السبت 18 مايو 2024

كيف امتزج الزيت بالماء في أكذوبة اليسار الليبرالي

فن23-10-2020 | 10:40

كان إعلان سقوط الاتحاد السوفيتى في 26 ديسمبر 1991، بمثابة توقيع رسمي على شهادة وفاة الفكر الماركسي أو على الأقل إعلان فشل تطبيق النظرية الماركسية في دولة عظمى تقع ضمن قائمة أكبر الدول مساحة وتاريخا وعددا وثروة على سطح كوكب الأرض، هذه الدولة تبنت الفكر الاشتراكي منذ ثورة أكتوبر 1917وجعلت تطبيقه رسالتها الأولى وخاضت من أجله الحروب وكاد صراعها مع المعسكر الرأسمالي الليبرالي المضاد لها والمتمثل في الدول الرأسمالية أن ينهى الحياة البشرية على الأرض أو يدمر حضارة الإنسان في حال وقوع صدام نووي كان محتملا وقوعه أكثر من مرة بين القوتين العظميين على الأرض.

لم يكن الصراع بين المعسكرين صراعا في سباق التسلح الذي هدد ولا يزال يهدد الحياة على الأرض، ولا صراعا سياسيا، إنما كان بالدرجة الأولى صراعا ثقافيا ولذلك حمل المثقفون المؤمنون بالماركسية على عاتقهم، مسئولية سياسية بالسعى لتطبيق الفكر الماركسي بوصفه فكرا متكاملا شاملا، فهو لا يقدم مجرد أفكار ورؤى أو مشاريع للإصلاح، بل هو عندهم كشف لمسيرة التاريخ الإنساني في رحلته التقدمية وبوصفه أحد تجليات جدل المادة، الذي لا تفسير ولا رؤية سواه، فالعالم والأشياء والأحياء ومن بينها الإنسان تجليات للمادة حسب ما صاغه ماركس وأنجلز في "المادية الجدلية" والتى لا تقدم كنظرية تحتمل الصواب والخطأ، بل ككشف لغطاء تاريخ الإنساني ولتفسيره من أصغر أحداثه إلى أعظمها.

حتى الحرية نفسها بما تحمله من معان، خضعت للتفسير الماركسي للخروج من مأزق تناقض الحرية مع الحتمية المادية الصارمة التى يسير عليها الفكر الماركسي باعتبار أن الحرية حي تحقق هذه المسيرة مع الاشتراكية العلمية التى سيصير إليها التاريخ في اتجاهه التقدمي.

لذلك رأى المثقفون الماركسيون أنهم الحراس الأمناء على بيت الحقيقة وهم وحدهم حملة أختام التاريخ وأن أي مخالف لما قال به ماركس وأنجلز وأتباعهما، هو بمثابة رجعية أو"ردة" تاريخية عن قواعد التاريخ، سيفرمها الإنسان بقدميه وهو في طريقه لتحقيق المجتمع الشيوعي المنشود.

لذلك كان الصراع بكل أشكاله الثقافية والسياسية والدموية، إجراءً حتميا وأحيانا يكون مطلوبا كعمل بطولي لتحقيق الأهداف المرجوة.

ولما تكونت الجماعات الماركسية كانت ترى أن رسالتها مضادة للمجتمعات المحيطة التى ترفض أفكارها التقدمية وأن مهمتها تحقيق مسيرة التاريخ وأن التمسك بغير ما قالت به مبادئ الفكر الماركسي، هو الرجعية بعينها ولذا لم يكن هناك بد من الصدام والصراع الذي يصطبغ بطبيعة الأجواء السائدة، ففي حين رأينا الجماعات الاشتراكية الأخرى ودعاة المذاهب الاجتماعية عموما، يعلنون عن أنفسهم في دعواهم للمجتمع لاتباع لأفكارهم سواء كانت مستمدة من كتابات جان جاك روسو وروبرت أوين وسان سيمون أو غيرهم من الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين، نرى الماركسيين يرفضون بإصرار أى دعاوى اشتراكية أخرى أو مذاهب غير الماركسية، إلى درجة أن هذا التعصب المذهبي الأعمى جعلهم هم أنفسهم ينقسمون حول سبل تطبيق - أو التنظير لكيفية التطبيق- داخل صفوفهم.

ولعل قصة اغتيال المنظر والزعيم الشيوعي "تروتسكي" في 21 أغسطس 1940 بالعاصمة المكسيكية مكسيكو، التى لجأ إليها بعد تعدد محاولات اغتياله من مجموعة تابعة لستالين، تصلح لتجسيد مدى ما وصل إليه هذا الصراع.

لكن بقيت الاشتراكية الماركسية في جانب وبقية المذاهب والمدارس الاشتراكية في جانب آخر.

وفي مصر كان المفكر الراحل سلامة موسى "1887- 1958" هو أول من بشر بالفكر الاشتراكي عامة وبماركس خاصة حتى أنه كتب يقول: "وأحب أن أعترف أنه ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركس، وكنت أتفادى اسمه خشية الاتهام بالشيوعية".

ولكن سلامة موسى رغم ذلك السبق بنشر أول كتاب عن الاشتراكية عام 1913، لم يحسب من الماركسيين المصريين رغما ما تم على يديه في التبشير بالفكر وإن كان مؤرخو اليسار يحاولون رؤية الإضرابات العمالية -المعدودة والمحدودة- التى سبقت تبشير موسى فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بأنها بدايات للتجربة الاشتراكية في مصر سواء في الإضرابات أو الأفكار التى وردت من شخصيات من المنتمين للجاليات الأجنبية المقيمين في القاهرة أو الإسكندرية.

وجاءت أول تجربة يسارية ظاهرة في تاريخ مصر المعاصر في حزب منظم بعيد عن الإضرابات العمالية والتنظيمات السرية على يد سلامة موسى ذاته مع الجواهرجي السكندري اليهودى ذي الأصل الإيطالي جوزيف روزنتال والكاتب محمد عبد الله عنان والشيوعي اللبناني أنطون مارون وآخرين.

وبعد فترة قصيرة اضطر سلامة موسى للاستقالة من الحزب، خاصة أن اهتمامه بالماركسية كان جزءا من انبهاره بالثقافة الغربية التى شغلت عقله وقلبه ولم ير سواها منجاة لمصر من كبوة التخلف الحضاري ولكنه لم يخض غمار العمل السياسي ولم يدع للصدام وكان أبعد ما يكون عن طرح الصراع بأي شكل لتنفيذ الأفكار الاشتراكية، بل وهاجم ممارسات قادة الثورة الشيوعية الروسية وفي الوقت نفسه كان تأثره بالمدرسة الاشتراكية الفابية أكثر من الماركسية، في وقت كان الماركسيون لا يرونمعبرا عن الاشتراكية سوى التجربة اللينينية، فابتعد أو استبعد سلامة موسى، فاشتراط اعتناق الفكر الماركسي اللينيني هو السبيل الوحيد لإقامة علاقات مع الحزب الشيوعي السوفيتي و"الكومنترن" وتلقى دعم منه على كل المستويات السياسية والثقافية والمالية.

وذاب الحزب الاشتراكي المصري الأول في الحزب الشيوعي المصري ثم توالت التشكيلات الشيوعية في مصر وكان لها نشاطاتها السرية بعد الاصطدام بالسلطة واعتقال العديد من الشيوعيين الأوائل، فضلا عن الانقسامات والصراعات داخل أروقة الشيوعيين أنفسهم.

لكنهم في النهاية ظلوا جماعة عقائدية تلتزم بمبادئ ومناهج وأشكال خاصة بهم وكأن أبرز سماتهم السعي للسيطرة على الحكم والانفصال الفكري عن بقية التيارات السياسية والثقافية ومنها استعلائهم الثقافي الملموس.

فرغم انضمام كثير من الفنانين والأدباء والمفكرين- ومنهم ساهموا في تشكيل وجدان المثقف المصري - إلى تشكيلات الحركة الشيوعية، إلا أننا نتلمس في أساليب كثير منهم بعض هذه العزلة الثقافية القائمة على الاستعلاء باستخدام مفردات خطاب وتخاطب تؤكد هذا الاستعلاء وتدعم هذه الخصوصية، ظهر هذا في سيادة أسلوب التخوين لخصومهم وشن حملات نفسية وإعلامية تشابه ما نراه في مبدأ جماعة الإخوان الإرهابية "أستاذية العالم"والوصائية السلفية على الآخرين، حيث يحل التكفير محل التخوين، كما تحل اشتراطات الانتماء إلى الجماعة محل قواعد الانتماء إلى المجموع، بالرغم من مزاعم العالمية والأممية في الثقافتين المتعارضتين (السلفية والشيوعية).

نحن هنا إزاء هذين التيارين اللذين يبدوان مختلفين إلى درجة التناقض، نجد أنفسنا أمام تشكيل كل منهمالمجتمع خاص به يفرض شروطه على الباقين فمن اتبعها فهو منهم ومن لم يفعل فليس منهم، لأنه يرى أن الحقيقة في الالتزام بشروط الجماعة، فهما مع تناقضهما إلا أن هذا التناقض لا يعنى دائما ضرورة التضاد، خاصة مع المصالح.

فكلاهما متشابهان في الإطار الذي يرى الانتماء في الالتزام بالجماعة حتى لو اتبع النهج العام الذي تنتهجه فلا يكفى، فالاشتراكيون الذين يتبعون ماركس غير الاشتراكيين اللذين يتبعون غيره والشيوعيون اللذين اتبعوا لينين وستالين غير الشيوعيين اللذين اتبعوا تروتسكي أو ماوتسي تونج.

كذلك المتأسلمون السلفيون غير الجهاديين، والجهاديون غير الإخوان.

وتبلغ الصراعات الداخلية بين فرق هؤلاء وأولئك حد التناحر الذي يصل للتصفية الجسدية أحيانا والتحالف مع الخصوم التقليديين.

كما أن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة المجموع والاتصال الذي يتم بشخص أو جهة أخرى، بغير إذن أو علم التنظيم، يعتبر خيانة لا تغتفر، فلم يغفر زملاء الشيوعي جاكو دي كومب الذي كان يعيش في مصر، أنه رتب للقاء بين المناضل الهندي جواهر لال نهرو والزعيم مصطفى النحاس في القاهرة، في أثناء سفره لأوروبا لحضور اجتماع التجمع العالمي للسلام سنة 1938.

لكن يمكن غفران ما يتم لمصلحة الجماعة والتنظيم ولو تناقض مع مبادئها بشرط أن يكون مرحليا واستراتيجيا والشرط الأهم،أن يكون بإذن الجماعة، كما حدث من اتصالات الإخوان بالبيت الأبيض وزياراتهم السرية قبل ثورة يناير 2011 والتى صارت علنية بعدها، وتحالفهم معها، بل واحتمائهم بها عقب وصولهم الحكم، ثم طلب نجدتها بعد إقصائهم عن الحكم إثر ثورة 30 يونيو 2013.

الأمر نتلمسه في تحالف اليساريين مع المليارديرات من رجال الأعمال المصريين والعمل في مؤسساتهم الاقتصادية والإعلامية والثقافية إلى حد التنافس المحموم، كما رأينا رموزا للشيوعية يجاهرون بتبنى الليرالية ويلجأون لمليارديرات للإنفاق على حملاتهم الانتخابية وأنشطتهم الثقافية والسياسية، متناسين العداء التاريخي والجوهري بين الحركة اليسارية بوصفها حركة راديكالية وبين الليبرالية بوصفها مظهرا من مظاهر اليمين حتى أن اليمين المتشدد الأوروبي والأمريكي لا يكف عن الدعوة لسيادة الليبرالية التى سوف تحكم العالم إثر صراع الحضارات الذي وضع المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون كتابا له بالاسم نفسه.

فعلى المستوى المصري المحلى وجدنا هذا التحالف الحميم بين اليسار الذي مازال يتبنى موقفا ثوريا راديكاليا وبين الليبراليين الذي يتأرجحون بين الدعاوى الثورية وبين المحافظة في تناقض عجيب لم تشهد له الساحة الثقافية المصرية مثيلا.

وصل الحد إلى التحرج من النطق بكلمة "اشتراكية" وحل محلها تعبير الليبرالية الجديدة "العدالة الاجتماعية" مما يذكرك بالجمعيات الخيرية التى يتبناها الرأسماليون وهو على أي حال تعبير أقل حدة من الاشتراكية.

ولكن دعونى في النهاية أحاول تفسير ذلك بالرجوع إلى السطور الأولى لهذا المقال، فبانهيار التحاد السوفيتى فقد اليسار مموله الأساسي والوحيد فلما توحدت مصالح الغرب الليبرالي مع مطالب اليساريين الدائمة بالتغيير في المنطقة العربية، تدفق المال الأمريكي والأوروبي الليبرالي إلى اليسار فكان ما كان من التحول.

ودعنى أذكرك بالتحول السلفي من الدعوة للثورة الإسلامية الإيرانية التى كان يراها نبراسا لتحرر الشعوب الإسلامية من تسلط الحكام وإقامة دولة الأئمة، إلى الدعوة ضدها لما تغير التمويل والدعم من طهران إلى عواصم الخليج العربي، فصارت إيران هي الشيطان الأكبر والشيطان الأكبر هو المسمى الذي أطلقه الإيرانيون على الولايات المتحدة وحلفائها والذين هم الآن الراعي الأكبر لليبرالية التى يسعى لنيل رضاها كلا الفريقين المختلفين على السواء.

    الاكثر قراءة