إن تكتب فهذا أمر عظيم .. وإن لا تكتب فهذا أمر أعظم .. فعل الكتابة في حد
ذاته يحتاج مع شخص " مزاجي " مثلي ينتمي إلى برج "الجوزاء "
إلى حافز قوي.
امتنعت عن الكتابة بمحض إرادتي
وبإرادة حرة منفردة منذ العام 2016 إلا من بضع مقالات " بضع في اللغة العربية
من واحد إلى تسعة " كتبتها تحت سيف الحياء وما يؤخذ بسيف الحياء فهو حرام
ولذا قررت ألا أفعل "الحرام " أبدا وهنا أقصد الكتابة تحت ضغط .
ففعل الكتابة مع تدهور أحوال الإعلام - إلا من رحم ربي- إثم عظيم.
إلا أنني كما قلت في الفقرة الأولي التي طالت قليلا أنه لابد من حافز يستفز
في داخلك فعل الكتابة ويكون بعيدا عن الحرام الذي يأتي بسيف الحياء.
وهو ما حدث عندما طلبني هاتفيا الصديق والزميل الأستاذ خالد ناجح رئيس تحرير
"الهلال " كان له عشرات المكالمات سابقا يطلب أن اكتب مقالا وأن أتحجج
خجلا بعشرات الحجج والأسباب التي تمنعني عن الكتابة وأهمها وهو ما يتم تقديره من
زملاء المهنة ويكرره من لا يريد الكتابة " مزاجي مش رايق " .
والأمانة تقتضي أن أذكر الحاح الصديق
والزميل الأستاذ خالد سيد أحمد والخال الكاتب الصحفي الكبير سليمان عبد العظيم
بالعودة إلى الكتابة.
إلا أنه هذه المرة وقعت في " فخ " الكتابة من باب الحنين .. ويا
له من فخ لم أستطع الفكاك منه خاصة وأن صوت الزميل والصديق خالد ناجح رئيس التحرير
في الهاتف جاءني بادئا موجها طلقته إلى صمام قلبي قائلا : يا خال –يحب خالد
مناداتي هكذا – ولمَ لا فهو كصعيدي وأنا كصعيدي نقدر الأسرة والعائلة والقبيلة
والخال والد أيضا - والله وكبرتني يا خالد - عاوزك تكتب مقال عن قريتك .. وافقت
علي الفور وعاجلته كم كلمة مسموح بها وبعد كم يومٍ يتم تسليم المقال ؟.
أعتقد أن خالد لم يفِق حتي الآن من صدمة الموافقة .. وأعتقد أنه سيفيق منها
عندما يقرأ تلك الكلمات .. وأنا أشكره على دأبه وعدم تململه.
أما عن قريتي فهي قابعة علي بعد مئات الكيلومترات من قلب العاصمة التي
رحلنا إليها بحثا عن تحقيق الحلم.
قريتي واحدة من القرى الأكثر فقرا في صعيد مصر ولكنها الأغني علي الإطلاق
بحب العلم والتعليم وهو ما سنقوله لاحقا.
اسمها بهجورة أو "بهجة ونورة "كما قيل لنا وجاء في الأقوال المتواترة إن سيدتين سكنتا هناك
وكان يشار إليهما في الكلام العامي بـ " عند الأرض اللي فيها بهجة ونورة"
وتم تحريف الاسم وتخفيفه ودمجه وأصبحت بهجورة الآن كتب التاريخ لم تذكر مثل هذا
الاسم ولكنه في الروايات المنقولة كما قلت.
أما الرواية الأخرى هي "مهجورة
" حيث شب بها حريق في القرن العاشر الميلادي وأتي علي الأخضر واليابس وهجرها
سكانها لفترة من الزمن ومن هنا جاء الاسم.
ورواية أخرى جاء بها المؤرخ " إميلينيو " حيث ذكر معني اسمها
باللغة الهيروغليفية القديمة أنها " بلد الشعب".
أما
اسمها القبطي هو " بيهو أنجمول " وتعني حظيرة الجمال .. ربما لأن تجارة
بيع وشراء الجمال كانت مركزا لها وإن كانت منطقيا ربما تكون غير واقعية خاصة أن
تجارة الجمال زدهر في أقصي الجنوب في أسوان لقرب مصادرها وتم اشتقاق الاسم الحالي منها.
كثيرون هم المؤرخون الذين كتبوا عنها
ومنهم إميلينيو وابن مماتي والمقريزي
ووردت في معجم البلدان والروزنامة وغيرها الكثير.
وحتي المؤرخ علي بك مبارك وصفها في
خططه التوفيقية وصفا دقيقا حينما قال : "قرية كبيرة من قسم فرشوط وإنها واقعة
في حوض فرشوط علي نحو ثلثي ساعة والبحر في
شرقيها علي نحو ساعة وفيها مسجد ومنارة وكنيسة للأقباط وعصارات قصب وعدد وافر من
النخيل والأشجار ذات الفواكه لبعض كبرائها
والمستخدمين من أقباطها ويتحصل منها كل سنة مقدار عظيم من عسل القصب والسكر.
بهجورة التي أنتمي إليها تزخر بالعائلات المحبة للعلم والتعليم لدرجة أن أول
ثلاث مدارس علي مستوي محافظة قنا كانت هناك.
كانت
هناك عائلة تكلا العريقة وأحد أفرادها هو داوود بك تكلا أحد أعيانها أنشأ مدرسة
ثانوية تحمل اسمه حتي الآن وابنته منيرة هانم أنشأت مدرستين واحدة ابتدائية
للتعليم الأساسي وأخري إعدادية في وقت كانت المدارس والتعليم قليلا في صعيد مصر
واستكملت ما بدأه والدها ووقفوا لها بعض الأطيان الزراعية والأملاك كي يتم الصرف
علي هذه المدارس إيمانا منهما بالعلم والتعليم، وقيل إن الوقف كان 200 فدان.
كانت البدايات في مدرسة منيرة تكلا الابتدائية التي لا تبعد عن مكان سكني
المعروف بـ " حارة الدقاقوة " إلا بضعة أمتار قليلة كنا نعبر جسرا خشبيا
متهالكا يمر أعلي ترعة مياه القرية التي تشقها من شمالها إلي جنوبها وتروي زراعات القصب
المنتشرة والكثيفة.
قبل أن تعبر الشارع وعلي رأس الجسر الخشبي تطالعك " تعريشة عم حلمي
بائع الفاكهة والخضار الذي كنت أعتبره مسئول الأمن الغذائي لـ " حارتنا
" حارة الدقاقوة " وهو كما أتذكره كان نحيلا قصيرا هادئا محبا للناس.
كان دائما يجلس بجوار عم حلمي بائع الجرايد " عم هريدي أول مسئول إعلامي عرفته في حياتي " مسئول
الإعلام في القرية الذي يشنّف آذانك بصوته
"أهرام أخبار جمهورية". دعني أذكرك عزيزي القارئ أن ما تقرؤه الآن يعود
إلي فترة السبعينيات – حيث دأب والدي علي شراء جريدة الأخبار كل أيام الأسبوع
وأخبار اليوم يوم السبت التي كنت أحرص علي قراءة صفحة الحوادث بها للأسلوب الشيق
الذي كان يكتب به محررها الأستاذ محمود صلاح.
في مدرسة
منيرة تكلا ابنة داوود بك تكلا التي كانت
تفرض زيا موحدا لتلاميذها هو " المريلة ذات اللون البيج " التي تمردت
عليها من أول يوم ورفضت أن أرتديها وكنت أذهب يوميا مرتديا زي الخروج " بنطلون وبلوفر " وكان استثناء من
ناظرها الذي كنت أحبه حبا جما وكان صديقا لوالدي وهو الشيخ ثابت ولم يكن شيخا
معمما ولكن كان شيخا للقرية وناظرا لمدرستها الابتدائية وكنت نحيلا قصيرا خجولا
وكان الرجل طويلا مهيبا مسيطرا .. كان دائما ما يدللني لتفوقي الدراسي .لم تكن قريتي تشعرك بالغربة .. فالجميع يعرفون الجميع . العائلات والأسر
والتكاتف في أبهي صوره في السراء والضراء وهو ما غرس فينا أخلاق القرية وحب العلم
والتعليم.
قريتي القابعة غربي النيل كان يتبعها عدة نجوع أهمها نجع حمادي آنذاك في
الأزمان الغابرة وأصبحت الآن تابعة لنجع حمادي الذي أصبح مركزا يتبعه عددٌ من القرى.
لم تكن قريتي قرية عادية ففي إحدي الوثائق التاريخية وهي دليل هواتف مصر
وتعود إلي ثلاثينيات القرن الماضي وعبر الحروف الأبجدية تجد أن أعيان بهجورة كانت
لديهم هواتف في منازلهم وأماكن أعمالهم فنجد ما يدل علي رعاية الزراعة والزراع
بوجود بنك للتسليف الزراعي في المركز وأيضا فرع لبنك باركليز وقد جاء وصفه في
الوثيقة " بنك باركليز للممتلكات
البريطانية المستقلة والمستعمرات والخارج".