بقلم أشرف الصباغ
بعد وفاة الكاتب الروسي ألكسندر سولچينيتسين (11 ديسمبر 1918- 3 أغسطس 2008) بأيام قليلة، طلبت السلطات الروسية من أرملته السيدة نتاليا سولجينيتسينا وضع ملخص لرواية "أرخبيل الجولاج"، ليبدأ تلاميذ المدارس الروسية دراسته ضمن برامجهم الدراسية. بعد الرفض والامتعاض، بذلت السيدة سولچينيتسينا جهودها لتبسيط الرواية، لكي يطلع تلاميذ المدارس على حقبة من تاريخ بلادهم. أما سبب الرفض والامتعاض فقد يعود إلى فقدانها الثقة، ليس في العلاقة بين جهاز الأمن والكاتب فحسب، بل في جوهر وكُنه هذه العلاقة أيضًا. إذ إن الجهاز نفسه في مرحلة معينة هو الذي طارده بالمنع والنفي والتشريد، والآن يعود مُهَلِّلًا ومُرَحِّبًا بما كان يمنعه. والسؤال الذي تردد: لماذا؟ وهل أصبح الكاتب مُهِمًّا للوطن وللأمة بعد أن كان عدوًّا لهما؟! هل استيقظت السُّلطات فجأة من نوم كان مفروضًا عليها؟! هل يتم ذلك مع سولچينيتسين تحديدًا؟! أم مع كُتَّاب آخرين أيضًا؟! أو بالأحرى، هل يجري منع ودفن وتشريد آخرين، في نفس الوقت الذي يتم فيه إحياء أعمال سولچينيتسين؟! أمّا لماذا وافقت أرملة الكاتب، فلا يمكن معرفة السبب!.
انطلقت مبادرة تلخيص رواية "أرخبيل الجولاج" من جانب رئيس الوزراء الروسي آنذاك (رئيس روسيا السابق في الفترة من عام 2000 إلى عام 2008)، والذي رأى – فجأةً - أنه بدون دراسة هذا الكتاب لن يكون هناك تصور كامل عن روسيا!! وبالتالي، لم تكن مصادفة أن تهتم وسائل الإعلام والأوساط الثقافية والأدبية الروسية بمبادرة رئيس الوزراء (الرئيس السابق) بوتين. واعتبر الكثير من الشخصيات الثقافية والأدبية أن وضع رواية صاحب نوبل في البرامج الدراسية يأتي ضمن تقاليد التعليم الروسي، التي تحرص على أن يُنهي التلاميذ مدارسهم ولديهم تصور واسع عن الأدب الروسي الكلاسيكي والمعاصر، وذلك بتدريس أعمال كُتَّاب تلك المراحل. ذلك إلى جانب تدريس الحضارات القديمة في مصر والعراق. والتركيز على الأولى تحديدًا. غير أن تلك الشخصيات أبدت مخاوفها أثناء وضع لوحة كاملة لما يجري. فرئيس الوزراء (الرئيس السابق) هو رجل مخابرات سوفيتي. وكان مُعاصرًا لكل ما حدث للكاتب ألكسندر سولچينيتسين.
إذًا، فكرة تدريس "أرخبيل الجولاج"، أكثر مؤلفات سولچينيتسين إثارة للجدل، خرجت من رجل استخبارات سابق تولَّى رئاسة روسيا لثماني سنوات (2000 – 2008)، وأصبح رئيسًا لوزرائها فيما بعد (2008 – 2012). وعاد مرة أخرى إلى الرئاسة، ليفوز بالمنصب بعد إجراء تعديلات على الدستور لتصل مدة حكم الرئيس إلى ست سنوات بدلًا من أربع. وقبل أن يُنهي مدته الثانية بخمس سنوات قام، في عام 2019، بإجراء تعديلات دستورية جديدة لتصفير جميع فتراته الرئاسية السابقة، والبدء من جديد في الحكم إلى أجل غير مُسَمًّى. فهل هناك أشياء لا نعرفها إلى الآن؟ هل الأجهزة الأمنية في الاتحاد السوفيتي السابق - أو في روسيا حاليًّا - على قدر من الفهم والإدراك، يمنحها طرح أو فرض رؤيتها على الأدب والإبداع؟ ما هي قيمة المنع وقدرته على الحفاظ على "أمن الوطن" و"أمن المواطن"؟ وما هي إمكانية التشريد والفصل والإبعاد على إخضاع الكاتب والمبدع وإذلاله والتنكيل به؟.
أمّا رواية "أرخبيل الجولاج" نفسها، فهي رواية ذات سمات خاصة، ترصد واقعًا حياتيًّا، ومرحلة سياسية – اجتماعية، ومنظومة علاقات معقدة على خلفية تحوُّل تاريخي. وهي أيضا تسجيلية ووثائقية؛ لأنها تتضمن العديد من الوقائع والأحداث الحقيقية. وبالتالي، تَسَرَّبَ العديد من حكاياتها وأرقامها وأحداثها إلى وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، وإلى استطلاعات الرأي التي كانت تُعدها المراكز والمؤسسات الغربية. وإضافة إلى فضح الاتحاد السوفييتي، وكشف انحطاط أجهزته الأمنية، وممارساتها المشينة ضد العمال والفلاحين والإنتلجنسيا، نال مكسيم چوركي نصيبًا لا بأس به، لأنه ببساطة لم ينفذ وجهات نظر سولچينيتسين المثالية، ولم يكن عند حسن ظنه. وهذه مسألة تتعلق بخصال وصفات سولچينيتسين الخاصة والشخصية، وكيفية رؤيته للعالم ولمن حوله.
وُلِدَ سولچينيتسين عام 1918، أي أن عمره كان 18 سنة عندما مات مكسيم چوركي. ومن المعروف أن چوركي لم يحصل على نوبل، بينما حصل عليها سولچينيتسين عام 1970. ولكن عندما علت الموجة ضد چوركي، وحاول الكثيرون النيل منه لأسباب كثيرة، لا علاقة لها بالأدب أو الإبداع، خرجت الشاعرة الروسية مارينا تسفتايفا (شاعرة عظيمة ومعروفة جيدًا في الغرب، ولم تكن على وفاق مع النظام السوفييتي) خرجت لترد على الجميع، بمن فيهم سولچينيتسين نفسه، بجملة واحدة تاريخية من ثلاث كلمات فقط: "چوركي هو العصر"!.
حرية التأويل
حصل سولچينيتسين على جائزة نوبل عام 1970 عن روايته "أرخبيل الجولاج"، التي كشف فيها للعالم كله ما كان يدور في معسكرات الاعتقال الستالينية، وفي الاتحاد السوفييتي عمومًا، لكنه لم يتسلّم الجائزة إلَّا عام 1974 بعد خروجه من الاتحاد السوفييتي. غير أن كثيرين من النقاد والباحثين يرون أن الكاتب كان معاديًا بشكل غير طبيعي للكاتب الروسي مكسيم چوركي في هذه الرواية، وظل مُتمسكًا بموقفه حتى رحيله، وهو ما يضعنا أمام معضلة "حرية التأويل وحرية التلقي"، ليس فقط بين الكاتب والقارئ، أو بين الكاتب والناقد، بل أيضًا بين الكاتب والكاتب.
من هنا تبدو حرية التأويل وحرية التلقي من أهم معضلات عملية المعرفة بشكل عام، ولا تقتصر فقط على الثقافة أو الأدب والفن. بل هي عملية معقدة، تبدأ من الكاتب أو المبدع نفسه، ولا تنتهي أبدًا مهما تماسَّتْ الدوائر التاريخية التي يمر بها العمل الإبداعي، أو تقاطعتْ، أو حتى انفصلتْ. فالقراءات المعاصرة للعمل تختلف، وتختلف أكثر خلال المراحل الزمنية التالية، سواء من جانب القارئ أو المتخصص أو السلطة. ومن الواضح أن حرية التأويل وحرية التلقي مسألة تخص جميع من يمر عليهم العمل الفني، بما في ذلك السلطة بكل مستوياتها.
إن حرية التأويل وحرية التلقي لا يمكن انتقاصها أو تأطيرها، أو حتى وضع أي قيود عليها، لأنها تدخل ضمن عملية المعرفة بالمفهوم الاجتماعي الواسع. وهي مرهونة بانفتاح المجتمع ككل وبتطوره وتحديثه. كما إنها – أي حرية التأويل وحرية التلقي – لا يمكن أن تخضع إطلاقًا لمزاج السلطة بمعانيها ومستوياتها المختلفة، بل إنها وُجدت أصلًا لفضح جوهر تلك السلطة أيًّا كانت، ومهما كانت قدراتها وإمكانياتها.
لا شك أن كل كاتب يدفع ثمن اختياراته وانحيازاته وأفكاره. وإذا كان الكاتب لا يعرف ذلك فهو مقصر في حق نفسه وفي حق قُرائه وفي حق أعماله. أدرك سولچينيتسين ذلك بقوة منحته صلابة، وإن اختلف معه الكثيرون في الطرح والرؤية. لكن المثير هنا هو تلك الرؤية "الأمنية" تجاه الكاتب وأعماله وتاريخه. فالسلطة السوفييتية - بأجهزتها الأمنية التي شرَّدته بالمعنى الحرفي للكلمة - سمحت بمؤلفات أخرى أكثر حدة في نقديتها، مثل رواية "وداعا جولساري" للكاتب جنكيز أيتماتوف، وملحمة "الدون الهادئ" لميخائيل شولوخوف، والتي حصل على جائزة نوبل أيضًا عنها. والأجهزة نفسها لم تستخدم نفس الوسائل التي استخدمتها الأجهزة الأمنية الأمريكية مع رواية "1984" للكاتب الأمريكي چورج أورويل.
على الجانب الآخر، وقبل قيام الثورة البلشفية، تدخل زعيم الثورة فلاديمير لينين في رواية "الأم" للكاتب الروسي – السوفييتي مكسيم چوركي، أو - بصيغة أخف - نصحه بتغيير نهايتها، حتى يميز بطلها بافل فلاسوف بكل سمات البطل الواقعي الاشتراكي. بينما قامت المخابرات الأمريكية بإجراء تعديلات على رواية "1984" لأورويل.
هذان مثالان فقط لأمور كثيرة حدثت وتحدث وستحدث. وإذا كانت رواية أورويل فُسِّرَتْ بأنها موجهة ضد الشمولية والديكتاتورية في الاتحاد السوفيتي آنذاك، فهي تنسحب الآن على الوضع الدولي للولايات المتحدة الأمريكية نفسها، على الرغم من الجهود الخارقة للمخابرات الأمريكية في توجيه الرواية ضد الاتحاد السوفييتي السابق. أما رواية "الأم" لچوركي فهي ما تزال تحافظ على أَلَقِها رغم التعديلات التي أُجْرِيَتْ عليها بمبادرة من قائد الثورة.
لقد حصل ألكسندر سولچينيتسين على جائزة نوبل، واحتفى به الغرب احتفاءً واسعًا يليق به وبمؤلفاته، إلى أن سقطت الإمبراطورية السوفييتية التي كانت تقصف العمال والفلاحين أثناء احتجاجاتهم، وعاد سولچينيتسين إلى روسيا ما بعد السوفييتية، ليمارس ما كان يمارسه تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، الذين كانوا يكتبون في أوقات معينة، ويسافرون في أنحاء روسيا في أوقات أخرى للاطلاع على أحوال الناس، ثم العودة للكتابة والاشتباك مع الواقع والنظام السياسي والمؤسسات الفاسدة والمنظومة الإدارية الأكثر فسادًا في روسيا. وتملقته السلطة السياسية طوال سنوات كثيرة - في عهدي يلتسين وبوتين - إلى أن تُوُفِّيَ في 2008، وذلك بعد عدة سنوات من إعلان الحرب عليه، والتعتيم الكامل على وجوده، وتوجيه العديد من الإهانات لشخصه. وهذا موضوع آخر يحتاج إلى مقال طويل.
من الممكن أن نختلف مع سولچينيتسين عقائديًّا وفكريًّا، وفي أمور كثيرة، ولكن لا يمكن التشكيك في تعرضه للاضطهاد والإذلال، سواءً أثناء وجوده في معتقلات سيبيريا أو بعد خروجه، أو حتى قبل دخول المعتقل. كما لا يمكن التعامل مع أعماله ببساطة أو باستسهال، لأنه كاتب له سماته الخاصة في الأدب الروسي الحديث والمعاصر، وليس السوفييتي فقط. إن عالم سولچينيتسين يدفع القارئ إلى إعادة قراءة فيودور دوستويفسكي ونيقولاي جوجول وميخائيل زوشِّينكو بعيون أخرى، أكثر إنسانية وعمقًا، ثم يعيده إلى إلى چورج أورويل ونجيب محفوظ وخوسيه ساراماجو وميلان كونديرا وأومبيرتو إيكو. إذْ إن أعمال هاتين المجموعتين من الكُتَّاب شكَّلت - وما تزال تُشَكِّل - وستشكل لسنوات طويلة خارطة طريق مُهمة لفهم ما حدث في العالم خلال الفترة من منتصف القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك بقرون، حتى الآن.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020