السبت 1 يونيو 2024

"شخص حزين يستطيع الضحك" لـ صابر رشدي

فن22-10-2020 | 11:25

يٌشيّد القاص صابر رشدي سرده القصصى فى مجموعته القصصية " شخص حزين يستطيع الضحك" والصادرة عن دار الياسمين للنشر والتوزيع ,  على ثنائية مركزية, الأولى العلاقة بالمرأة بتنوعها الثري والمعقد الذي يبدأ بالجانب الأمومى والرحمي ممثل فى قصة" نبوة " حيث تتحول آلام السيدة العظيمة أمه إلى زاد روحى يمد السارد بقوة  الاحتمال فى محنته الكبيرة الذي لا يفصح عنها مباشرة , يضيء ملامح محنته من خلال سرد يصف هذا المناخ المعتم الذي يعيش فيه الراوي  " كان يذهب بين  حين وآخر إلى عوالم غريبة من هذا الوجود عوالم لا يرجي منها شيء، ماؤها لا يروى الظمأ وطعمها لا يغني من جوع قفار يسكنها قساة مدججون بغطرسة كثيفة حجبت ملامحهم الدميمة , صحراء تعج بالذئاب والثعالب والكلاب السوداء " أو يرصد العلاقة المشوهة التى توّسم العلاقة بين الرجل والمرأة خاصة الجانب العاطفي منها والذى يعتبر مدار الصراع الجوهري فى الحياة خاصة فى البلاد الموبوءة بالتخلف والفقر والجهل فتتحول العلاقة من علاقة مشاركة وإفصاح وسكن إلى علاقة خديعة ومكر وعنف، ونجد ذلك واضحا فى قصة " الرومانسي الأخير" حيث العاشق الولهان الذي يقضي أيامه يتبتل فى محرابها ,مخلصًا لها, لا يفكر إلا بها,  ولكن   يصدم حين يذهب بدون ميعاد سابق لها  فى العمل  ليفاجئها بوجوده, ولينعم  بالقرب منها، وأثناء خروجها من العمل "  بدأ يسرع الخطى حتى يقترب منها ويفاجئها بحضوره .. ولكن قبل أن يصل إليها بخطوات قليلة  وجده هناك يسبقه إليها ويلتقطها من الطريق شاب عادي .

وفى قصة " إغواء " يرصد القاص مشاعر شديدة التعقيد تنعكس على البناء الذي جاء أكثر تعقيدا،فالشاب الطاهر البريء الذى يرفض العلاقة المحرمة بل يبكى عندما يتم خديعته من خلال صديقه بمحاولة توريطه فى علاقة جنسية مع فتاة, هذا الشاب البريء عندما يحب فتاة ويجد فيها ملاذه الروحي , يصل إليها بأقرب الطرق , وبدلا من أن يجعل الأمور تسير سيرها الطبيعى, يعرضها إلى اختبار , وليحاول فى النهاية إغواء هذه الفتاة شديدة الشفافية والبراءة , التي توافق بسرعة على مقابلته فى شقته ,ثم يقفز السارد بالحكاية ليرصد دخول الفتاة شقة حبيبها وتستسلم له, ثم نكتشف فى النهاية أن هذا السرد مجرد تخيلات للشاب, لا أكثر تدور فى عقل  هذا الشاب المشوه, فى روحه  التي تشبعت بأفكار  ومخلفات مجتمع متخلف وقاسٍ لا يرى فى المرأة إلا روحًا مدنسة, روحًا مخادعة,  لنفاجأ فى النهاية برفض الفتاة الذهاب لهذا الشاب شقته ويسقط من نظرها بل ترفضه ,رفضا نهائياً وتنتهى القصة .

أما المحور الثاني يرصد اغتراب الإنسان فى مدينة يسيطر عليها القتلة واللصوص والعُسس, هناك دائما إحساس بالمطاردة, بالعيون المحدّقة التى تتبع الراوي , هناك دائما خوف , ورغبة عارمة فى الشعور بالأمان , رغبة فى الانعتاق من هذه القسوة, التي تجعل الشخوص تنجرّ إلى العدمية والخواء,حيث تقع الشخوص تحت هاجس التوهم والتقلب بين الحلم والكابوس والواقع , وكأن الذات منشطرة تحت وقع واقع قاسٍ وعنيف , شيء غير قابل للتصديق تعيشه الذات ...

ماذا تقولين ؟

إنها الحقيقية

أي حقيقية

سأل متهكما,ثم استدرك فى نبرة مريرة محادثاً نفسه:

هل أنا مستيقظاً فعلاً ؟ أم ضالع فى نوم ثقيل ؟ أأحادثكِ فى حلم ما؟ أم محموم أعانى نوبة هذيان ؟ بل ربما سكرات الموت تأتيني وحيدا فى منتصف ليل طويل بطيء أكابدها وحدي دون شهود. "من قصة ضوء شفيف " هذا الإحساس العنيف بكونه منفيا ضائعا , يعانى الوحدة , هى سمه أصيلة من سمات المجموعة.  ويظهر ذلك بوضوح  فى أجمل نصوص المجموعة , وهى قصة " لا تخف , حيث الإحساس الدائم الذي يسيطر على الذات بأنها مطارده , بأنها تخضع لآلة عنف جبارة تستطيع أن تسحقه فى وقت الضرورة, فى الوقت الذي يختاره, أما هو فلا حيلة له سوي الهروب الدائم " كان يسير وراءه رجل طويل القامة ذو جثة مهيبة, عريض المنكبين بصورة ملحوظة, له رأس ضخم ورقبة ثور وتبدو على ملامحه سمات ذئب جائع, واثق من التهام فريسته بكفاءة منقطعة النظير, اصطدم به الرجل من الخلف صدمة قوية كادت أن تلقيه على الأرض, روّعته تلك الصدمة وأشعلت الفزع داخل كيانه، فاستدار فى بطء وهو يقترب من الانهيار .

 2

فى قصص صابر رشدي دائما لا نعرف بالضبط لماذا كل هذا العنف المكتوم؟ لا يبرر ذلك بوقائع  مباشرة أو من خلال وصف استبطانى لأسباب ودواعي العنف, إنه يرصد مباشرة  تجليات العنف لدى الشخوص, مكتفيًا بكلام عام " شخصيات تحظى بالكراهية المطلقة و لا أحد يُكنّ له ذرة احترام "   ليقول فى النهاية إن هناك عبثًا فى الموضوع, هناك حالة انفلات مجنونة ليس هناك سبب واضح ومباشر لكل هذا العنف , لكل هذا الهذيان , وخير  تمثيل لهذه الرؤية  من خلال قصة " إصبع على الزناد " يرصد فيها فنان يهوى رسم البورتريه خاصة صور البنات الجميلات , ثم يكتشف بعد ذلك قدرته المذهلة على التصويب إثر لقاء عابر مع أحد هواة الصيد, ويختار شخصياته, بعناية , ويقوم بالتصويب على العين, القلب, الرأس,كل ذلك يدور داخل كهفه , لا أحد يدري به , إن هذه القصة من أكثر القصص تعبيرا عن الشخصيات المسالمة التي تقع تحت وطأة تعذيب سادي مجرم من السلطة بكل تنوعها,  وليس للفرد أي قدرة على رد العنف, إلا من خلال أحلام اليقظة, أو العنف الرمزي " كان يرسم لوحتين الأولى للوجه الذي يريد تصفيته,والأخرى لوجه نبيل يتخلص من الأول فى سهولة واضحة ويمد يد الصداقة مع الأخير يقرأ معه الكتب العظيمة يستمعان إلى موسيقات كل الشعوب, يشاهدان السينما ويبكيان بالطبع من أجل هذا العالم".

أما اللغة فقد جاءت معبرة تماما عن المسار النفسي للشخوص , المغربة عموما والتى تعيش آلامًا لا تحتمل، لذلك جاءت منحوتة لا لفظ فج أو مباشر صاخب يخدش هذه العوالم الباطنية، سرد عذب شاعري يعبر عن رومانسية ومثالية الشخوص التى تعانى الوحدة والعزلة.