"الإنسان لا ينزل النهر
مرتين" أظن أن اختبارنا لهذه المقولة سيكون ممتعا مع نص بركة الروائي الذي
يعود للنهر ذاته، لكن بما جناه من خبرات وندوب في المرات السابقة.
ثمة قواسم في كتابة بركة تمثل علامات تقودنا
إلى طرق لقراءة نصه، فبطل رواياته "صحفي" يلتقي بـأوروبية – غالبًا –
إيطالية، في لقاء صحفي أوعرض سينمائي، يلتقيان وكل منهما محمل بقناعات تبدو مختلفة،
فأحمد في الفضيحة الإيطالية يشعر بالذنب تجاه أمريكا، وماريا تشعر بالخوف من هذه
الحضارة غير الإنسانية، لكنهما يلتقيان في ضرورة جعل مسافة بينهما وبين هذه
الحضارة.
محمد بركة، كاتب مصري، مواليد 1972 بدمياط،
يعمل صحفياً بجريدة " الأهرام"، صدرت له ثلاث روايات " الفضيحة
الإيطالية " ، " عشيقات الطفولة " و" الزائر "، ومجموعات
قصصية هي: "كوميديا الانسجام" ، "3 مخبرين وعاشق" و"عشية
جدتي".
من القواسم التي لا يمكن تجاهلها في نص بركة؛
العنوان، تحديدًا ورود اسم لبلد أوروبية: "الفضيحة الإيطالية" و"أشباح
بروكسل" وهذا يؤشر إلى أن الكاتب يريد أن يهيئ القارئ منذ البداية لأن النص
له علاقة بالغرب.
نص بركة ليس إيروتيكيًّا، وإن بدا ذلك من
مشهد اللقاء على العشب في أشباح بروكسل، ومن وصف ماريا في "الفضيحة
الإيطالية" بل يمثل الجنس جزءًا من البنية السطحية، لكن هناك إن جاز التعبير
عدة مستويات لقراءة نصه؛ فنجد "نظرة الغربي للعربي – نظرة العربي للغربي –
نظرة الغربي للغربي" وهنا ينبغي الإشارة إلى وعي الناص بالاختلافات الفردية
بين أفراد المجتمع الواحد، وكسر النمطية الساذجة التي تجعلنا نرى أبناء البلد
الواحد متشابهين في الصفات العقلية والاجتماعية؛ فلا العرب يمثلون طريقة تفكير
واحدة، بل إن المصريين في أشباح بروكسل لا يمثلون طريقة واحدة ولا الغربيون كذلك.
يبدو من تأمل نص بركة السردي أن هناك نزوعًا
لرفض الرأسمالية وتوحشها على مستوى العالم بشكل قطري؛ فكارلا في الأشباح تقاوم
الرأسمالية الإيطالية التي نجحت في اغتصاب منطقتها السكنية، فيما مكاوي بطل النص
منفي من وكنه بشكل دبلوماسي نتيجة رفضه لصورة من صور الرأسمالية، بل يتعرض لخسارة
هذا المكان لخوف أحد موظفيه من فقدان وظيفته.
لا يجنح بركة في نصوصه إلى الاسترسال في
مناقشة قضايا الرأسمالية عبر حوارات مطولة أوخطابات زاعقة وإنما يجري الأمر خارجًا
من تكوين الشخصية وبطريقة "ماكرة مخادعة" فماريا التي يتشوق القارئ
لمعرفة كيفية ارتباطها بعلاقة مع أحمد، تكشف عن توجسها الدائم من كل مبادرة أمريكية
بشكل سلس وتلقائي ضمن حكاية صغيرة: " ربما كان للأمر علاقة برحلتى
إلى نيويورك،كان ذلك قبل ست سنوات حين أقمت معرضى الأول فى جاليرى Doma يومها كتبت " نيويورك تايمز تقول إن شخصية فنية
جديدة دخلت المشهد التشكيلى بقوة وانهالت عروض البيزنس،غير أننى بعدأسبوع كنت فى روما
أدفن وجهى فى سريرى وأبكى بسبب شعورى بالعار،لقد اكتشفت أن نيويورك مدينة للآخرين فقط".
ما يمكن ملاحظته من قراءة هذا المقطع ليس ما ذكرناه من قواسم مشتركة فقط،
لكن نضيف إليه قدرة بركة على بناء قصص قصيرة جدًّا، تشبه كوميديا الموقف في
المسرح، لكنها هنا أشبه بدرجات السلم أوبلبنات البناء، إن المقطع السابق علاوة على
أنه يمثل قصة قصيرة بامتياز؛ مفسرٌ لما قبله، ومرتبط بشبكة النص التالية؛ فلا هو مقحم
ولا فائض.
لا يمكن في هذا السياق تجاهل هذه الحركة السلسة التي تبدو للوهلة الأولى
تداعيا حرًا غير مشروط، لكنها غير ذلك تمامًا: "معرض أول – صحيفة النيويورك
تايمز –عروض البيزنس | روما – وجهي - سريري. هذا التقابل بين عالم الرأسمالية حيث
كل شيء محسوب بدقة من أجل مصالح شرهة، تحول المعارض إلى متاجر، والإعلام إلى
إعلان، والفن إلى تجارة، وبين بلد الشمال المحتفظ بإنسانية الآدمي وخصوصيته، في
روما الأم، وفي سرير ماريا الحضن، تدفن وجهها شاعرة بالعار الناتج عن إحساسها
باقتراف إثم كبير؛ يقود إلى كشف مذهل: " لقد اكتشفت أن نيويورك مدينة للآخرين
فقط". من هنا فرفضها للمعرض الأمريكي في المقاطع السابقة مبررٌ تمامًا:
" ولكن عرضه لا يروق لى".
الأمر نفسه يتكرر مع الخروجة التي يفترض أنها
رومانتيكية؛ فالجو احتفالي وسط حي يتلألأ في رمضان، وعلى قهوة داخله، لكن يتحول
الأمر إلى مراجعة لتجربة التطرف المدمر ما يحعل البطل يهتف من أعماقه: " أخذتُ نفساً عميقاً وأنا أشعر بالمأزق. لقد تحولت " الخروجة " الرومانتيكية
إلى مائدة مستديرة فى مؤتمر لحوار الأديان، يبدو أننى كنت متفائلا أكثر من اللازم فى
مسألة "هولز".
يأتي قِصَرُ نصوص بركة الروائية من ناحية الحجم قاسمًا مشتركًا؛ فالفضيحة
الإيطالية "نوفيلا" وأشباح بروكسل رواية قصيرة، مع هذا فهناك أحداث
كثيرة تجري داخل النص وخارجه، ويجيد الكاتب صناعةَ الفجوات، التي تجعل القارئ
مشاركًا لا في إنتاجِ الدلالةِ فحسب بل في إنتاجِ النصِّ ذاته.
يأتي ميل بركة للتوثيق جليا في رواياته؛ فرغم أنه "منفي بشياكة"
إلى بروكسل حيث التقارير الجاهزة التي لا تنشر غالبًا، وحيث وجود محرر يقوم بكل
شيء؛ فإن البطل لا يترك فرصة عمل تحقيق صحفي عن اللاجئين في بروكسل وأوروبا،
ويبتعد بركة عن طريقة التوثيق التي اتبعها صنع الله إبراهيم في بيروت بيروت؛ فلا
يجعل الشكل الطباعي مختلفًا، ولا يستخدم تقنيات التوثيق، بل يجري الأمر كعادته:
مبنيا على السوابق ومرتبطًا باللواحق.
نهايات نصوص بركة الروائية من القواسم المشتركة؛ فنحن أمام بطلين في لقاء
أخير قبل وداع كبير، فلقاء أحمد بماريا الأخير أثناء توصيلها للمطار، ولقاء مكاوي
بكارلا هروب أخير قبل عودته إلى ثورته المنكوبة وحربه الخاسرة، وعودتها إلى أزمتها
التي تتعلق بفقدانها بيتها:"لم يطل انتظارنا. حل سريعاً موعد الرحلة ونادى
صوت رخيم ناعس على المسافرين. كانت الطائرة تصعد بنا في هدوء إلى سماء رمادية بدت
قريبة للغاية. يكفي أن تمد ذراعيك لتتأكد من ملمسها الغامض الذي طال اشتياق البشر
لاختباره".
لا يعني وجود قواسم مشتركة أن الكاتب لا يتطور بل إن مقارنة روايتي
"الفضيحة الإيطالية" و"أشباح بروكسل". بل إن النظر إلى
العتبات في الرواية الأخيرة يدل على أن الكاتب يطور قواسم نصوصه المشتركة التي
صارت من سماته الفنية، فالمسألة ليست الإهداء فقط،بل تتجاوز ذلك إلى نصوص تصديرية،
ثم تقسيم الفصول وعنونتها.
إهداء: "إلى ميرا... قمر الشواطئ البعيدة، ضحكة الليل الطويل"
يحيلك هذا الإهداء إلى أن ميرا هي بطلة النص، لكنك تفاجأ بكارلا، وبقراءة صفات
ميرا: "قمر الشواطئ البعيدة، وضحكة الليل الطويل" تجعلك أمام ملهمة من
نوع فريد، إنها البلسم في زمن الجراح، القمر رمز الوطن، رغم الشواطئ رمز السفر.
والضحكة رمز السعادة التي يفتقدها الغريب، والعروبة رغم الليل رمز الحزن، الطويل
رمز اليأس.
أما النصوص التصديرية فتؤدي إلى وضع القارئ داخل إطار توقع لما سيؤول إليه
مصير البطل المأزوم المهزوم: " لم يكن لديّ أبداً في وقت من الأوقات من يمكن
تسميته بـ " المعلم ". لم يمت من أجلي أي مسيح. لم يدلني أي بوذا على
الطريق في أعالي أحلامي لم يتجل أي أبولو كى ينير لى الروح".
الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا
هذا المقطع الذي يمكن عنونته بالمحارب المنفرد، سيعود إليه القارئ بعد
انتهائه من قراءة النص، ويتصادى معه المقطع الشعري:
"بريء كما قلب أمي
كما شهادة الميلاد
كما ريم البحور
قمر ملوش بلاد "
الشاعر الغنائي المصري عبد الرحيم منصور.
أما تقسيمات النص الداخلية وعناوينها فقد أدت المهمة ذاتها، مع إضافة مهمة
التشويق والإثارة.
يحتاج نص بركة إلى إعادة قراءة، سواء لكل عمل على حدة، أو لمجموع الأعمال؛
فنحن أمام كتابة تواجه قبح العالم وفساده بحرفية ومهارة ومكابدة، علاوة على إعادة
قراءتها لذاتها، ووجود تناص داخلي مستمر بين الأعمال؛ ما يجعل نصوصه السردية أشبه بوحدات
بناء تشترك في بعض الأمور، مع تطور مستمر، وعدم تطابق أو تكرار، ونلحظ أن بركة هو
الروائي الوحيد الذي ركز في مشروعه على العلاقة بين العربي والغربي ولم يجعله
موضوعًا لرواية واحدة، وأظن في هذا السياق أن روايات بركة تحتل مكانها مع أعمال
الحكيم والطيب صالح وسهيل إدريس.
أريد أن أنام
كما تنام الزواحف من ذوات الدم البارد،
أو كما ترقد حبة قمح
في الطبقات المنسية من الحقل,
لا تجرحها قطرة ماء،
لا يمسها خيط ضوء،
ولا يستيقظ فيها الأمل
الشاعر العراقي
المهاجر زهير الجبوري