الصعيد
هو المنطقة التي عشت فيها، وتربيت فيها، وفهمت عاداتها وتقاليدها وتصرفات أهلها،
وبالتالي فعندما أكتب عنها.
كثيرون
كتبوا عن الصعيد قبلي , منهم توفيق الحكيم ويحيى حقي ومحمد مستجاب ويحيي الطاهر
عبد الله وعبد الوهاب الأسواني وحجاج أدول وإدوار الخراط . كان لهم الأثر الكبير
في اتجاهي الي مجال الأدب، وإليهم أدين بما وصلت إليه، فقد فتحت كتاباتهم أمامي
عالما من الإبداع الراقي والجميل.
دعني
أولا أذكر شيئا عن ظروف نشأتي الأولى في بيئة زراعية. لأنها ربما تسببت في أن
اتحول للكتابة مؤخرا.كنت وحيدا لأسرتي,وألحقني أبي بكُتاب القرية, حفظت أربعة
أجزاء من القرآن في سن مبكرة, وبالمصادفة افتتحت أول مدرسة ابتدائية قريبة جدا من
البيت, فالتحقت بها, وفي المرحلة الإعدادية انضممت إلى جمعية أصدقاء المكتبة,كانت وقتها
في المدارس مكتبات عامرة , بكل أنواع الكتب في كل المجالات , فوجدت يدي تمتد إلى
كتب أكبر كثيرا من سني فقرأت روبنسنكروزو لدانيال ديفو, استهوتني فيها روح المغامرة
والجراءة التي كانت لدي بطلها, وفي الإجازة الصيفية, كنت أذهب لمكتبة البلدية,
وفيها قرأت الجريمة والعقاب لديستويفسكي وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم, .والشمس. كم
هي نائية تأليف دوبريتا تشوسيتش.
وخلال
فترات دراستي لم أنقطع عن القراءة، قرأت بعض الأعمال الأدبية المترجمة، مثل ديستوفسكي,
ولورانس داريل, وليو تولستوي, وكافكا, وموباسان, ودي إتش لورانس, وفرانسوا ساجان,
وقرأت معظم روايات الكتاب المصريين والعرب.
ثم
بدأت عيناي تتفتح على الواقع الأليم الذي تعيشه الناس في قرى ومدن الصعيد.
كانت
ظروف عملي وإقامتي بين أهلي في الصعيد دافعا لي، لرؤية انعكاسات تلك السياسات على
وجوه الناس.
فيما بعد، تفشت ظاهرة الإسلام السياسي في كل مصر،
وإن كانت قد ظهرت بذرتها الأولى في الصعيد، وتحديدا في مدينة أسيوط التي أنتمي
اليها.
بدأت بكتابة أول عمل أدبي في صورة رواية، تحت عنوان" اغتيال مدينة
صامتة " وجاءت انعكاسا لما شاهدته من اعتقالات سبتمبر 1981 في عصر السادات،
وكذلك المناخ العام الذي أصبح أكثر تشددا مع الحريات العامة. كانت وقتها رؤيتي
الفكرية مشوشة, لأنني كتبتها بعد اغتيال السادات, وكنت لا أعلم إلي أين تسير
البلاد, خاصة في ظل رؤية عامة ضبابية نتيجة غياب الوعي الديني الحقيقي،بعد أن
انتهيت منها أرسلتها إلى نادي القصة في القاهرة، ففازت بالجائزة الأولي في
الرواية، وقتها أدركت أن ما كنت أكتبه يصلح أدبًا،وبدأت امارس الكتابة.بعدها
نشرت مجموعة قصصية بعنوان " المصفقون" ونشرت رواية اسمها "ضوضاء الذاكرة",
متأثرا بأجواء التاريخ والآثار والأديرة القديمة والمعابد والبيئة القبلية
والعائلات الخاصة بالصعيد , وتأثير تلك المفردات على سلوك وعقليات وتصرفات أهلها
وتشبعهم بالخرافات.
ثم
بدأت الرؤية تتضح أمامي شيئا فشيئا، واستشعرت أن الظلم ينبع من الشرطة والجماعات الإسلامية
على السواء، وكلاهما يتبع سياسة العقاب الجماعي الموجه ضد الناس،وتبلورت هذه
الرؤية في عمل أدبي "يوميات ضابط في الأرياف"، كتبته ونشرته في فبراير
عام 1989 ونشرته في الهلال بمجرد انتهائي منه.
كنت
أرى بعيني مدى معاناة الناس في تعاملهم اليومي مع الشرطة في مصر، خصوصًا في الصعيد
والقري الفقيرة، التي قيل إنها تؤوي الإرهابيين، خلال مراحل البحث عن الإرهابيين
المختبئين في بيوت الفلاحين وحقول القصب والمزارع ارتكبت الشرطة مآسٍ مروعة، أساءت
كثيرا للعلاقة بين الشرطة والشعب البسيط، وفي الوقت ذاته ارتكب الإرهابيون فظائع رهيبة،فقتلوا
البسطاء والأقباط، ولم يتنبه لهم شيوخنا الذين أيدوا الجماعات الإرهابية وتعاطفوا
معهم.
في أعقاب النشر تصادف
تعيين اللواء حبيب العادلي وزيرا للداخلية,بعد حادث إرهابي كبير بالصعيد ,وقد ظن
أن هناك من دفعني لكتابة هذه الرواية بغرض تشويه صورته, ولذلك سارع بإحالتي إلى
مجلس تأديب ضباط الشرطة , لقد خشي العادلي أن يوقفني عن العمل لأن الرأي العام
وقتها كان متعاطفا معي.
لكن لم ينته الأمر عند هذا الحد, ففي اثناء
المحاكمة قدمت وزارة الداخلية مذكرة إلى قضاة مجلس التأديب تتهمني فيها بالجنون,
وبأنني عندما فشلت في أن أصبح مأمورا لجأت إلى كتابة رواية خيالية, كتعويض عن ما
فشلت فيه واقعيا, وانتهت إلى أنني لو كنت قد أبلغت الوزارة برغبتي في كتابة رواية
لبادرت بمساعدتي في كتابتها.
لم
تشفع تدخلات المثقفين واتحاد الكتاب المصري، ولا كثيرا من المقالات التي كتبت وقتها
للحد من تفاقم المشكلة بما لا يسمح بإيذائي،وعندما تحدث وزير الثقافة فاروق حسني
مع وزير الداخلية. طلب من الأخير أن أقدم اعتذارا علنيا في الصحف. وقد تم إبلاغ
هذا الاقتراح إلى المحامي والكاتب فاروق عبد الله الذي كان يترافع عني , وأبلغني
به أيضا الصحفي حزين عمر بجريدة الجمهورية . وقد رفضت هذا العرض.
وصدر
قرار مجلس التأديب بخصم سبعة أيام من راتبي بدون أن يكلف نفسه عناء قراءة الرواية،
في حين أقصى عقوبة لعميد الشرطة (رتبتي) هي الإنذار.
وقامت
لجنة ترقيات ضباط وزارة الداخلية بترقيتي والاستغناء عن خدماتي.
تحولت الجماعات الدينية إلى استخدام السلاح
بدلا من الحوار بالعقل, وأيضا غموض توجهات الرئيس السابق مبارك وقتها.
عندما
تقاعدت، وجدت نفسي أكتب بحريتي دون قيود، وكانت تجربة التقاعد في سن الخمسين قاسية
ومؤلمة، فكتبتها في "خريف الجنرال " ونشرتها في دار الهلال، استعرض فيها
معيشة رجل يحمل رتبة اللواء في وسط الصعيد وما تراه عيناه من تناقضات , ومحاولات
تكيفه مع الواقع الجديد المفروض عليه .
كما
لاحظت معاناة الناس في الصعيد من تضاؤل فرص العمل , الأمر الذي يجبرهم علي السفر
إلى للدول العربية للعمل هناك , فكانت رواية " ذكريات منسية " التي تحكي
عن شاب يحمل ليسانس الآداب , يسافر للعمل في العراق ويعود بعد احتلال العراق
للكويت , ثم يلتحق بعمل في مجال الآثار , ويحدث أن تأتي الأسرة التي كان يعمل
عندها من العراق لتستقر في مصر ,عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بضرب
العراق.
أعجبتني طريقة الكتابة الواقعية التسجيلية التي
تمزج التاريخ بالواقع الحاضر , من خلال قصاصات من أخبار الصحف ومضمون نشرات
الأخبار, لأن هذا الأسلوب هو الأكثر ملاءمة لطبيعة الرواية التي أرغب في كتابتها,
وهو أيضا الطريقة المثلي التي أراها مناسبة في أغلب الأحيان للتعبير عن ما يدور في
داخلي.
أنا
لا أتعالى على القارئ وإنما أكتب له كل ما يجول في خاطري، وأعتبر أن الكتابة لقاء
مفتوح بين الكاتب والقارئ بدون أية حواجز.
أحيانا
أسأل نفسي عن جدوى الكتابة، وأشعر بأنني لم أقم بدوري كما ينبغي, وهي هواجس
تنتابني كثيرا, ورغم ذلك أري أن رواياتي قد أسهمت بشكل كبير فيما حدث لوزارة
الداخلية خلال ثورة يناير 2011.
العمل
في الشرطة والصعيد منحني خبرات متراكمة في التعامل الإنساني مع كل أنماط البشر،
فضلًا على أنه تجربة حية لخدمة الوطن في المهنة التي تخصصت فيها، لأجل هذا كانت
تجربة العمل الشرطي ثرية غنية وفتحت مداركي علي آفاق بعيدة في الحياة الاجتماعية
في مصر، وفضلاً عن هذا كانت في فترة بالغة الحساسية، وهي الفترة التي انقض فيها
الإرهاب البغيض علي وطننا يريد عودته إلى عصور الجهل والظلام.