الأربعاء 26 يونيو 2024

كيف تقرأ قصيدة يابانية؟

فن16-10-2020 | 21:13

ترجمة بسمـة علاء الدين


يمتد الأدب الياباني بجذوره إلى آلاف السنين، طور الشعراء خلالها أشكالًا مختلفة. وإلى جانب هذه الأشكال، توصل الشعراء بأنفسهم – وأحيانًا بمساعدة النُقاد والعلماء - إلى طرق تحليل متعددة، من أجل فهم أفضل لأشكال وأنواع الشعر المختلفة. من البديهي أن الشعر كان جُزءًا مُهِمًّا في التقليد الشفاهي - القديم العهد - الموجود منذ وقت طويل تحت النفوذ الصيني المبكر. وقد ابتكر اليابانيون نظامًا لتدوين أدبهم وقصصهم وملاحمهم وأساطيرهم، وتجسيدها على هيئه قصائد، وحفظها ونقلها على ألسنة مجموعة من الرواة كانوا - في الغالب - مرتبطين بالعائلات الحاكمة.

ستيفن جي كارتر، أستاذ التاريخ والحضارة اليابانية بجامعة ستانفورد، في كتابه "كيف تقرأ قصيدة يابانية" الصادر عام 2019 عن مطبعة جامعة كولومبيا، يشرح أساليب التكوين والتفسير الأدبي التي يستخدمها الشعراء والعلماء والنقاد اليابانيون منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا، وذلك من خلال أقدم وأشهر الكتب اليابانية، وهو كتاب الـ "مانيوشو"، ومعناه "كتاب العشرة آلاف ورقة"، وهو عشرون مُجلدًا، جمع فيها ناشرا الكتاب أربعة آلاف وخمسمائة قصيدة، نظمها الشعراء خلال الأربعة القرون الماضية. 

يُقدم كتاب كارتر استكشافًا حيويًّا للخطاب الشعري الياباني، ويعرض الدليل على الدقة والرقة الرسمية للكتابة اليابانية، إذْ يفتح المغاليق أمام القارئ، ويعرض ما بداخله بذكاء وحساسية وشاعرية. ومن ثَمَّ أصبح كتابًا لا غنى عنه، إذْ من شأنه أن يجعل الشعر الياباني ينبض بالحياة، وفي الوقت نفسه يكشف عمقه بطريقة منهجية بسيطة.

ينقسم الكتاب إلى سبعة فصول، يبُرز كُلٌّ منها نوعًا مختلفًا من الشعر، ثُمَّ يُقَدِّم شعراءه المختارين، وكثيرٌ منهم يظهر في الترجمة لأول مرة، وذلك من خلال قسمين: الأول، "السياق"، الذي يسرد السيرة الذاتية لكل شاعر مع ذكر نبذة عن خلفيته، والثاني، "التعليق"، حيث تبرز مهارات كارتر في التفسير والتحليل حين يخوض بنا غمار القصائد.

القصائد، التي تتراوح من العصور القديمة إلى قرننا هذا، يتم تقديمها باللغتين الإنجليزية والروماجي، وكلمة الروماجي باللغة اليابانية تعني (الأحرف الرومانية أو اللاتينية)، أي هي تلك الحروف التي تُكتب بها اللغة الإنجليزية والفرنسية...الخ. ولا شك أن وجود نص باللغة الإنجليزية يمنح فرصة عظيمة لمن لا يعرفون اللغة اليابانية. والروماجي اليابانية تجعل القصائد مُجَسَّدَةً أمامنا، فضلًا عن تفسير كارتر الذي يستند إلى سعة اطلاعه وأسلوبه السلس، بحيث يجعل كل قصيدة تتسلل إلى العقل والقلب معًا.  

يتجوَّل بنا الكاتب بحرص عبر مختلف طبقات القصائد، مشيرًا إلى القواعد التي يلتزم بها الشعراء في كل نوع. وبعبارة شاعرية، فإن القصائد تَتَفَتَّحُ أمامنا ببطء، وكأننا نشاهد زهرة تَتَفَتَّحُ من خلال التصوير بطريقة الفاصل الزمني. هكذا أيضًا تظل اللغة مفهومة، وتتضح المصطلحات الفنية - سواءً في أغاني اليابان القديمة أو الهايكو في الحرب العالمية الثانية - من خلال أشجار الصنوبر، والثلوج التي تتساقط عليها، وانتهاءً بالشوارع الصاخبة - حيث يخوض بنا كارتر عبر أكثر من ألف عام من الحضارة اليابانية. وبفضل رؤيته الثاقبة وترجماته البارعة، فإن "الغيوم تزول" لتكشف عن جمال الشعر الياباني وقوته وذكائه وفائدته.

لعل أفضل طريقة لتوضيح ما أسلفناه هي أن نناقش - بإيجاز - إحدى القصائد التي كشف كارتر مغاليقها لنا. فهناك فصل بعنوان "قصائد طويلة وقصائد قصيرة"، نجد فيه قصيدة كتبتها الأميرة شيكيشي (1149- 1201) الابنة الثالثة للإمبراطور جو شيراكا، وواحدة من أبرز شعراء اليابان في القرون الوسطى، قيل إنها توقفت عن الكتابة عندما مرضت، واختارت أن تعيش حياة منعزلة إلى حد ما، وأصبحت راهبة في عام 1197. وفي عام 1200 طلب منها الإمبراطور جو توبا كتابة مائة قصيدة، لكنها تُوُفِّيَتْ قبل أن تنتهي منها. 

هذه السيرة الموجزة مهمة في السياق، لأن القصيدة الموجودة هنا تدور حول الحب، ونحن نعلم أن شيكيشي كانت أبعد ما تكون عن الارتباطات العاطفية. ماذا – إذنْ - يمكن أن نعرف عن هذا الموضوع؟. يشرح هذا القسم أنها كانت تختلق الشخصيات في قصائدها، "وكأن ذلك امتداد بلاغي لنفسها على أساس سوابق أدبية"، وبالطبع استندت إلى سابق حياتها في البلاط الإمبراطوري، حيث يتم التعبير عن فكرةٍ ما من خلال تجربة معينة لتربط الأحلام مع الواقع. 

آه .. أنا أدرك

التي قد تظهر في أحلامه 

ولكن ماذا عن سَاعِدَيَّ؟ 

تتساءل: هل يمكنها أن ترى ساعديها وهي تستعد للنوم في ظلام الليل الحالك؟. يشرح كارتر ذلك بأن النساء اللاتي يشتقن إلى عشاقهن - وهن وحيدات - غالبًا ما يتذكرن الأماكن التي قضين فيها الليل ساهرات،  وقد يكون ذلك أمرًا حقيقيًّا، أو يكون حُلمًا من الأحلام. 

هل يرى تلك الأكمام الرطبة الليلة،

كما أنا في الحزن أستلقي؟

وتتساءل: هل يرى الحبيب أكمامها المُبْتَلَّة بالدموع؟ وكما قلنا قد يكون هذا التعبير مجرد "امتداد لأوهامها الرومانسية"، لا يصل إلى مرتبة الحقيقة، لكنه في كلا الحالين يدل على أنها امرأة حزينة وحيدة، تذهب إلى الفراش بمفردها، بأكمام مُبْتَلَّة بالدموع، على حد وصف الكاتب.

لقد رأينا - بادئ ذي بدء - كيف يوجهنا كارتر إلى القصيدة انطلاقًا من خلفية الشاعر، وهذه الوسيلة كثيرًا ما تكون ناجعةً، لا سِيَّما مع الشعر الياباني القديم، عند تناول البنية الرسمية للقصيدة. ونحن لا نستطيع الجزم بأن الأميرة شيكيشي قد عاشت هذه المشاعر حَقًّا، لكن المهم أنها تعتمد على قصائد الحب والمعاناة التقليدية، فضلًا عن التعبير عن مشاعرها في الحلم وتناقضها مع الواقع. هناك - إذنْ - جانبان من سيرتها الذاتية يظهران من خلال القصيدة، إلَّا أن الشخصية المسيطرة في القصيدة تفرض على القارئ واقعًا مُحَدَّدًا من خلال مهارتها فيما تنقله إليه من عاطفة، الأمر الذي  يترك للقارئ سؤالًا بلاغيًّا يعكس حالة عدم اليقين لدى الشاعر.

يعرض كتاب ستيفن كارتر - بوجهٍ عام - المفاهيم الثقافية والشعرية السائدة في الشعر الياباني على مر القرون، ويطرح المبادئ الشكلية الكامنة وراء كثير من العناصر، ويشرح كيفية إسهامها في تأثير الشعر. إن القارئ لا يتعيَّن عليه بالضرورة أن يكون شاعرًا لكي يفهم هذا الكتاب، ولكن هذا الكتاب قد يكون له الفضل في أن يجعله شاعرًا.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020