الأربعاء 26 يونيو 2024

رباب كمال تكتب: «لم نولد بالأمس».. هل نقع فريسة لأكاذيب «البروباجندا»؟

فن19-10-2020 | 03:56

معظم الأكاذيب التي نصدقها تتماشى مع ما نؤمن به أساسًا. ومن ثَمَّ، فإن القول بأن الناس سُذَّجٌ؛ كونُهم يُصدّقون ما يُملى عليهم في الشأن العام، هو قولٌ في حاجة إلى المراجعة والتدقيق الأكاديمي. 


فالأكاذيب التي يتم نشرها على نطاق واسع لا تُغيّر بالضرورة آراء جموع الجماهير، وإنما تساعدهم على تبرير ما يُكنونه من تحامل، أو أفكار راسخة لديهم بالفعل. كما إن الشائعات التي يصدقها المرء لا تعكس قوة إقناع قائلها، بل تعبر عما يؤمن به المرء ذاته. 


هكذا يمكننا تلخيص الفكرة التي يتمحور حولها كتاب:  not born yesterday :The science of who we trust and what we believe  لم نولد بالأمس، من منظور العلم: من نصدق؟ وبماذا نؤمن؟ الذي صدر في مطلع عام 2020 عن دار نشر جامعة Princeton الأمريكية. 


والعلم المقصود في العنوان هو علم الإدراك Cognitive Science الذي يُعَدُّ من العلوم المتكاملة مع علم النفس، وهو كذلك تخصص مؤلف الكتاب "هيوجو مرسير"، الذي حصل على درجة الدكتوراه عام 2009 في موطنه فرنسا. 


هيوجو مرسير، المتخصص في علم الإدراك السيكولوجي، ألّف الكتاب ونشره باللغة الإنجليزية، واختار عنوانًا يحمل في طيّاته مثلًا شعبيًّا شائعًا في عديد من البُلدان، وفي ثقافات ولغات متباينة، وهو المثل الشعبي القائل: "لم نولد بالأمس"، الذي يُعَبِّر عن نفي صفة السذاجة عن العقل الجمعي للجماهير حسب وجهة نظره، وأشار أن التعميم خطأ، فبعض الجماهير قد تملك ما أسماه آلية اليقظة أوVigilance Mechanism مهما كان حجم البروباجندا المُمنهجة التي تستهدف عقولها، وليس بالضرورة أن تكون هذه الجماهير اليقظة من النخب المثقفة. 


لكن، في الوقت ذاته، لا ينكر هيوجو مرسير أن آلية اليقظة هي انعكاس لأفكار صاحبها الـمُسْبَقَة، فلعل اليقظة في هذه الحالة نابعة من موقف معارض مُسْبَق، وليست يقظة موضوعية بحتة. 


الكتاب، الذي لم يتعد عمره بضعة أشهر، أثار الكثير من الجدل، إذْ يرى مرسير أن التسليم بمقولة "إن الجماهير ساذجة، وتصدق أساليب الإقناع المُمنهجة، سواء السياسية أو الدينية" هو أمر مغلوط، وأن محاولات الإقناع تلك تفشل فشلًا ذريعًا.


تطرق مرسير في كتابه إلى ظاهرة نفسية تُعرف بظاهرة تأثير الطرف الثالثThird Party Effect، وفيها يعتقد الفرد أن الرسائل الإعلامية المُمنهجة لا تؤثر فيه، بل تؤثر في الآخرين، فيعتقد أنه أكثر ذكاءً من غيره، رغم أن نفس الفرد قد يخضع لتأثير رسالة إعلامية من نوع آخر، إذا كان هذا التأثير متماشيًا مع قناعاته الفردية. 


يضرب مرسير مثلًا من خلال نموذج ألمانيا النازية في حقبة هتلر، وكذلك نموذج السلطة الشمولية في كوريا الشمالية، فيقول إن مشاهد خضوع الجيش الألماني لهتلر وتحيته، أو مشاهد بكاء مواطني كوريا الشمالية إزاء رؤية الرئيس كيم جونج أون، لا يمكن تصنيفها تحت بند سذاجة الشعوب، وإنما يمكن تحليلها من خلال فهم سيكولوجية الجماهير التي تؤيد الشمولية، إمّا خوفًا، وإمّا من باب المصلحة الشخصية، أوعلى الأقل درءًا للشر. وهنا يؤكد مرسير أن البروباجندا المنظمة للأنظمة الشمولية - مهما وجدت من يهتف لها - تفشل في تغيير القناعات العامة لدى الجماهير، حتى وإن وجدت بعض المؤيدين لها في سُدَّة المشهد الإعلامي، وإنما تتماهى تلك الجماهير مع البروباجندا إدراكًا لواقعها وليس سذاجةً منها. فالتماهي قد يكون لمصلحة اقتصادية، أو للتخوف من قطع سبل العيش، أوخوفًا من التنكيل. 


ومن بين العبارات التي تستوقفنا في الكتاب هي قول مرسير:Making people dumb doesn’t make them gullible أو: المساهمة في تجهيل الجماهير لا تجعلها ساذجة بالضرورة.


 يرى المؤلف أن هناك فكرة مغلوطة، مُفادها أن غير المتعلم، أو الذي تم إهمال تعليمه، أو الذي تم منعه من التفكير، سيصبح ساذجًا. لكن هذا ليس صحيحًا، ويضرب أمثلة من تاريخ البشرية، فقد كُنَّا نعتقد أن العبيد من السود أقل ذكاءً، لكن مرسير يُرجع ضعف القوة العقلية للسود إلى الحياة في ظروف الاستعباد الشاقة، والعمل المُنْهِك وقلة النوم، أو أثر التعذيب المباشر، أي إنها ليست بسبب البلاهة الوراثية كما كان يُشاع. 


هنا يختلف مرسير مع الاعتقاد الشائع لدى مدرسة علم النفس القديمة، التي تجنح إلى التسليم بأن التعذيب الجسدي والإرهاب المعنوي من الأساليب الناجحة في غسيل المخ وإقناع البشر بشكل مُطلق. بل يرى أن هذه الأساليب كانت سببًا في انقلاب السحر على الساحر، وصنعت حراكًا متمرّدًا، حتى وإن كان صامتًا. 


هذه النظرية من كتاب "لم نولد بالأمس" تُذَكِّرُنا بظاهرة أخرى سُمِّيَتْ "التمرد الهادئ"Quiet Mutiny، التي انتشرت بين الجنود الأمريكيين في حرب فيتنام، اعتراضًا على النهج العسكري والظروف العسيرة التي استغلتهم لصنع بروباجندا سياسية عن التضحية بأبناء الوطن من أجل رفعة الوطن واستقراره. 


ويذهب مرسير في كتابه إلى أن استمالة الجماهير Mass persuasion لا تنجح عن طريق البروباجندا المُوجهة، التي تُملي عليهم أفكارًا متصلبة، وتطالبهم بمنع التفكير، أو تمنعهم فعليًّا من التفكير، وإنما تنجح البروباجندا الساعية إلى الاستمالة الجماهيرية حين تعزز التفكير النقدي، لا حين تمنعه، وحين تمنح مساحات للجدال الفكري، وتسعى لكسب ثقة الجماهير بالدليل البيّن.


يرى مرسير أن استمالة الجماهير لا تنجح بحجب المعلومة، وإنما بتوفيرها، وصنع حالة من الشفافية، خاصة في ظل الإعلام الرقمي المعاصر. فحين لا تتوفر المعلومات يلجأ العقل الجمعي إلى التشكك العقلاني rational skepticism، ويبحث عمَّن يدعم شكوكه، وقد يؤدي ذلك إلى الانزلاق نحو نظريات المؤامرة.


 وبالتالي، فالعقل الجمعي ليس ساذجًا، لكنه مُجَهَّلٌ. وهناك فرق بين التجهيل وبين السذاجة التي أشار إليها مرسير في كتابه بـ Gullibility، حسب دراسته لعلم الإدراك السيكولوجي. 


يؤكد مرسير في كتابه أن الأزمة لا تكمُن في المعلومة التي صدقناها وكان يتوجب علينا رفضها، وإنما الأزمة تكمُن في المصدر الذي نرفض تصديقه بسبب غياب المعلومات، والحُجة التي تؤصل ذلك المصدر. 


أما عن استخدام العقيدة الدينية في التأثير الجماهيري، فيرى مرسير أن نسبة التحوُّل من ديانة إلى أخرى محدودة، وأن النمو الحقيقي في استخدام التأثير العقائدي ناجم عن تزايد المواليد لتلك الطوائف المتنافسة، أي استخدام آلة الإنجاب في زيادة رقعة الأغلبية الدينية المؤثرة. 


لعل ما سطره مرسير يأخذنا إلى عقد مقاربة واقعية، فهناك ما تفعله - مثلًا - كنيسة المورمون في ولاية يوتاه الأمريكية، والتي زرتها قبل عامين في 2018، إذْ نجدها داعمة لفكرة دعم الإنجاب كوسيلة لزيادة التأثير الديموغرافي، وتأثيرها في صنع القرار، من خلال صناديق الاقتراع، رغم الفصل بين الكنيسة و"التشريع" (نلاحظ الفارق بين التشريع والخطابات السياسية). وفي المقابل، هناك تلك الأفكار التي تنشرها جماعات الإسلام السياسي للزحف المقدس داخل بُلدانها وفي بلاد المهجر، وهو ما طرحه الداعية فتحي يكن من خلال كتابه أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي عام 1981. 


 برغم أن كتاب "لم نولد بالأمس" يناهض النظريات النمطية عن سيكولوجية الجماهير، إلَّا أن مربط فرس الكتاب في حاجة إلى شيء من التفنيد ومزيد من الدراسات، خاصةً وأنها قد تساعد على رؤية أزمة العنصرية على مستوى جماهيري، ليس بسبب سذاجة البشر، وإنما بسبب إدراكهم وقناعاتهم بنقاء أفكارهم العنصرية، التي يصنعون منها نموذجًا للتسامح الانتقائي. فالمتعصب ليس ساذجًا، بل هو مقتنع بالعنصرية ضد الآخر، ويعتبرها فطرة بشرية سليمة. 


ولعل مرسير - من خلال كتاب "لم نولد بالأمس" - يسعى إلى استكمال ما طرحه في كتابه الأول The Enigma of Reason لغز العقل عام 2017. 


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020