في العام 1998 م وفي شهر ديسمبر تقريباً دعا
"مجلس إدارة أتيليه القاهرة" جماعة الفنانين والكتاب ، لحفل تكريم بمناسبة
بلوغي الستين عاماً من عمري ، مرت في غفلة رحلة طويلة من الاجتهاد ما بين التحصيل الثقافي
والأدبي الإبداعي ، وكنت قد عدت من "جنيف" بمفوضية الأمم المتحدة بعد رحلة
عمل هناك بدأت مع العام 1976م ، تاريخ ومحطات فارقة بكافة حوادثها أو أحداثها في مسيرتي
الإنسانية أو الأدبية ، ما أردت التحدث فيه انطلاقاً من دلالة ذكر هذه التواريخ هو
عدة مواقف أردت متعمداً أن أرصدها بشكل مباشر في سطوري هذه ، وهذا بقصد اطلاع الإنسان
العادي ، قبل القارئ المتخصص أن يري كيف كانت بداية رحلة الإنسان "بهاء طاهر" قبل الروائي ، في "أتيليه القاهرة" كان
الوقت مساءً ، وأنا محاط بالزميلات والزملاء أحبائي في رحلة الإبداع وقبله الحياة ،
أحاطني كل من عاشرتهم بحبهم ، وأحبوني كبني آدم ، ثم كاتباً روائياً ، قدم سبعة أعمال أو ستة على مدار ستين
سنة من عمره . وثلاثين ويزيد علي بداية رحلة الكتابة ، تحدث أصدقائي ، د. فريال غزول
، د. سيد البحراوى ، جميل عطية إبراهيم ، ماري تريز عبد المسيح ، وصفوة من نقاد الفكر
والأدب عن جدوى الرحلة ! رحلتي في الأمم المتحدة بعدما هاجرت من مصر متعمداً مع بدء
العام 1976م ، وبعد أن اختتمت فترة من أهم فترات حياتي كمحاور ومعد برامج ثقافية في
الإذاعة المصرية أيام زمان ودورها الحضاري المستنير ، بدأت فعاليات حفل الأتيليه بكلمة
من صديق عمري الروائي العصامي الجسور الراحل "محمد مستجاب" الذي افتتح حفل
تكريميًا بكلمات إنسانية في الحياة والإبداع ، نقطة دماء تتساقط من روحي وجسدي عبر
رحلتي الشاقة مع الحياة ، وقال مستجاب : أحيي بهاء طاهر الإنسان قبل الروائي لأكثر
من سبب أولاً لأنه استطاع أن يجزم أمره في أيام قليلة وفي محطات فارقة في حياته ، عندما
خذلته ظروف حياتية أو قل عاطفية اجتماعية ، رومانسية ، وكانت سبباً في أن يترك مصر
القاهرة متوجهاً إلي جنيف ، بلا عودة ، بعد أن اختلف مع من كان قد قرر أن تشاركه الرحلة.
امرأة ما ! وإلي هنا سأتوقف عند دلالة ما ذكرت
1976م ، وبدء الانطلاق نحو جنيف ، ورحلة الاغتراب والمنافي المقصودة ؛ هرباً من سقطات
عاطفية وأزمات نفسية.
أتذكر "مستجاب" وأستعيد ما رواه
في هذه الليلة ؛ لأتذكر أنا بدوري ما فعلته لنفسي ومع نفسي.
تحدث مستجاب يومها عن العذابات التي واجهت
"بهاء طاهر" وقوته في اتخاذ قرار الهجرة والسفر بشكل قوي وحازم 1976 ، وعودته
1998 ، اثنان وعشرون عاماً في جنيف ، ورحلات لأوروبا بعيداً عن عملي ومهمتي الثقافية
المعرفية في الأمم المتحدة ، الآن وبعد مرور عشرة أعوام علي حفل التكريم في الأتيليه
، ديسمبر 1998 أو يناير 1999م علي وجه التقريب ، كانت المحطات الفارقة ، وكيف تستعاد
في سيرة روائي قرر أن يترك وطنه ومكان ميلاده في لحظة خشي فيها من الضعف نتيجة قلبه
ومشاعره وعواطفه التي انجرحت ، واهتزت جذرياً بسبب الإخلاص للمرأة والمحاولات الدائمة
للتلاقي ، تلاقي الذاتي مع الحياتي العاطفي ، وبلورته في شكل أو مشروع اجتماعي وإنساني
طموح بالتأكيد كان سيعود بنتائج مختلفة للطرفين
أنا وهي من كانت ؟! والتي ستظل محل احترام عقلي وفكري ، لأنها صنعت ما هو متوافق مع
موقفها من الحياة.
لن أترك مكاني في الإذاعة والتلفزيون من أجلك
يا بهاء!
عبارات لم أكن أريد استعادتها من الذاكرة ،
وكم رفضت الخوض في أسرار حياتي ، فلماذا الآن أيها القارئ العزيز ، وبعدما بلغت أو
قاربت واقترب عمري من السبعين عاماً ، هل لأننا وعندما يوفقنا الله ، وتسعدنا الأقدار
بتحقيق إنجاز ما أدبي أو علمي ، نرى الحياة بشكل آخر حتى أدق التفاصيل المعذبة في حياتنا
؟ ما أغرب الأمس ، وما آسى فترات اغترابي على نفسي ! وما أسعدني آنياً رغم أنني أشكك
كثيراً في كلمة "السعادة " ، ورغم تشاؤمي من مستقبل العمل والفكر والثقافة
في أوطاننا العربية إلا أنني والآن تحديداً وبعد أن عدت لمصر ، واستأنفت الكتابة الروائية
بشكل أكثر انتظاماً ، بحثت في نفسي وفيمن حولي عن معني الزهد ! كيف تسير وتصبر زاهداً
أو أنت المحب والعاشق للحياة ؟!
2 تاريخ ومحطات (جنيف ـ القاهرة)
جاءت احتفاليات عديدة ترجمات لرواياتي بشكل
أكثر غزارة . وفي أكثر من لغة بعيدة عن العربية ، ثم جوائز مصر التقديرية في الآداب
، جائزة البوكر العربية ، لقاءات إذاعية وتلفزيونية وإعلامية عديدة في أعوامي العشرة
الأخيرة 1998 / 2008 م ، وأعود لنفسي لسؤالها : هل أنت سعيدة ، متشائمة ؟
أنجزت حقاً ؟! ماذا بقي في ذاكرتك من تفاصيل
حياتك ؟
الرحلات الأوروبية ، أسفارك العديدة في عواصم
ضبابية وثلجية باردة بحجم وقوة الخواء ، يا لها من رحلة عجيبة ما بين الأمل والرجاء
، سطرت أو بلورت أو صورت في عدة أفلام تسجيلية وروائية أنتجت وقدمت من أجلي ، قابلني
مخرج موهوب منذ سنوات عديدة وعرض عليّ فكرة استرجاع ما مضى سابراً أغوار تجربتي الحياتية
والإبداعية مع المنافي والإبداع ، واقفاً عند عتبات نصي الروائي الأثير.
الحب في المنفى "عنوان رواية من رواياتي ، رأيت
حصاد" تجربتها الذاتية قبل كتابتها في مخيلتي ، كانت الفكرة ملحة قبل الكتابة
وانكتبت الرواية فترة الثمانينيات ، بالإضافة لأعمال أخرى "بالأمس حلمت بك"
، "خالتي صفية والدير" ، و "الخطوبة" أعمال روائية وقصصية أولية
وفارقة في رحلتي مع الإبداع ، وتأتي صور المخرج الذي حدثني : لتجيب عن بعض الأسئلة
بداخلي ، ومن خلال مشاهدات مئات أو آلاف الأصدقاء الذين شاهدوا هذا الفيلم تحديدا صور
المخرج خطواتي ، ترجلي ، خطوي ، ترحالي في جنيف وسويسرا ، فجاءت الصور والسيرة جزلة
وعميقة وموحية ولكنها ضبابية ! فهل حياتي كانت ضبابية بالفعل أم هي فلاتر أو مرشحات
المخرج صاحب الفيلم والرؤية واللغة البصرية ، الوسيط المختلف الذي رصد ثمة خطى أو محطات
في حياة بهاء طاهر الإنسان ، خمسون عاماً مع الإبداع أتذكرها الآن ، وفي أيار ( مايو
) 2008 ميلادية ، وأستعيد أطياف السيرة ، وأسأل نفسي : أي الأشكال الفنية أو الحقيقية
الواقعية هي الأقرب إلى سيرتك الحقيقية يا بهاء ؟ هل هي صورة المخرج في فيلمه الروائي
التسجيلي البديع الذي عرض عشرات المرات في كافة المحطات أو القنوات المصرية والعربية
والدولية ؟ هل هذه حقيقتك وأنت تمشي هائماً على وجهك قرب محطة الباص في "جنيف"
تاركاً الأشجار العارية ، والعمارات العالية والبشر المحدقين في وجهك ببرود وغرابة
، وقد ارتسمت على ملامحهم شتى الانطباعات ما بين الحب والفتور والرغبة في المراقبة
عن بعد لحركات هذا الرجل الأسمر وقت ترجله ، الآن أسأل نفسي من جديد ، كيف نري أنفسنا
، كيف نري صورتنا وملامحنا الحقيقية ؟ هل هي في الكتابة والرؤى أم عبر الوسائط صورة
في التلفزيون والسينما ، أم عبر حكي الأصدقاء الحميمين عنك ؟! أم عبر حكيك وسؤالك لنفسك
عن جدوى ما حققت في خطى ودروب ومحطات الحياة.
أنا الآن أقترب من سن 70 ، وما زلت أبحث عن
صورتي داخلياً في نفسي وعيون وحفاوة الآخرين وكتاباتهم عني بل ومصافحتهم لي ، من يحب
ومن يكره ، ولكن أين بهاء الحقيقي ؟ سؤال صعب وليس للتشاؤم دور في طرح أو استنتاج الإجابات
المناسبة أو اللائقة في نهاية الرحلة أظننا كلنا كفنانين ـ مجازاً ـ كلنا ككتاب ومبدعين
في احتياج دائم لكل هذه الوسائط ؛ لكي نرى أنفسنا ! أنا في حفل الأتيليه في جنيف في
ندوة في صورة إذاعية تلفزيونية تحمل لغة بصرية ، أين أنا في كل هذا ومتى يرسو الفتي
؟ وكيف ستكون الخاتمة مع الحياة والإبداع ؟ أسأل نفسي السؤال الأخير ، وبعد كل هذه
التفاصيل : هل كل منا قد رأى وحدد ملامحه بشكل حقيقي من خلال علاقته بنفسه ، أم أن
الآخرين والمحبين تحديداً هم الأدق والأصدق في رسم صورتنا الحقيقية ؟ وهل هناك فارق
بين حياتنا في الإبداع والفن ورؤية الإبداع والفن في رؤية الآخرين لحياتنا ؟! أيهما
أصدق ، سؤال موجه للقارئ العزيز فإذا توصل لإجابة فعليه أن يهاتفني ، يجوز أن تتخلق
أفكار أخرى عن الناس ، ودلالات الأزمنة والمحطات الفارقة في الحياة والأماكن.