يمكننا البدء بمقولة مؤرخ الفنون إروين بانوفسكى عن السينما " إن السينما سواء أحببنا أم لم نحب، هى القوة التى تصوغ أكثر مما تصوغ أية قوة أخرى" الآراء والأذواق، واللغة والزي والسلوك، بل حتى المظهر البدنى لجمهور يضم أكثر من ستين فى المائة من سكان الأرض، فهى مرآة النفس البشرية، حيث إنها تؤثر وتحرك وتجذب المشاعر والاحاسيس، وتمارس تأثيراً كبيراً على كل جوانب الحياة وبشكل خاص على الشباب، فعندما يظهر ولو فيلم واحد جيد، فإننا نرى أن فيلمًا واحدًا يحدث تأثيراً على الشباب بمقدوره أن يتفوق على تأثير جيش من الدعاة، أو العاملين فى الصحف وغيرها، فقد حققت السينما حلم الإنسان من حيث إيجاد وسيلة للإمساك بالزمن وحفظه، فلأول مرة فى تاريخ الثقافة الإنسانية استطاع الإنسان أن يمسك بالزمن ويحفظه فى علب معدنية باختراعه للسينما توغراف فى نهاية القرن التاسع عشر غير متصور أن ظهور التكنولوجيا الرقمية فى مجال السينما سوف يؤثر تأثيرًا جذريًا فى مستقبل هذه الصناعة شكلاً ومضمونًا، فالعلاقة بين كل فن والتكنولوجيا المنتجة له متبادلة ومؤثرة، وكما يؤكد المنظر السينمائى ( جيمس موناكو) أن كل فن يتشكل بواسطة التكنولوجيا الخاصة به، وهذه العلاقة معقدة وغير واضحة، فأحيانًا يقودنا التطور التكنولوجى إلى تغيير فى النسق الجمالى للفن، وهناك ما يكون نتيجة لعوامل أيديولوجية واقتصادية.
مرت السينما بمراحل عديدة حتى وصلت إلى صورتها الحالية، حيث كانت البداية فى اختراع الفوتوغرافيا فى القرن التاسع عشر، فقد رسمت خطًا فاصلاً بين عصر ما قبل التكنولوجيا فى الفنون والحاضر، وكانت في زمن كل من توماس إديسون ولويس داجير الذى يعتبر صاحب التطوير العملى للفيلم الفوتوغرافى الحساس، إلا أن التصوير الفوتوغرافى الحديث قد تطور انطلاقًا من ابتكار ويليام هنرى فوكس تالبوت نظاما من أجل تسجيل صورة سالبة موجبة منها، فكما كان معروفا أن النسخة الفوتوغرافية الحساسة للضوء كانت موجبة وبالتالى غير قابلة للاستنساخ، يعتبر ابتكار آلتى التصوير والعرض السينمائى فى نهاية القرن التاسع عشر ( السينماتوجراف ) لم يكن إنجازًا فرديًا، بل بُنى على مجهودات سابقة حيث إن محاولات تسجيل الصور المتحركة وعرضها مرت بمراحل عديدة حتى تمكنوا من تصوير الواقع الحى بطريقة مباشرة وعرضها مرة أخرى، وهذا هو الهدف الأسمى الذى كانت تسعى وراءه السينما،
وكان الصوت الحدث الأكثر أهمية من اختراع السينما ذاتها، وفى هذه الحقبة حاول كل من إديسون وجورج دمينى وأوجستبارون فى فرنسا ووليام فريز الجمع بين الصوت والصورة فى السينما، وتأخر ظهور الصوت فى السينما نحو 30 عاماً عندما ظهرأول فيلم سينمائى ناطق فى العالم عام1927م وهو الفيلم الأمريكى ( مغنى الجاز)، وبالرغم من ذلك فإن عروض الأفلام الصامتة لم تخل من محاولات عديدة لمصاحبتها للأصوات، لذلك كانت هناك عدد من دور العرض تستخدم أشخاصاً لإحداث المؤثرات الصوتية المناسبة لكل فيلم كما يحدث فى التمثيليات الإذاعية حتى الآن.
وخلال عقدين من الزمان ( 1895- 1915 ) طورت السينما أدواتها التقنية من أجل صياغة لغتها وأساليبها الجمالية والفنية من مؤثرات بصرية وحركة الكاميرا وتوليف وغيرها، وقد وصلت إلى تلك اللغة السينمائية من خلال رواد السينما وفنانينها الأوائل أمثال : د.و جريفث ، سيرجى إيزنشتين ، د.فيرتوف وغيرهم الكثيرون، وبحلول عام 1908 استطاع أوسكار ميستر فى ألمانيا تزويد أصحاب دور العرض بأفلام تصاحبها موسيقى مسجلة، وقد تلى ذلك محاولات عدة لتحقيق التزامن بين الصوت والصورة، حتى ظهر الكاينتوجراف الذى جمع بين الفيلم والأسطوانة، وكانت أول تجربة ناجحة لتسجيل الصوت بشكل مباشر على شريط الفيلم وجنبًا إلى جنب مع شريط الصورة من إنجاز يوجيه أوجستين لوست، وكان هذا الاختراع يحمل اسم ( فوتوسينما توفون )
وتوالت التقنيات إلي أن تم إدخال اللون للفيلم، فكانت هناك عدة محاولات بدائية، فقام إديسون بصبغ بعض أفلامه التى أنتجها كما فى مشهد انفجار البارود فى فيلم ( سرقة القطار الكبرى ) 1903، وبحلول عشرينيات القرن العشرين دفع الاحتياج لكميات كبيرة من النسخ إلى تطور تقنيات وطرائق تلوين الأفلام مثل طريقة ( الكينيما كلر والكرونوكروم )، ثم ظهور عصر الشاشة العريضة فى سبتمبر 1952 من خلال فيلم (هذه هى السينيراما )، وفى عام 1953 تم عرض أول فيلم بنظام السينما سكوب باسم (الرداء) من إنتاج شركة فوكس للقرن العشرين، ومنذ ذلك الحين والسينما تشهد تطورًا يومًا بعد يوم، حيث ظهور التقنيات الفائقة فى الدقةوالتى أغنت الصورة البصرية، حيث استحداث نظام ( آيماكس Imax )، حيث تبلغ مساحة الشاشة فيها عشرة أضعاف مساحة شاشة السينما لفيلم 35 ميلليمترا وثلاثة أَضعاف مساحة الشاشة لأفلام 70 ميلليمترا.
إن ظهور التقنية الرقمية فى ثمانينيات القرن العشرين فتحت أمام مصممى الصورة السينمائية آفاقًا رحبة للإبداع، فاستخدام الكروما يتم به إضافة أو حذف ما يشاء المصمم من لقطات، وصار تصوير المشاهد الخيالية امرا أكثر يسرًا وأقل تكلفة، ويرجع الفضل فى تطور سينما هذا القرن إلى المخرج الأمريكى جورج لوكاس، ففى عام 1977 حول في فيلم ( حرب النجوم ) المؤثرات المرئية إلى واسطة مختلفة بإدخال الكمبيوتر فى صناعة الفيلم، أما اللحظة الحاسمة فى ظهور السينما الرقمية جاءت مع ظهور الديناصورات الواقعية لشركة ILM فى فيلم حديقة الديناصورات عام 1993 إخراج ستيفن سيبلبرج، وغيرها من الأفلام مثل فيلم كينج كونج، دمى هارى هوسين،
أما فى أفلام الرسوم المتحركة، فقد قدم فريق عمل TOY TROY لجون لاستر 1995 أداء تمثيليًا بارعًا فى عمل كل مشاهده قائمة على الرسوم المتحركة والذى عرضته ديزنى وأنتجه ستوديو بيكسار فى الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر البعض الحصول على ممثل من نتاج الكمبيوتر بمثابة الكأس المقدسة، أما الحصول عليه يتحدث على الشاشة العريضة فهو أمر صعب، وهنا تكمن إشكالية تمادى السينما الرقمية، فقد أًصبح بإمكانها الاستغناء عن النجوم الذين يتقاضون أجورًا عالية من خلال المخلوقات الاصطناعية، فهل ستصبح السينما الرقمية خالصة دون تدخل بشرى، وهل بذلك دور العرض السينمائية ستغلق ابوابها؟ا ، فكما نرى الآن تعرض الأفلام من خلال منصات العرض الرقمية مثل نيتفليكس ، HBO، وشاهد.نت،و watch it وغيرها من المنصات الإلكترونية، فحينما سئل المخرج جيمس كاميرون عن السينما الرقمية أكد انها أمر عملى، ولكنها ليست لها القدرة على صنع نجوم مثل همفرى بوجارت أو مارلين مونرو، فالبرغم من انجذاب الناس لها إلا انها لم ترتق لأداء الممثل الحقيقى، فمن خلال النظام الرقمى يمكن التخلص من لقطة غير مرغوب فيها، وأتاح لصانعى الأفلام تجاهل بعض القيود الحالية فى الإنتاج السينمائى، حيث تقل ضرورة إعادة تصوير اللقطات، والماكياج الصعب الذى يستغرق ساعات عدة، والحصول على أعداد كبيرة من ممثلى المجاميع فى لحظات، أو تنفيذ انفجارات هائلة، وسوف يتمكن الممثلون الموجودون فى مواقع مختلفة من أداء بعض المشاهد معًا، وأشار ( كينث.س. ويليامز ) من شركة أستديوهات سونى الرقمية أن الفيلم لن يتم إخضاعه هو فقط للنظام الرقمى بل أيضا بالنسبة لكل المواد بدءًا من لوحة رسومات السيناريو إلى صور الدعاية، فتوظيف المؤثرات البصرية الرقمية فى الأفلام لم يعد مقتصرا على أفلام الفانتازيا والخيال العلمى والرعب والكوارث، بل تعدى ذلك ليتخلل أفلام تعتمد على قصص واقعية مثل فيلم تيتانيك 1977 أو فيلم الجمال الأمريكى 2000 ، وهذه كانت مجرد البداية، أما الآن فلا يخلو أى عمل سينمائى من النظام الرقمى .
ولعل أبرز الأسئلة التى أرقت منظرى الفن السينمائى هل هذا العالم الرقمى سيؤثر بشكل أو بآخر على طبيعة سرد القصة فى السينما؟ فنجد جون هورن يتصور أن الأمر سيصبح مثل كتابة القصص الطويلة، يقوم بها شخص واحد وهو جالس إلى مكتبه، أو يصبح الأمر مثل الرسومات الكرتونية مع الاستعانة ببعض عناصر التصوير الحى كما لو كانت مرسومة باليد، وبذلك ننقل الواقع إلى أقصى أبعاده المستحيلة؛ فالوسائط الرقمية تعيد تحديد هوية السينما ذاتها، فحتى المخرج الكبير أندريه تاركوفسكى يرى أن السينما وظيفتها تكمن فى قدرتها على تسجيل الواقع، إذن فمن الضرورة أن تفتح غالق الكاميرا ويبدأ الفيلم فى اللف ليسجل كل ما يقع أمام العدسة، وهو بذلك يرى أن وجود سينما تجريدية خالصة أمر مستحيل، وعلى الصعيد الآخر نرى تلك التكنولوجيا تتصاعد وتيرتها، فنجد فى فيلم هذا العام للمخرج الكبير مارتن سكورسيزى The Irishman
والذى أنتجته منصة نتفليكس بما يقرب من مائتى مليون دولار والذى يشارك فى بطولته ( روبرت دى نيرو ، آل باتشينو ، جو بيشى ) وقد واجهت صعوبة بالنسبة لمشرف المؤثرات البصرية بابلو هيلمان حيث إن كل من النجمين دى نيرو ( فرانك شيران ) و آل باتشينو ( جيمى هوفا ) وجو بيشى ( راسل بوفالينو) يظهرون خلال الفيلم فى أعمار متفاوتة ما بين الشباب والكهولة ومرحلة الشيخوخة، فأراد سكورسيزى أن يقوم بتصوير فيلمه دون الاعتماد على التقنيات التقليدية ، فاستعان بأستوديو INDUSTRIAL LIGHT&MAGIC من أجل ابتكار تقنية تظهر الممثلين بعمر أصغر وخاصة أنهم تجاوزوا السبعين عامًا وسوف يقومون بأداء شخصيات في مراحل عمرية مختلفة، وقد تم استخدام منصة معقدة مكونة من ثلاث كاميرات، بها كاميرتان تعملان بالأشعة تحت الحمراء مع حلقات إضاءة بالأشعة على الجانبين، وهذه التكنولوجيا كانت لا تطبق على وجه الممثل فقط بل الجسم بالكامل، فقد قام البرنامج بصنع طبقة أساسية للوجوه ثم إنتاج مضاعفات رقمية وفقًا لما تم التقاطه بالكاميرا،
وتم استخدام هذه التقنية فى فيلم ويل سميتGemini man والذى تدور أحداثه حول قاتل محترف مسن يسعى إلى اعتزال عمله ولكنه يجد نفسه فى مواجهة نسخة منه أصغر فى العمر، حيث يمكنها أن تتنبأ بكل ما يجول فى خاطره، فمن خلال هذه التقنية سوف نرى ويل سيمث مرة أخرى وهو فى ريعان شبابه، وتثير هذه التقنية مخاوف لدى القائمين على الصناعة، فهناك من يحذر من الانغماس فيها وخاصة أنه من خلالها يمكن استحضار نجوم قد رحلوا ليؤدوا أدوارًا مع ممثلين أحياء، فلو نجحت هذه التجربة فسوف تحدث ثورة فى صناعة السينما وسوف تفتح الباب على مصراعيه لأشكال مختلفة من الأفلام؛ وعلى الرغم من أن هذه التقنية بدأت فى الظهور مع كبار النجوم، إلا أن استخدامها أمر معقد ومكلف للغاية ويحتاج إلى دقة عالية ليخرج بالمستوى المطلوب وهذا ما لا تستطيع أن تقوم به سوى الشركات الكبرى المتخصصة، وربما تشهد السنوات القادمة تداول هذه التقنية بشكل موسع مما جعل الكثيرين يرتابون حول مستقبل السينما التقليدية، خاصة بعد أن أصبحت السينما الرقمية تحتل الصدارة بعد سنوات من قصور استخدامها على أفلام مارفل وغيرها، إلا أن القائمين على الصناعة لا يزالون يؤمنون أن أجهزة الكمبيوتر من صنع البشر وسيكون من الخيال العلمى أن نتصور أن تلك الحواسيب سوف تقوم بصنع الأفلام بنفسها، فالشخصيات الرقمية من ابتكار البشر، وبما أن السينما الرقمية تحمل أشكالاً أكثر تعقيدًا وتطورًا من أشكال صناعة الفيلم، فإن السينمائيين يحتاجون فى الوقت ذاته إلى كل من الخلفيات المتطورة تقنيًا وإلى كم كبير من الإلهام والإبهار، فتلك الصناعة سوف تبقى آسرة وفى حاجة إلى ممثلين للقيام بالأداء الصوتى، فالفيلم واسطة اتصال والسينما الرقمية الوسيلة الاتصالية ذاتها، فهناك إنسان يعمل على توصيل أفكار لعدد من البشر الآخرين، وفى أكثر الحالات اللغة السينمائية تعبر عن هموم الإنسان بكل ما أوتيت من تقنيات سواء أكانت بالصورة الفوتوغرافية أم بالطريقة الرقمية، فالنتيجة واحدة، فلا نستطيع أن ننحاز لمن قال إن السينما الرقمية ليست كالسينما الحقيقية لأنها مزيفة ولا تحدث على أرض الواقع، فالفيلم بحد ذاته ليس حقيقيًا، فالصور التى نطرحها على الشاشة يقوم صناع الفيلم بلفها لكى تظهر حسب وجهة نظر القائمين عليها، وعلى الجانب الآخر يقول روبى جرينبرج أحد القائمين على الصناعة " إن مستقبل السينما سوف يقدم لنا إمكانيات بلا حدود للإبداع البصرى وأكثر شيء مثير لنا فرصة استخدام التكنولوجيا الرقمية لتعزيز فننا، ربما يكون التغير مخيفا قليلاً فى الوقت الحالى ولكنه فرصة لعصر الإلهام، عصر الفرص الجديدة والتكنيك المختلف، حيث تمدنا بوقود لحياتنا كفنانين ومصورين سينمائيين ". أما مايكل سالومونى يقول " لا يمكن أن يحدث تغيير دور مدير التصوير أو المخرج بشكل كبير، وسيظل المخرجون يرون الروايات ويتعاونون مع المصورين السينمائيين الذين يضيئون الصور، فالتصوير الرقمى يتحسن ولدي عقل متفتح لكى لا أزال أفضل الفيلم لثراء شكله المصحوب بمرونته الرقمية، وأعتقد أن من المهم تطوير نوعية الفيلم السينمائى الذى يعرض بنظام دور العرض، وأكثر ما نحتاجه بالفعل نصوصا أفضل وقصصا شيقة قابلة لأن تروى، فمشاهد الغد له طموحات أعلى، فالمسألة تتمحور حول الروايات المعروضة على الشاشة وليست التكنولوجيا الرقمية وحدها".
والخلاصة مهما اتفقت الآراء أو اختلفت حول الوضع الراهن للسينما نتيجة للتكنولوجيا الرقمية فهى تحقق أكبر قفزة تكنولوجية حدثت منذ إدخال الصوت، فتوليد الصور الفنية بواسطة الكمبيوتر ، والتحسين الرقمى لعناصر الصورة ,,,,,إلخ من تقنيات متطورة ساعدت فى صنع صور فنية مبهرة منذ أفلام termintor 2 ,forrestgump ,matrix,A vatar وغيرها من الأفلام التى تم إنتاجها على مدار العقدين الآخيرين جعلت القائمين على تلك الصناعة يدركون جيدًا أن الصورة الرقمية وجدت لتبقى خالدة، فقدوم السينما الرقمية لا يزال يحصد نتيجته الأولية، فسوف تؤثر تأثيرًا بالغًا على صانعى الأفلام المستقلة، والمخرجين الذين يعرفون بفنانى الفيلم، فطرق وسياقات جديدة سوف تتمخض عن تلك التقنية والسنوات المقبلة سوف تشهد أكثر مما نحن عليه الآن .