن اليوم أولادكم سيجلسون فى حضن الأب السماوى... لا توجهى عتباً لله لأنه أخذه منك، بل بالأحرى، اشكره على أنه أعطاك الصغير، ولو لفترة قصيرة... بحزنكم هذا ستحزنون قلب الله... آمنوا بالقيامة، إن أولادكم الآن فى مكان أفضل من هذا العالم الملييء حزناً وكرباً”(ص٣٠-٣٢).
ولا يتوقف الأمر على رجال الدين، لكن الناس العاديين أيضاً، الذين لا يقلّون إيماناً وحكمة عن رجال الدين، هؤلاء يرون فى العالم الآخر امتداداً لحياتهم الدنيوية والأخروية فى الآن نفسه، فتدندن بعض النساء بأنغام حزينة قائلة: ”آه، يا صغارنا، كنتم ستكبرون، لتصبحوا أمة كبيرة، هكذا ذهبتم للفردوس، لتعدوا لنا مكاناً، التربة التى شربت من دمائكم ستنبت تيناً وخوخاً للأجيال القادمة”(ص٣١).
وإذا كان الإيمان يعين الأحياء على تحمل وطأة الأحزان الناجمة عن فراق الأحبة الذين غيبهم الموت، فهو أيضاً الذى كان يعينهم على تحمل مشقة رحلة التهجير القسرى، فنقرأ: ”دب الأمل لدى الجميع، وتشجع كل من فى القافلة، واستعانوا بقوة روحية من صلاة الرجل، كيما تساعدهم على البقاء وعدم الاستسلام للجوع والمنون”(ص٦٤).
ولأن القهر والتعذيب الواقع على الضحايا من الأرمن المهجّرين كان فوق الطاقة، بحيث سُدت أمامهم كل أبواب الأمل، وبدا ألا مفر من الموت إلا إليه، فقد تحول الإيمان الأخروى إلى يقين حسى متجسداً أمامهم، فى طريق الترحيل الوعرة، فى شكل قديسين يظهرون فى السماء كأبطال مخلّصين للضحايا المكروبين من أهل القرية، الذين تركوا ديارهم وحياتهم الآمنة المستقرة عنوة، إلى غير رجعة، وفى هذا المعنى تصور الكاتبة مشهداً ميتافيزيقياً، يختلط فيه الواقع بالخيال، ويُحار فى أمره كل من الضحية والجلاد، فتقول: ”خاف الجميع خوفاً عظيماً، وتوقفوا متلفتين وناظرين، حيث كانت السماء محمرة، فجأة جاء صوت مروع من السماء، كان البعض ممن فى الموكب يسبح الله، والآخر يمد يده لهذا القادم الذى يشبه رجلاً جالساً فى مركبة من نار، وحضوره زعزع المكان، فنظرت كوهار إلى الظاهرة الغريبة، لكنها لم تر القديس، اهتاجت الخيول واضطرب العساكر، إذ توقفوا هم أيضاً، ليروا ما كان يحدث، وهم يحدقون فى الأفق، وقد احتجبت الشمس خلف الغيوم الحمراء”(ص٦٥).
وبالرغم من قسوة ووحشية المشهد الذى حرصت الكاتبة على تصويره، إلا أن الرواية لم تخل من ملامح إنسانية عديدة تبدّت فى أكثر من موقف، منها شعور الجار الحداد بالذنب لأنه لم يكن ضمن قائمة المهجّرين قسرياً، وحرصه على الحفاظ على بيت جارة ديكران ومقتنياته، بالرغم من حاجته إليها، أملاً فى أن يعود ذات يوم، وكذلك الذكريات التى حملها المهجّرون فى صدورهم عن ديارهم التى غادروها على أمل فى العودة، وأشياؤهم التى تركوها على حالها شاهدة على عمق المأساة وفداحة المصير؛ ليس هذا فحسب بل إن الجنود الأتراك أنفسهم، الذين لعبوا دور الجلاد بكل وحشية، لم يكونوا على الشاكلة نفسها، فمنهم من كان لم يزل يحتفظ بداخله بقدر من إنسانيته، فلم يكن راضياً عما يحدث للأرمن، لكنه لم يكن يملك القدرة على مخالفة الأوامر، ومنهم من وضعته الظروف فى مواقف إنسانية صرفة، فلم يستطع التخلى عن إنسانيته، على نحو ما حدث للجندى إبراهيم، الذى انتهت خدمته وطلب منه القائد أن يصطحب أناهيد وولديها كى تسرى عنه فى الطريق وتقوم على خدمته، فأخذهم معه تنفيذاً للأوامر، لكنه حافظ عليهم حتى وصل إلى مفترق طرق فتركهم قائلاً: ”سأترككم هنا، أنزلى بهذا الاتجاه، وأشار بيده إلى الجنوب، هناك ستكونين فى أمان بعيداً عن بطش الأتراك أنت وولداك، لدي عائلة وأولاد صغار، ولا أقدر أن آخذكم معى، خذى قطعة الخبز هذه، فهى كل ما أملك من طعام، ستجدين حتماً فى الطريق جدول ماء أو نهراً صغيراً"(ص٨٥).
يحسب للكاتبة أنها لم تقدم الروح المسيحية المسالمة فى مقابل الإسلام كدين إرهاب، كما يُروّج فى الغرب، ولكن فى مقابل وحشية الجنود الأتراك، فالمسألة، فى التحليل الأخير، تحركها أبعاد سياسية لا دينية، ويتضح ذلك فى موقف الشيخ غازى، الذى أخذ الولدين، وقام بتربيتهما تربية مسيحية، وسط أسرته المسلمة، بحيث كان يصطحبهما إلى الكنيسة أيام الآحاد، ويصطحب أولاده إلى المسجد أيام الجمعة، وفى هذا المشهد ما يجعلنا نقول إن الكاتبة إنما أرادت أن تقدم رسالة أخلاقية عن التسامح الدينى والتعايش بين الثقافات بالرغم من الأطماع السياسية، التى تعمل دائماً على زرع الكراهية وإشاعة الفرقة بين بنى الإنسان.
ويظل للبعد النفسى والذهنى أهميته فى تفسير وحشية الجلادين.. فكيف يفكر الجلاد؟.. هذا ما تجيب عنه رواية مصطفى القرنة ”عائلة من الروهينجا”.
٢- رواية عائلة من الروهينجا.. كيف يفكر الجلاد؟
خلافاً للكاتبة ليلى قصرانى، يركز مصطفى القرنة على الجلاد، ويحاول الكشف عن الأبعاد الاجتماعية والنفسية للضابط لاى سان (بوذى الديانة) المسئول عن التطهير العرقى لعائلات الروهينجا المسلمة فى منطقة بورما أو ما يعرف ب"ميانمار”؛ وكما استهلت قصرانى روايتها بتصوير الحياة فى منزل واحدة من أسر الأرمن المسيحية، التى لعبت فى الرواية دور الضحية، استهل القرنة روايته بمشهد عائلى من داخل أسرة الضابط لاى البوذية، التى تلعب فى الرواية دور الجلاد، فنقرأ: ”الضابط لاى سان ذو الأنياب، هكذا ينادونه، ربما لأنه يقود مفارز ناساكا، التى أُسست للقضاء على الروهينجا، ترقى حديثاً إلى رتبة رائد، إنه ينظر باستمرار إلى رتبته العسكرية، ويتباهى أمام زوجته جيا بحصوله على الرتبة الجديدة، يذهب إلى المرآة عدة مرات ليرتب هندامه ثم يقول لزوجته: سأحضر لك خادمة روهينجية تقوم على خدمتك”(عائلة من الروهينجا، عمان: دار الإسراء للنشر والتوزيع، ٢٠١٨، ص٥).
يتضح من الفقرة السابقة النظرة الدونية التى تحملها عائلة الضابط لقبائل الروهينجا، فهم لا يصلحن إلا للخدمة، غير أن الكاتب يرغب فى الوصول إلى أبعد من ذلك، فالعلاقة داخل عائلة الضابط ليست على ما يرام، خاصة بين لاى الضابط وزوجته جيا المنضمة لحركة ٩٦٩ المتطرفة التى تعمل أيضاً على إبادة المسلمين.
وفى هذا السياق، يكشف الحوار الذى بينهما عن شرخ كبير فى العلاقة، فقد كان يعرف أنها تحضر اجتماعات ٩٦٩ ويخفى عنها ويعمل على إغاظتها، وكانت تعرف أنه سكير ومجنون ويخفى شخصية كريهة مبتذلة، ولا يحترم نفسه، وليس ثمة من شئ يجمعهما سوى البيت والولدين اللذين كبرا، وشق كل منهما طريقه، أحدهما صار تاجراً لبيع لحوم الحيوانات البرية، والآخر صار جندياً فى معسكرات الاعتقال التى تم تهيئتها للروهينجا.
وتبدو صورة لاى وحشية، فهو من ناحية يزهو بأنيابه ويرفض علاجها بحجة أنها تخيف العساكر منه، وأن هذه الأنياب صنعت منه أسطورة فى الكتيبة، وأن القائد طلبه أكثر من مرة مبدياً إعحابه، ومن ناحية أخرى يتمتع لاى بذوق غريب وشاذ فى الأكل، فيصفه الكاتب قائلاً: ”كانت الزوجة تحاول إرضاء زوجها المجنون بشتى الطرق، لترضى ذوقه الغريب، تاره تصيد له فأراً من الحديقة، وتارة تربط له قطاً ريثما يعود، فيموت ذلك القط من الجوع. كان يحب أكل تلك الحيوانات بشكل شره”(الموضع نفسه.
ليس هذا فحسب، بل كان يتوق إلى أكل لحم النيص (القنافذ) والقرود، وهو ما حدا بالبعض للقول إن أكله للحم القرود جعله يشتهى لحوم البشر نظراً لوجود قرابة بين لحم القرود ولحم الإنسان.
يكشف الحوار الذى بين أفراد أسرة الضابط على الإفطار عن الصورة الوحشية التى يفكر بها الجميع، ففكرة الصيد، فى حد ذاتها، تصلح مدخلاً لتفسير النزعة الحيوانية، اللا إنسانية، التى تهيمن على تصرفاتهم، فأحد الولدين يصطاد الحيوانات البرية ويبيعها فى مطعمه لتحقيق أكبر استفادة مادية، والآخر جندى مهمته اصطياد أفراد الروهينجا، والضابط (الأب) يقوم بكلا الفعلين، اصطياد الروهينجا وأكل الحيوانات البرية؛ وفى كل الأحوال، لا يستحضر أفراد الأسرة اسم الروهينجا إلا مقترناً بالشر، فى نوع من ممارسة ”شيطنة الآخر”، ويتضح هذا المعنى فى الحوار التالى:
“قال لاى:
-لدى مهمة فى إحدى الغابات قريباً.. سأرتاح من المدينة.
قال نى:
-لا أعرف لماذا تحبون هذه الغابات اللعينة، لقد كدت أُقتل فيها قبل يومين.
ضحك والده وقال:
-مازلت صغيراً، لم تتزوج بعد، هل هاجمك الروهينجا؟
-لا، كاد يدوسنى فيل هندى هائج.
-وما الذى جاء به إلى منطقتك؟
-لا أعرف.
قال أخوه لو:
-أطلق النار عليه.
-أطلقت النار.
-وهل قتلته؟
-نعم.
-ستقول إن صيادى الروهينجا هم من قتلوه.
ضحك نى وقال:
-أكيد.
قال لو كأنما تذكر شيئاً:
-هل انتهيتم من عمل السياج على قراهم؟
-نعم، لن يدخلو أو يخرجوا.”(ص٨-٩).
وفى حوار آخر بين طبيب نفسى وجيا زوجة الضابط، يكشف لنا الكاتب كيف يمكن للحب، لدى الجلادين، أن يتأسس على كراهية الضحايا، فنقرأ:
“-تحبين الراهب، وهل هو يحبك؟
-نعم.
-هل تفعلان شيئاً معاً؟
-نعم.
-وكيف أحببته؟
-كلانا يكره الروهينجا، والتقينا على ذلك.
-فكرة نبيلة”(ص٢٨).
وفى سياق تحليل الكاتب للأبعاد النفسية والاجتماعية للجلادين، يلقى الضوء على الطبيعة الذهنية التى تحرك الجلاد، وهى ذهنية لا عقلية تعتمد على الأسطورة فى صورتيها، الميتافيزيقية والسياسية، فكما قام الضابط فى رواية ”الطيور العمياء” بارتكاب مذبحة للأطفال مستنداً إلى حلم رآه أثناء النوم، فإن الدولة برمتها فى ”عائلة من الروهينجا” تلجأ للتطهير العرقى استجابة لنبوءة العرافين، نلمح ذلك فى حوار الضابط لاى مع جاره وصديقه خين دكتور الجامعة الذى لا يصدق هذه الترهات:
“ضحك خين مرة أخرى وقال:
-إنك تجعلنى أضحك كثيراً هذا اليوم، إنكم تقومون بالتطهير العرقى، والمضحك أن كثيرين فى هذا العالم يقتلون الناس، ويحصلون على جائزة نوبل...
-دولة بلا قوة لا فائدة منها، ستكون تحت رحمة الجميع...
-يا رجل ما هذه البلاد التى يقرر مصيرها العرافون؟
-العرافون يصدقون دائماً"(ص١٠).
ويُلاحظ أن قصرانى اعتمدت على الوصف بنحو أكثر، لأنها عالجت الرواية من منظور الضحية، وانتصرت للعاطفة الدينية، ولعل فى ذلك يكمن السبب فى تصفية عائلة ديكران المسيحية، التى لعبت دور الضحية، انتظاراً لعدالة السماء فى الآخرة.
وفى المقابل، اعتمد القرنة على الحوار بنحو أكثر، لأنه عالج الرواية من منظور الجلاد، وانتصر للحجة العقلية، التى كشفت عن عبثية الموقف برمته، وهو الأمر الذى جعله يعمل على تصفية عائلة الضابط لاى، التى لعبت دور الجلاد، تأكيداً لعدالة السماء فى الدنيا.
وفى النهاية، يمكننا أن نقول إن مفهوم الإنسان ليس مفهوماً بسيطاً، بحيث يكون مفارقاً للواقع وللتاريخ، لكنه مركب ينطوى فى داخله على عناصر الخير والشر، وأن جدلية العلاقة بين الجلاد والضحية لا تُفسر بمحض تبادل الأدوار، كلعبة الكراسى الموسيقية، وإنما بالاستعداد الشخصى من ناحية، والظروف المحيطة من ناحية أخرى، فالجلادون يرتبطون أكثر بالمكاسب الدنيوية، والضحايا يرتبطون بالمكاسب الأخروية، وأن السياسة تفرّق والدين يجمّع، ولا يفرّق إلا إذا تدخلت السياسة، وأن التعايش الإنسانى، بالرغم من كل الاختلافات، ينبغى أن يكون غاية الجميع.