الخميس 27 يونيو 2024

رحلة البحث عن الهلالية

فن23-10-2020 | 10:39

لو لم يفعل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي شيئا سوى جمعه للسيرة الهلالية لكان هذا يكفيه ويكفينا ويفيض، لكن السؤال: كيف فعلها الخال؟ كيف ترك الشهرة والنجومية والأضواء وصحبة ألمع وأجمل وأهم نجوم مصر، وقرر أن يبحث عن السيرة الهلالية ؟! كيف ضحَّى بمجد سهل وقريب ومثمر أدبيًّا وماديًّا، واتجه في رحلة شاقَّة استغرقت قرابة ثلاثين عامًا جاب خلالها الوطن العربى؟!

لم يكن مع الأبنودي شيء في هذه الرحلة سوى حبِّه للسيرة الهلالية التي فُتن بها مُنذْ كان طفلًا، وجهاز تسجيل أهداه إليه عبد الحليم حافظ، وشرائط حصل عليها من كمال الطويل، وإصرار كبير على تحقيق إنجاز يُخلِّد اسمه، لذلك يردد الخال دائمًا: أنا شاعر "كويس" لكن مصر ستنجب ذات يوم مَن هو أفضل منّي بكثير، لكن سوف يُذكَر لي على الدوام أنني جمعت هذا العمل العبقري الذي أبدَعَته قرائح شعبنا وحفظَتْه من الضياع" .

انطلق الخال في رحلته الأهم بعد نكسة يونيو باحثًا عن السيرة الهلالية، لكن لم يلتفت إليه أحد في مصر والوطن العربي، وظل سنوات يعمل بمفرده وينفق على جمع هذا التراث الإنساني من جنيهاته الهزيلة –على حد وصفه-.

لكن قبل أن تبدأ رحلة البحث عن "الهلالية" بسنوات طويلة كان الأبنودي يذهب إلى مولد سيدي عبد الرحيم القنائي، ويستمر خمس عشرة ليلة يجلس تحت أقدام المنشدين وشعراء الربابة، ويستمع إلى غناء "الغوازي" ويشاهد فنون المسرح الشعبي والألعاب الشعبية، ويردد الأذكار والمدائح الدينية، ويسمع فصولا من "الهلالية" من شعرائها ومغنّيها وشذرات من رواتها، ومن رواة السيرة المغنون الغجر الذين يحترفون الإنشاد في المناسبات، وهم لا يبدعون مِن عندهم إنما يرددون ما يحفظونه.

أمضى الخال سنوات يجمع "الهلالية" من أفواه الشعراء والرواة والحَفَظَة العاديين في صعيد مصر، ثم اتجه إلى "الدلتا" شمالًا، وبعدها استطاع الحصول على النصوص السودانية والجزائرية والليبية، وكذلك نصوص من على حدود تشاد والنيجر لم يجمعها بنفسه، وإنما حصل عليها من دارسين، ومن بعض مراكز فنون شعبية، ثم بدأت رحلاته إلى تونس.

تعرف الخال إلى عدد كبير من شعراء الهلالية، لكنه يضع الشاعر جابر أبو حسين في مرتبة وحده فهو "شيخ شيوخ السيرة الهلالية" -على حد تعبيره- وله أتباع ومريدون، أما أصدقاؤه فكلهم ماتوا منذ 800 سنة وهم: أبو زيد، والزناتي خليفة، ودياب بن غانم، وغانم الأحمر، وغيرهم من أبطال السيرة الهلالية الذين كان يبكي وهو يتغنى على ربابته بمناقبهم ورثائهم؛ وسجَّل الخال معه السيرة على مدار ثلاث سنوات كاملة، كان يذهب إليه في سوهاج ثلاثة أشهر، ثم يستريحان ثلاثة أشهر، ثم يحضر "أبو حسين" إلى القاهرة ثلاثة أشهر، وظلا هكذا حتى أنجزا العمل وسجَّل الأبنودي روايته كاملة.

بعدها عاد "أبو حسين" إلى قريته -"آبار الوقف" في مركز "أخميم"- ليموت بعد ثلاثة أسابيع فقط من الانتهاء من تسجيل "الهلالية"، كأنه أكمل مهمته وصار في وسعه أن يستريح -على حد تعبير الخال.

يعرف الشعراء أهمية هؤلاء الرواة ودورهم الأساسي، لذا لا يذهبون لإحياء الليالي وإنشاد السيرة إلا إذا وجَّه الدعوة إليهم راوية يعرفونه ويثقون به، ومن هؤلاء الرواة يذكر الأبنودي "أبو عنتر" واسمه الحقيقي "سيد غشيمة" الذي يقول عنه الخال: كان يدور في الأسواق راكبا حماره الذي يشبه "شهبة" دياب بن غانم، وفجأة يقف ويأمر حماره أن يرفع قدمه فيطيعه، ويقف لإلقاء جزء من السيرة الهلالية، حتى إذا التفَّ الناس حوله وبدا عليهم التلهف لسماعه، توقف وتركهم ومضى، فإذا استزادوه نَهَرَهم وربما سَبَّهم وهو يقول لهم "إذا كنتم تريدون السماع فعليكم بدعوة الشاعر جابر أبو حسين؛ فما سمعتموه ليس أكثر من قطرة في بحره، وما قلته هو ما يسقط من ربابته".

ومثلما اعتمد الأبنودي في رحلته على "جابر أبو حسين" اعتمد أيضًا على "الحاج الضَّوِّي"، وقد التقى الأبنودي، الضَّوِّي للمرة الأولى داخل مقهى ريفي خالٍ من الزبائن، كان الحاج الضَّوِّي، وهو شاعر من قوص، يمسك ربابته ويجلس داخل المقهى - الذي لم يكن أكثر من "عشة" من البوص- وحين دخل الأبنودي عليه اعتبره الضَّوِّي جمهورًا وراح يُنشد له بصوت أخَّاذ عن "يونس" ودخوله إلى "سوق العصر" في تونس.

لم يتصورا يومها أنهما سيصيران صديقَين، وأنهما بعد ثلاثين عامًا من لقاء المقهى سيذهبان إلى تونس معًا، ويتجولان في القيروان والحمامات وصفاقس وقابس، وسيرى الضَّوِّي سوق العصر الذي كان يصفه في غنائه كأنه رآه ويعرفه شِبرًا شِبرًا رغم أنه لم يكن قد رأى تونس قطّ.

ربما لذلك يظن معظم شعراء السيرة الهلالية أنهم ألهموا الشعر إلهامًا؛ فالحاج الضَّوِّي حكى أنه سمع ربابة معلقة فوق رأسه على الجدار تعزف وحدها في الهزيع الأخير من الليل لليالٍ متتابعات فعرف أن ما يسمعه نداء ليتعلم العزف ويبدأ الإنشاد ويصبح أحد أهم رواة "الهلالية".

والسؤال: لماذا عاشت ملحمة السيرة الهلالية وذهب غيرها؟

والجواب – مثلما روى لي الخال -: لأنها سيرة تسعى إلى توحيد الأمة العربية والاتجاه نحو تحقيق أهدافها، وهي قبل ذلك تجسيد لأحلام البسطاء الذين ينتظرون قائدا مُلهِمًا ومُلهَمًا يُمثل الضمير الشعبي، ويقود الشعوب عبر معارك كبرى إلى تحقيق الوحدة والاستقلال.

ثم إن الملحمة الهلالية حافظة لصورة القيم مثلما يراها البسطاء، ففي مرآتها ترى صورًا للتضحية، والبطولة، والنذالة، والحب، والنفاق، والجبن، والخيانة.

السيرة الهلالية هي التاريخ الشفاهي الذي عاشته الشعوب العربية، وتناقلته شفاهيًّا، وحلمت به جيلًا بعد جيل، بعيدًا عن المؤرخين المحترفين، ومحترفي كتابة التاريخ.  

فالسيرة تروي وقائع حدثت بالفعل، لكنها تنقلها في سياق دراميّ، وفنيّ، وملحميّ، فهي تحكي عن زحف قبائل هلال، وسليم، ودريد، والأثبج، ورياح، من هضبة نجد - التي أجدبت سبع سنين - إلى تونس.

كان الزاحفون إلى تونس نحو 360 ألفًا، وأدرك المعز بن باديس خطورة الغزوة فقاد الجيش بنفسه، وكانت معركة حياة أو موت جرت الدماء فيها أنهارًا، وسقط فيها القتلى بالآلاف، وكاد المعز ينتصر لولا خيانة أحد قواده، ويُدعى "زناتة" الذي كسر الجيش، وقلب الدفة لمصلحة القبائل الزاحفة، فسقط جيش المُعز، وسقطت تونس في أيدي بني هلال، وحدث ذلك منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، إلى أن استطاع عبد المؤمن بن علي إمام الموحِّدين القضاء على فلول القبائل الزاحفة، لكن رواة السيرة يختلفون في رواية الوقائع، دون الإخلال بها.

فبعضهم يتحدث عن العدوان الذي جرى على تونس باعتبار أن سببه هو الاعتداء على المصلين في مساجد تونس في أثناء صلاة الجمعة على أيدي العوام في زمن المعز بن باديس، ويجعلون الثأر لهذه الواقعة مبررًا للغزو، بينما يرى بعضهم أن سبب الغزو القحط الشديد الذي عانته بلاد "نجد"، وهذا سبب أكيد لكنه ليس السبب الوحيد؛ لذلك يشتبك في السيرة السبب التاريخي، بالمبرر الديني، بالظروف الطبيعة المحيطة.

أما المصادر التاريخية - والكلام للأبنودي - مثل ابن خلدون وغيره، فتخبرنا أن القبائل زحفت بسبب الجدب إلى مصر، في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وفي الوقت نفسه وقعت ثورة العوام في تونس، واضطر حاكمها المعز بن باديس أن يخلع ولاءه للدولة الفاطمية، ويساند العباسيين، هنا اشتاط الخليفة الفاطمي غضبًا، وقرر أن يحاربه، فجهَّز له جيشًا ممن وعدهم بالإمارة من بعده حتى يحفظ ويحافظ على ملكه.

فالسيرة الهلالية بالأساس إبداع العوام لتخليد وقائع التاريخ، لذلك تقارب "الهلالية" المليون بيت شعر، ويعتقد بعض الناس، بسطحية، أن هذه الملحمة خُلقت لتُمجِّد رجلًا اسمه أبو زيد الهلالي -والكلام على لسان الأبنودي رحمه الله - والواقع أنها عمل ملحميّ تُوزَن فيه الدراما بميزان الذهب، مما يدل على عبقرية شعوبنا وأننا إلى الآن لم ننظر جيدًا إلى إنتاجهم الإبداعي، ولم نتعلم منه، ويبدو أننا لا نريد أن نتعلم أبدًا.