الأربعاء 19 يونيو 2024

مرسي جميل عزيز وخالاتى الثلاث سعاد وعظيمة ونجوى

أخبار19-10-2020 | 21:04

 "ياما يا شمع المندرة قوليلى يا اما مين اللى نقا واشترى واختار وسمّى أبويا ولا انتى اِنتى يا حلوة انتى اِنتى يا نعمة يا حلوة يا اما".


حتى الآن لا أفهم معنى هذه الكلمات ولكن عندما أسمعها أشعر أنني أتذكر أمى وأن عجلة الزمن عادت بى إلى أيام وإحساس زالت حلاوته في روحى، كنت صغيرة جدًا وتسربت الأغانى إلى وجدانى من خلال خالاتى اللاتى كن بالنسبة لي أميرات الأساطير في رقتهن وأحلامهن البكر الممزوجة بالأمل في الحياة، منهن ومعهن ومع أغانيهن تعرفت على مشاعر مثل الحب والدلال والتمنّع والشوق، كنّ يصغرن أمى بأعوام سمحت لها أن تسبقهن في الزواج والإنجاب، كنت في السادسة أو السابعة من عمري عندما بدأت أعي جلسات خالاتي في ساعة العصاري مع برّاد الشاى بالنعناع، يتبادلن الغناء، والدعابة، والحب، بمقاطع من الأغنيات، التي أصبحت أفهم فيما بعد مغزاها.


فكلمات مرسي جميل عزيز بصوت فايزة أحمد: "يا اما أرد الباب واللا أناديله"، كانت تخفي وراءها أسرار الخالات عن المعجبين والمحبين والراغبين:"حد من الجيران وصف له قُلتنا أسقيه ينوبنا ثواب ولا أرد الباب"، كانت تعني الحيرة بين القبول والتمنع.


خالتى الصغيرة والتي لم تكن قد ارتبطت بعد، فكانت أغنية مثل: "توب الفرح مغزول من الفرحة فاضل يومين يدوب وألبسلك الطرحة"، أما أغنية عبد الحليم حافظ: "ولحظة حب عشناها نعيش العمر تسعدنا ومين ينسى ومين يقدر في يوم ينسى شعاع أول شرارة حب"، لا أنسى أبدًا دموع خالتي التي استشهد خطيبها في حرب الاستنزاف، وبالرغم من محاولتها التماسك كانت تسقط الدموع على خدها عندما كانت تسمع جملة: "ولا ننسى أعز الناس حبايبنا"، ظلت هذه الأغنية لعبد الحليم تستدعي داخلي هذه اللحظات التى يختلط فيها الحنين مع الوفاء مع الفقد بفراق محتوم لا منقذ منه سوى الذاكرة، أما من كانت في انتظار عودة الخطيب من ليبيا لإتمام الزواج كانت تدندن أغنيات مثل، "على عش الحب"،  وأغنية: "يا بيت أبويا معزتك في عنيا ما شفت منك غير ليالي هنية"،  والتي استطاع عزيز فيها أن يعبر عن هذه الحالة من الفرحة والارتباك والوحشة والعرفان للأب والأسرة، أعتقد أن هذه الأغنية أبكت الملايين في ليلة الحنة أو الفرح.


مئات من الأغنيات شاركت الناس أحلامها، وأحزانها، تزوجت الخالات وكبرت أنا قليلا وبدأت أكتشف تلك المشاعر فأذوب مع كلمات: "يا قلبى خبى لا يبان عليا ويشوف حبيبى دمعة عنيا" لعبد الحليم، أو "أنا قلبى إليك ميال" بصوت فايزة أحمد، ثم "بأمر الحب اِفتح للهوى وسلم بلاش نسكت على قلوبنا بلاش الشوق يدوبنا" بصوت عبد الحليم.


وكعادة معظمنا لا نسأل من كتب الكلمات أو من وضع اللحن، نقول: "ياما القمر على الباب"، فايزة أحمد، أ أو "فات الميعاد" لأم كلثوم، "بأمر الحب"، لعبد الحليم،"عوج الطاقية"عفاف راضى، ولكن أختي التي تصغرني بعامين كانت منذ طفولتها ربما في المرحلة الابتدائية تهتم جدًا بأشياء لم تكن تخطر ببالنا، اسم مؤلف الأغنية، واسم الملحن، لدرجة أنها تستطيع معرفة المؤلف أو الملحن من روح الأغنية، بدأت أسمع منها أسماء مثل مرسي جميل عزيز ومحمد حمزة، وبدأت أنتبه وأتتبع المؤلفين وكلمات الأغانى، والآن أستطيع أن أرى كيف كان مرسى جميل عزيز ملمًا بثقافة مجتمعه وأفكاره، فكانت أغنيات مثل، "بيت العز يا بيتنا"، والتى اخترناها أنا وأخواتى اسمًا للمجموعة الخاصة بأسرتنا على مواقع التواصل الاجتماعى، أو "يا بيت أبويا معزتك في عنيا"، كان بارعا في استخدام "الموتيفة" الشعبية التي تكسر هذا الحاجز بين المتلقي والأغنية، فنجده مثلا يستخدم مفردات مثل المندرة والطاقية والقلة، وقد استخدم بليغ حمدى أيضا هذا النهج فكانت جمله اللحنية فيها الكثير من الروح الشعبية، كان مرسي جميل عزيز أيضا قادرًا على فهم طبيعة المطرب والملحن، فالكلمات التى تكتب لعبد الحليم حافظ ستكون مفرادتها مختلفة عن تلك التى ستغنيها شادية، أو فايزة أحمد، أو أم كلثوم، ومع ذلك لم تبعد كلماته عن روح المجتمع حتى لو تنوعت مفرداته واختلفت.


أتذكر أننى وأختى اخترنا عددًا من كلمات الأغاني وقررنا فصلها عن إحساسنا بها كأغنية نعرفها، أي  نخرج من إحساس اللحن وصوت المطرب ونتعامل معها ككلمات مجردة، وربما كانت هذه بداياتى مع فهم تأثير الكلمة وقوتها.


اخترعنا لعبة فيما بيننا، وكان الحكم أختنا الثالثة، لعبتنا كانت أي الجمل أكثرها عادية وتشبه كلام الناس، أتذكر من الاختيارات ( وعايزنا نرجع زى زمان قول للزمان اِرجع يا زمان) مرسي جميل عزيز، أو مثلا، (أنساك يا سلام أنساك دا كلام ) للشاعر مأمون الشناوي، أو ( ياللي ظلمتوا الحب وقلتوا وعيدتوا عليه.. قولتوا عليه مش عارف إيه) مرسي جميل عزيز، أو مثلا (جانا الهوا جانا ورمانا الهوا رمانا) محمد حمزة (أنا وِانت وبس يا حلاوتنا) مرسي جميل عزيز، كنا نتجادل، هذه الجملة عادية أكثر من هذه وهكذا، لعبة ممتعة ولا تنتهى، فالأغنيات بالآلاف، والأفكار مختلفة، فمرة نختار أيها أكثر رومانسية، ومرة تكون اللعبة أيها أكثر حزنًا.


مرسي جميل عزيز شاعر الألف أغنية، كلماته المشحونة بطعم الحياة بكل ما فيها فرح وحزن وأمل وفقد،  كتب عن الحبيب وعن الأب والأم، مادة ممتعة للعبتنا، وأغانيه دائمًا في الصدارة، ومع الوقت أصبحنا نلعب لعبة أخرى نؤلف جملًا صغيرة ونتنافس بيننا على كتابة جمل قصيرة لها نفس الروح، أتذكر أنى كتبت مثلا (وتفوت سنين وكمان سنين ويجبنى ليك تانى الحنين) أو (كل مرة أقول لنفسي حبك دا وهم وأختار طريق وأبعد بعيد).


مع هذه اللعبة بدأت تصوراتى عن تكوين الجملة وكيف تكون، أعلم أن كتابة السرد مختلفة عن كتابة الأغنيات ولكنى أدركت سر قوة كلمات مرسي جميل عزيز التى تبدو عادية، يستطيع أن يقولها أى إنسان مع اختلاف درجة تعليمه، أو مكانته الاجتماعية، ولكنها تركت أثرا في وجدان الناس، لأنها مزيج الوعى والفهم والإحساس والإدراك، استطاع مرسي جميل عزيز أن يقدمها بصدق وبروح وبمفردات تشبه الناس.