الإثنين 3 يونيو 2024

الإسكندرية الفنانة

فن22-10-2020 | 10:42

كم أتعجب للسكندريين!

فكيف يكون المرء سكندريا ولا يكون شاعرا أو موسيقيا أو تشكيليا أو راقص تنورة ؟! كيف يكون رجلا عاديا هكذا ماشيا بالأسواق ولاهثا وراء لقمة العيش كغيره من الناس فارا من الجمال أو متغافلا عن المباهج المحيطة به وعن الصلاحيات الجمالية الممنوحة له من قبل الطبيعة والتاريخ.

إن الإسكندرية سواء أكانت عاصمة ثانية أو إقليما أو حتى قرية كما يزعم بعض المرضى بالتمييز الجغرافي، فإنها كانت وستظل عاصمة للفن ونبعا للجمال

صغيرة نشأت فلم أر هذه المدينة إلا بحرا كبيرا وشواطئ من مرح طفولي ورمال من حنان تكفي لإعادة بناء العالم بذوق جديد ولإعادة ترتيب عناصره وصياغتها على هوى فنان،  كانت الشواطئ حينذ للهو، ولتلقي حلوى،"الفريسكا" من أيد آباء في صورة باعة ملفوحون بسمرة حانية يوازيهم في منح الغبطة على الشواطئ، مصورون جوالون بمايوهات قصيرة تم استبدالها فيما بعد بما يدعونه "الشورت الشرعي"، والذي وإن نال من صورة الأب القديم صاحب الذوق الراقي والخلق الحضاري في صور الأبيض والأسود، إلا أنه لم ينل من روح السكندري الأصيل المفعم بالرجولة والمحبة و الذي يشعر الطفل أمامه بأن من يقوم بتصويره هو أحد أفراد أسرته عم، أو خال جاء خصيصا إلى هذا المكان ليقوم بإهدائه شيكولاتة السعادة. وعندما يفعت مراهقة كان البحر لي ملاذا من مضايقات الخلق ومن الانكسارات الصغيرة، الكبيرة عندي آنذاك، فكان اتساعه ومياهه اللانهائية تصف كل ما عداه بالضآلة وقلة الأهمية، أتأمله ساعة فأسهو عن حماقات العالم وأتجاوز أخطاءه… القاتلة، أشمر عن ساقي وأضع في مياهه قدمي فأشرب طاقة الكون الإيجابية كلها وحدي ويصفد ملحه عني الشياطين والخبائث. فلكم أعادني البحر إلى نفسي قوية عزيزة.
وكم أوحى إلي اتساعه وثورة أمواجه شتاء بخواطر سرية
أحفظها كوردة تجف بكتبي المدرسية ولا تفقد رائحتها الطازجة بفعل الزمن.
كم ألهمتني أمواجه لذائذ المعرفة، وكم أنشأني رذاذه خلقا آخر.
فلما غدوت طالبة جامعية كانت الإسكندرية لي هي التاريخ وكان التاريخ كله هو الإسكندر الذي طالما اتخذته فتاي وصاحبي ومليكي، وطالما درت وراءه في بقاع المدينة ومتاحفها ومقاهيها وحاناتها ومقابرها باحثة عن أثر له، جزء من ملابسه العسكرية أو فردة حذائه أو ورقة بخط يده يكون قد طبقها وسقطت عنه سهوا، أبحث في المكتبات العامة عما تعلمه على يد أستاذه أرسطو طاليس من مبادئ الحب والسعادة والتطهر.

وعندما وضعوه آنذاك بميدان عبد المنعم رياض على شكل تمثال يمتطي صهوة جواده، كمن يطير به طاويا الزمان والمكان، كنت أقف أمامه وأحدث نفسي قائلة: الإسكندر عال الإسكندر كتفاه فارهتان  أنت مأخوذة بكتفي الإسكندر عينا الإسكندر باردتان كعيني تمثال أنت تلقين عليه شال جوستين(١)فيرتد بصيرا. الإسكندر ينبذ قاعدة التمثال ويرفعك إليه وتطيران إلى مقهى " إيليت" لتكملا معا فتوحاته التى لم تتم".
وعندما أصبحت صبية ناضجة نوعا ظللت أرى مدينتي في تاريخها وشخوصها وحضارتها، وأرى مكتبتها منارة الكون وأرى شواطئها ابتداء من رأس التين إلى أبي قير ليس كمثلها شواطئ فلقد أكسبها التلوث الذي أصفه بالمبارك أكسبها نضجا نادرا....فكانت للناظرين إناثا ثيبات منزهات عن سذاجة أبكار مصر والعالم من الشواطئ، نساء جميلات لا يكففن عن التدخين واحتساء القهوة المرة أما مياهها في منطقة وسط المدينة فهي في الشتاء خارجة على النظام العام، جريئة لا تستحي من الاستلقاء في نهر الطريق أمام الكافة، ناشرة رذاذها على القلوب الحارة التي أشعلتها جذوة الصيف فهفت للماء الشتوي . وأما عن الدخيلة والمكس وما أدراك ما الدخيلة والمكس، تلك أرض السر المقدس الذي يضعه العاشقون فيها ثم ينطلقون لينخرطوا بالعامة وما هم بالعامة، فلقد شربوا المدينة من تلك البقعة وشربتهم ثم أوحت إليهم: "أن جوبوا يا أبنائي مسجد أبي الدرداء وسيدي الشاطبي وكنيسة( دبانة ) وتلقفوا منها البشارة، والمعبد اليهودي، وبئر مسعود، خذوا زينتكم إلى عمود السواري ومقهى (إيليت) وتباركوا بنفحات سيدي ياقوت والمسرح الروماني وانعموا بكرامات سيدي أبي العباس المرسي، ثم اكتبوا وارقصوا وارسموا".

شهدت بشارعي "طيبة" و"تانيس" أطيافا لعشاق قدامى تجلوا في حضرة الإضاءة الخافتة التي في جوفها يحفظون السر ويبوحون به في أن.
تقول الإضاءة الخافتة هناك: "هلموا يا أحبائي أعلمكم العشق وأرجئ مشاعر غربتكم حتى بزوغ الفجر".

على مدى سني عمري ،رأيت الإسكندرية جوستين ورأيتها جليلة (٢) ورأيتها هيباتيا (٣) لكم عاقرت دخان مقاهيها وأنست لدفء حارات بحري وكوم الدكة وانتعشت روحي بعطور اليود وبأرستقراطية الحي اللاتيني.

الإسكندرية حقا أرض العشق والهوى وأرض الشجن والغروب الحزين، الإسكندرية بهجة القلب الصيفية، لكنها في الشتاء معصرة الحب " كمعصرة النبيذ"(٤)

(1) هي إحدى بطلات رباعية الإسكندرية فلورانس داريل.

(2) حبيبة سيد درويش.

(3) فيلسوفة وعالمة رياضيات وكاتبة سكندرية ولدت سنة٣٧٥م.

(4) مقولة لداريل في رواية رباعية الإسكندرية .