الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

"أنا وأبوي وعهد الحُر".. و"جناين تطرح عنب وغيرها يطرح شوك"

فن18-10-2020 | 15:56

لم يكن "يفك الخط" لكنه كان فيلسوفا بالفطرة ، ولم يكن من الأعيان ، لكنه كان في عين الجميع ، علمني الدرس الأهم ، رسم لي خطًا لا أمتلك الحياد عنه إلى يوم الدين ، لأن عهد الحر دين في الأعناق .

كان اللقاء هناك في الصعيد ، حين خبروه برغبتي احتراف الصحافة ، ناداني بصوته الجهوري ، فكنت عند قدميه  قبل أن يغلق فمه ، سألني في حزم "أنت يا ولد .. عاوز تبقى صحفي؟" .. أجبت في صوت منخفض "أيوه يا أبوي .. بعد إذنك"... صمت قليلا ، تفحصني ، كأني أخفي شيئا .

قطع الصمت بسؤال لم يخطر ببالي ، قال "أنت راجل يا واد؟".

رددت في ثقة  "إبن ضهرك يا أبوي".

أجلسني إلى جواره ، وبدأ يتلو عليّ العهد : "اسمع يا ولدي ، الغربة مرة مرار العلقم ، والراجل شرفه رقيق ، لو ضاع مش ممكن يرجع تاني ، الراجل يقول الحق ولو السيف على رقبته ، الراجل لا يكدب ولا يخون ولا يدخل بيته حرام..تعاهدني تفضل راجل ؟"

عاهدته وعاش وشاف وفائي بعهده ، ولما كان ثمن الوفاء يوجع ، يكلمني ويخيرني بين الاحتفاظ برجولتي أو أني " أعاود البلد " ... ولما "إبراهيم سعدة" طردني من أخبار اليوم مجاملة لصديقه ، كان الوجع أمرّ من الحنظل ، خفيت الخبر عنه ، وعشت أيام أسود من جناح الغراب ، أنام طول النهار ، وأصحى كل الليل .

وبدأت أتوه في دروب الليل ، كان بيني وبين الضياع خطوة ، ويشاء – السميع العليم –  إنه يعرف اللي جرى ... كان في صلاة العصر عندما سأله ابن خاله "هو صح ولدك عمر زعطوه من الجرنان؟."

رجع البيت وكلف أقرب إخوتي لي – حمزة الله يرحمه -  ينزل مصر ويشوف إيه اللي جرى لي ... ومعاه رسالة إن بيت أبوك مفتوح ، وأرضنا طيبة ، عايشين مستورين من خيرها ، والراجل لازم يكون شديد ، عيب يقع من أول قلم.

قابلت حمزة – الله يرحمه – وبكيت على صدره كأني لم أبك طول حياتي ، شعرت بعدها إن كل الهموم راحت في ستين داهية ، وعشاني على حسابه ، وجدد معي عهد الوالد ورجع البلد تاني .

وبدأت أعاود الحياة على طبيعتها ، وفضلت أعافر مع حاجات غريبة ، ناس زي الحجارة ، لا بتسمع ولا بتحس أو تشوف، وناس تانية شبه العجين العادم ، لا له طعم ولا ريحة ، وناس غيرهم كل لحظه بشكل ودين غير التاني .

وعشت أنا لليوم ، ومات أبوي – عليه رحمات الله ورضوانه – وفضلت ماسك في العهد بإيدي وأسناني ، صحيح دفعت وبدفع كل يوم ، وعندي استعداد للدفع طول العمر ، لأن كل يوم أنام من غير أي قلق أو أرق ، ولا عمري صحيت مفزوع من الكوابيس .

ولأن الخطوات الأولى من أي مشوار ، بتفضل محفورة  في الذهن طول العمر ، فقد كنت ولهان بـ" مصر" مثل كل صعيدي لم ير القاهرة من قبل ، كنت وقتها في مدارس بلادنا قبلي ، تربطني بقريبي القاهري صداقة شديدة ، لما ينزل عندنا البلد ، أقعد معاه ساعات وساعات يحكي عن أصحابه ، وعن "جنينة القبة" وكام هي واسعة وفسيحة ، مفتوحة لكل الناس ، تلعب وتتفسح وتفرش ملايات تحت الشجر ، وتقضي يومها من غير ما يضياقها جنانيني ولا حارس.

وكلما فكرت في الموضوع ، قارنت بين جنينة القبة ، تلك الجنينة الكبيرة المواجهة لقصر جمهوري ، سايبينها سداح مداح لكل الخلق ، وجنينتنا في البلد ، أقل من فدان ، ولها سور عالٍ وباب له مفتاح ، مافيش دكر يقدر يهوب نايحيتها من غير إذن ، وثمارها من العنب والجوافة والخوخ ، نعطي منها القرايب والجيران حسب كيفنا.

ومع إجازة السنة الثالثة من المرحلة الإعدادية ، قررت أنزل مصر – خلاص كبرت وبقيت راجل – وأرسلت جواب لابن عمي "سيد حمزة" ... خبرته إني نازل القاهرة مع أول الأسبوع ولازم أشوف جنينة القبة .

ركبت قطار الدرجة التانية العادية ، رفوف القطار محشورة كراتين وأقفاص بط وفراخ وحمام ، وناس نايمة وسطيها ، كل الروايح تطاردك ، كأنك محشور بين مخزن البيت و"كنيفه" ، الشيء الوحيد الذي ينقذك من الإغماء ، شبابيك القطار منزوعة الزجاج والشيش ، منك للحقول والترعة على طول.

وطول الطريق ، خناقات وعراك ، وبياع شاي وترمس وحاجة ساقعة ، ولو أمك داعيه عليك في ليلة القدر ، ادخل في عاركة مع بياع ، كلاب السكك تنهشك وفي الآخر لازم تدفع المطلوب ، ويزيد  المرار الطافح ، إن القطر ماشي على مزاجه ، ممكن يقف على محطات ، وأوقات كتيرة يقف في الطل .

وصلنا باب الحديد ولقيت القاهري "سيد حمزة" مستني على الرصيف ، وبعد الأحضان والتحيات والذي منه ، ركبنا علشان نروح البيت في حدائق القبة ، حاجات غريبة ، قطارات صغيرة اسمها " تورماي" وبنات وحريم لابسة على كل شكل ولون .

ومجرد أن وصلنا البيت ، سألت سيد "هي جنينة القبة لسة فاتحة ولا قفلت ؟" .. ضحك بسخرية وقال لي إنها مفتوحة طول الوقت ، نزلنا من البيت ، هو يقول لي "دي سينما هنولولو، ودا قصر النقراشي باشا"... وأنا أقول له "ياعم فين الجنينة؟"

ووصلنا مكان كله نخل زينة وشجر ضل والأرض نجيل ، وقال بفخر "دي جنينة القبة"... ضربت عيني شمال ورجعت بيها يمين ، أدور على العنب أو الجوافة أو الرمان ، ولا حاجة من الفاكهة موجودة ... سألته "هي جناينكم بالشكل ده؟" ولما قال آه ، ضحكت لدرجة إني وقعت من طولي ، وقلت له "يا راجل شوية نجيل ونخل أرنجي ، تقول عليهم جناين ، يا أبوي جناينا بتطرح عنب وبلح وتين ، لكن جناينكم فاضية بالظبط زي "الأرض البور" إذا طرحت ، تطرح نجيل وشوك.