الأحد 19 يناير 2025

فن

ابن الفارض .. نجم ليالي الإنشاد الصوفي في رمضان !

  • 21-10-2020 | 11:59

طباعة

يعتبر الشيخ ياسين التهامي أحد أبرز نجوم الإنشاد الصوفي في  مصر على مدار العام وفي رمضان تحديدا حيث دخل بفرقته الأوبرا المصرية وأكبر مسارح العالم ينشد من شعر سلطان العاشقين عمر بن الفارض المدفون في سفح جبل المقطم ، يقف ياسين وينشد من شعر سلطان العاشقين في العشق الإلهي : (وينبيك عن شأني الوليد وإن نشابليدا بإلهام كوحي وفطنةإذا أنَّ من شد القماط وحن-  في تفريج إفراط كربة - يناغى فيلغي كل كل أصابهويصغى لمن ناغاه كالمتنصت). ورغم صعوبة المعاني فإن البسطاء والعامة يتمايلون مع غناء التهامي رجالا ونساء، وكذلك بعض المستشرقين والأجانب ويتسلطن التهامي فينشد حتى أذان الفجر، ومما ينشده التهامي) : يا كل ما أبقى الضنى مني ارتحلفمالك مأوى في عظام رميمةونفسي لم تجزع بإتلافها أسىولو جزعت كانت بغيري تأست)  .

ياسين نشر شعره

كان ابن الفارض معروفا عند المتخصصين في دراسة الشعر الصوفي وعند محبيه من المصريين والأجانب ولكن صوت ياسين التهامي نقل معرفته لرجل الشارع الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولأن شعره محمل بطاقة روحية هائلة أو بتعبير الصوفية، شعر به فتوة روحية فقد أثر بكل سامعيه وتمايلت أرواحهم معه قبل تمايل أجسادهم، ولا عجب في ذلك لأن الأرواح تشعر بما يصلها بالملأ الأعلى فتهيج شوقا لجنتها الأولى، وكان سيدي عمر ابن الفارض نفسه إذا فتح عليه ببيت جميل يغيب عن وعيه ويرقص زمنا، وقد قال ابنه إنه وجده يرقص فرحا مرة ثم سجد شكرا لله فلما سأله عن السبب قال له إن الله فتح عليه بمعنى لم يسبقه إليه أحد ولم يأته من قبل وهو هذا البيت في العشق الإلهي) : وعلى تفنن واصفيه بحسنه  يفنى الزمان وفيه مالم يوصف)! وحال التهامي مع ابن الفارض كحال أم كلثوم مع رامي مع الفارق فلولا صوتها ما وصل شعر رامي وكلامه الجميل ليؤثر في جزار أو بائع بطاطا سريح !

التهامي

وبلا جدال يعتبر الشيخ ياسين التهامي أكبر منشد لشعر ابن الفارض حاليا ولم يحقق التهامي شهرته وثروته ومجده إلا من شعر ابن الفارض ولم يلتفت الأجانب إليه إلا لغنائه من شعر ابن الفارض، ولم يدخل الأوبرا وغيرها من مجالس الكبار إلا بسبب شعر ابن الفارض وإتقانه وحفظه ونقله من دائرته المحدودة حيث ولد بقرية الحواتكة بمنفلوط في صعيد مصر إلى كل أرجاء الدنيا، والشيخ ياسين درس بالأزهر حتى السنة الثانية في الثانوي الأزهري ثم هجر الدراسة وتغلب عليه الإنشاد الصوفي وتأثر بالمنشد الأكبر الراحل الشيخ أحمد التوني الذي كان يحفظ أشعار المتصوفة دون ورقة أو قلم بل سماعيا، ولكن التهامي أفاد من عصر شريط الكاسيت ثم عصر السي دي والفلاشات والتليفونات الذكية فانتشر إنشاده بكل مكان بسهولة ويسر وبضغطة زر،  ووصل به الحال أن أقام حفلات في عواصم أوربية، وأعدت عنه برامج متخصصة في أشهر إذاعات وفضائيات العالم، نعم التهامي ينشد أحيانا للحلاج والسهروردي وابن عربي، ولكن غالبية إنشاده وسر شهرته من أشعار ابن الفارض .

التهامي الابن

ويستكمل ابنه محمود التهامي الطريق مع الإنشاد الصوفي وخطى خطوة أبعد بتأسيس نقابة المنشدين مع زملائه خاصة طه الإسكندراني ومصطفى النجدي وذلك منذ سنة 2013 حيث أقاموا أول مهرجان للإنشاد الصوفي، ومحمود حاصل على ليسانس لغة عربية من جامعة الأزهر وتمهيدي في علم النفس ودراسات حرة بالكونسرفتوار، أي يجمع بين الموهبة والوراثة والعلم .

منشدون ومنشدات وأقباط !

وإذا ما عدنا للوراء باختصار شديد سنجد أن أصل الغناء في مصر يرجع لمدرسة المشايخ المعممين من الشيخ علي محمود وإسماعيل سكر لزكريا أحمد ومرورا بطه الفشني ومحمد الكحلاوي وطوبار وسيد النقشبندي وأحمد التوني وابنه محمود، ولا ننسى أبو العلا محمد أستاذ أم كلثوم وهي نفسها بدأت منشدة لسيرة الرسول بالموالد والمناسبات الدينية مع أبيها وأخيها .

ومن المنشدات، كل ذلك طبيعي، ولكن هناك منشدون أقباط في سيرة الرسول والشعر الصوفي ومنهم ) مكرم المنياوي وجميل عبد الكريم ( ولا مجال للعجب حقا لأن الروح الإنسانية واحدة والشعر الصوفي يخاطب الروح وهي من الله وواحدة في أصلها بين كل البشر .

سيرة ابن الفارض

ولكن من هو سيدي عمر ابن الفارض الذي أصبح بشعره نجم الليالي والإنشاد الصوفي، ولد في 576 هجرية وانتقل في 632 هجرية وعاش فترة الدولة الأيوبية وكان والده من كبار علماء الدين والمشايخ الكبار وكان عالما بعلم المواريث الذي يسمى (علم الفروض ) فعرف به وسمي ) الفارض ( وأصل والده من حماة بالشام لكن عمر ولد وعاش بمصر وقال واصفوه إنه كان شديد الجمال والبياض معتدل القامة لطيف المعشر، وينتهي نسبه إلى السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول ولذلك جاءه الرسول في الرؤيا وقال له مرة) يا عمر أنت مني) ، بدأت جذبته يوم اعترض على وضوء غير صحيح لشيخ مسن فكان أن أرشده إلى فتحة في مكة، وكان هذا الولي الخفي سيدي محمد البقال، وبالفعل لزم ابن الفارض مكة 15 سنة ولزم جبل أبي قبيس والتقى السهروردي في الحج، وفتح الله عليه هناك، ثم عاد لمصر ليدفن شيخه بسفح المقطم حيث دفن ابن الفارض لاحقا، ورغب السلطان الأيوبي الكامل أن يلتقي به فكان يهرب منه، وكم من مرة أرسل إليه مالا فكان يفرقه على الناس ولا يأخذ منه شيئا، وطلب منه السلطان أن يبني له قبة فخمة وضريحا كبيرا فرفض . وكان يسيح يالأيام والليالي بالمقطم حيث ضريحه وكانت المنطقة تسمى عند أهل الكشف) وادي المستضعفين( وكان يستوحش من الناس ويأنس للخلوة والوحوش، ولم يترك غير قصائده التي جمعوها بعد موته في كتاب، ولم يكن يكتب الشعر بل كان يغلبه الحال فتأتيه الكلمات ويمليها، ومرة أرسل إليه ابن عربي معاصره يسأله عن سر ومعنى (تائيتة الكبرى) وهي قصيدته التي تتجاوز 300 بيتا فقال له إن ما حكاه في فتوحاته المكية هو شرح لقصيدته، وكان إذا غاب عنه الحال نزل للقاهرة ولزم الجامع الأزهر، حتى وافته المنية وصلوا عليه ودفنوه بحسب وصيته تحت جبل المقطم . وبعد رحيله وليومنا يعده أهل المعرفة أكبر شاعر صوفي وسموه (سلطان العاشقين) لأنه أبدع في العشق الإلهي ومناجاة الله مالم يسبقه إليه أحد بمن فيهم ابن عربي وجلال الدين الرومي وفريد العطار والسهروردي والحلاج والجيلي وغيرهم ، وشرح كثيرون ديوانه من متصوفة مثل سيدي علي ومحمد وفا وكذلك من الأجانب الذين فتنهم بروحه الإنسانية التي استوعبت كل الناس ، وصدق من ختم ديوانه رئيس لجنة طباعته بأبيات نذكر منها ) : ليس يرى في الشاعرين مقدسا    يناجي إله العالمين فيبدعكمثل ولي الله عمر ابن فارضسما مثل ما تسمو النجوم اللوامع(. حقا سما ابن الفارض واستحق الخلود ليس لأنه شاعر ومتصوف كبير جدا بل قبل ذلك لأنه محب عظيم وصاحب تجربة روحية عميقة أخلص لها دون رياء أو سمعة .

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة