العقل البصير.. يحلق بجناحى الحب والإرادة إرادة ثائر.. وقلب ولي..
وعقل عالم.. وروح عطش.. دائمة التحليق.. تبحث عن الارتواء وتناجيه.. رشفة هنا.. ونهر
هناك.. ولكن هيهات هيهات لمثل تلك الروح أن ترتوى.. إنه الظمأ الأبدى.. الذى يستعذبه
أصحاب النفوس العظيمة.. رغم أنه يعذبهم..
هكذا كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين.. صاحب تجربة عميقة بعمق
التاريخ.. وصاحب أحلام عظيمة بعظمة الكون.. شخصية مترامية الأطراف.. يستحيل أن نلم
بأبعادها.. ولذلك سنحاول فقط أن نتوقف عند مفردتين فقط من آلاف المفردات التى تكون
صورة ذلك العملاق.. وهما الحب والإرادة.. جناحان عملاقان عاش هذا الطائر البصير
يحلق بهما فى سماوات الإبداع والأدب.. ليترك لنا ذلك الإنتاج الفكرى والإبداعى
شديد التميز.. الذي يعطينا المتعة.. والأهم أنه يجعل عقولنا أكثر قدرة على النقاش
والاختلاف حتى مع هذا العملاق الكبير.
ولد طه حسين فى الرابع عشر من شهر نوفمبر 1889 فى عزبة الكيلو بمحافظة
المنيا عروس صعيد مصر.. ليصبح الابن السابع- لأسرة من ثلاثة عشر طفلاً.. يقودها أب
رقيق الحال يعمل فى شركة السكر.. ولكنه يمتلك من الحكمة والاستنارة ما يجعله حريصا
كل الحرص على تعليم أبنائه فى الأزهر الشريف.. وفجأة شعر الطفل طه بأن(النور) راح
ينسحب رويداً رويداً.. ورغم محاولات العلاج بالوصفات البلدية.. إلا أن الفتى ذهب
إلى مصيره المحتوم باختفاء النور تماماً من عينيه وهو فى السادسة من عمره..
وراح الفتى الصغير يتخبط فى ظلمات كثيرة فأحيانا يسخر منه أشقاؤه على
مائدة الطعام.. وأحيانا يقسو عليه شيخ الكُتاب.. وأحيانا يعجز عن تصريف أموره
الخاصة.. إلخ حتى كاد أن ييأس.. ولكن عصا الحب السحرية أدركته واحتوته وجففت دموع
قلبه.. وأعادت الثقة إلى كل خلية من خلاياه.. إنه قلب الأم.. تلك الأم البسيطة
التى جعلت من طه محور اهتمامها.. والمصب الذى تتدفق إليه مشاعرها وحنانها.. وعند
ذلك قرر الفتى شديد الذكاء أن يحرم نفسه من كل الأطعمة السائلة والتى تثير سخرية
أشقائه.. أدركته محبة الأم.. بأن جعلته يتناول تلك الأطعمة فى حجرة مغلقة بعيداً
عن كل الأعين.. وتحول هذا الأمر إلى عادة لازمته سنوات كثيرة.. ولم يقلع عنها إلا
بعد أن ارتمى فى أحضان حب عمره.. تلك البنت الفرنسية(سوزان).. وقد وصفها العميد
قائلاً (كأنها نور الشمس التى سطعت فى يوم مزهر بالربيع.. فأجلت عن سماء المدينة
كل ما علق بها من برد وغيوم وسحب كادت تركب بعضها إلى سماوات سبع.. وكأنها العصا
السحرية التى لمست الأفق فهربت العاصفة.. وسكن الرعد والبرق.. وطلعت الطيور
الملونة تغرد لى).
وكان طه حسين قد التقى سوزان لأول مرة فى مدينة مونبلييه الفرنسية..
بعد أن وصل إليها لدراسة الدكتوراه..مبعوثاً من الجامعة المصرية.. التى التحق بها
فور إنشائها عام 1908.. بعد أن سدت أمامه عنوة كل أبواب الأزهر الشريف وحصل طه
حسين على الدكتوراه الأولى عام 1914 عن رسالته (ذكرى أبى العلاء).. وكانت أول
دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية الوليدة. ثم سافر إلى فرنسا ليحصل على الدكتوراه
الثانية.. فالتقى سوزان فى 12 مايو 1915.. واتفق معها على أن تقرأ له.. وكان قد
تعلم الفرنسية قبل أن يذهب إلى فرنسا.. واشتعلت الحرب العالمية الأولى ليعود
سريعاً إلى مصر.. ثم يعود إلى فرنسا.. ويلتقى سوزان مرة ثانية.. ويتسلل الحب إلى
قلب الفتى البصير.. وقد كتبت سوزان تجربتها كاملة مع طه حسين فى كتاب صدر عام
1982.. أى بعد رحيل العميد بتسع سنوات وكان عنوانها (معك).
المهم أن الفتى الشرقى لم يستطع كتمان حبه.. فصارح فتاته بحبه لها..
وكم كانت سوزان قاسية.. حيث روت بكل صراحة..(ولكنى لا أحبك).. فطوى الفتى ضلوعه
على جراحه.. ورغم نزيف فؤاده.. إلا أنه استمر فى علاقة العمل التى تربطه بسوزان..
واستمرت هى تقرأ له.. وسبحان مقلب القلوب.. حيث بدأت تنظر له بعين مختلفة.. فتسللت
سهام كيوبيد إلى قلبها رويداً رويداً.. وصارحته بحبها.. ليجعله الفتى البصير فى
سماوات العشق والوجد.. ويقرر العاشقان الصغيران أن يتزوجا.. فتثور ثائرة أسرة
سوزان.. ويقولون لها صراحة (كيف تتزوجين من شاب أجنبى وأعمى.. وفوق كل ذلك مسلم..
لاشك أنك جننت تماماً).
وكان طه يدعم فتاته ويقول لها (لعل ما بيننا يفوق الحب).. وكثيرا ما
تحنو السماء على العاشقين.. وجاء هذا الحنو من خلال عم سوزان “القس المستنير”..
والذى طلب أن يرى طه وأن يتحاور معه.. وعلى مدى ساعتين تحاور الفتى الأزهرى
المستنير مع ذلك القس المستنير.. فربطت تلك الاستنارة ما بينهما بكثير من الود
والاحترام والإعجاب.. ليعود العم.. ويشجع سوزان على الزواج من هذا الشاب النابه..
بل ويتنبأ له بمستقبل عظيم.. وعاش طه وهو يقول لسوزان “كان عمك القس أحب رجل إلى
نفسى”.
تزوجا بعد أن حصل طه على إذن الجامعة التى كانت تشترط عدم الزواج،
ولكنها راعت ظروف طه وتزوج العاشقان في عام 1917.. وهو نفس العام الذي حصل فيه طه
حسين على الليسانس من جامعة السوربون.. وفي العام التالى 1918 حصل على الدكتوراه
من السوربون عن رسالته عن “ابن خلدون”.. وفي العام التالى 1919 عاد إلى مصر ليعين
أستاذاً فى كلية الآداب للتاريخ القديم “اليونانى والرومانى”.
وهكذا رسمت “أنامل الحب” ذلك المستقبل الزاهر للفتى العاشق،والذى عاش طوال عمره يحلق بجناحى الحب
والإرادة.. وقد رأينا ماذا فعلت لمسات “جناح الحب” فى مسيرة هذا الفتى العاشق..
أما لمسات “جناح الإرادة” فقد صاحبته منذ أن فقد نور عينيه حتى رحل عن دنيانا..
فقد حفظ القرآن الكريم في سنوات قليلة.. ورحل مع شقيقه إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر
الشريف.. ولكن علوم الأزهر لم ترو ظمأه الشديد للعلوم والمعارف.. فراح يجاهر
بانتقاده ويعلن رأيه.. مما سبب له العديد من المشاكل نذكر منها حادثتين.. تسببتا
فى إخراجه من الأزهر.. ففى سنواته الأولى بالأزهر كان يقرأ مع زميليه أحمد حسن
الزيات.. ومحمود زناتى في كتاب الكامل للمبرد.. فلما بلغوا ما جاء في الكتاب من أن
الفقهاء قد كفروا الحجاج بن يوسف الثقفى.. لأنه حين رأى المسلمين يطوفون بقبر
الرسول ومنبره عليه الصلاة والسلام قال “إنما يطوفون برمة وأعواد” علق طه حسين على
ذلك قائلاً: “إن ما قاله الحجاج إساءة أدب ولكنه لا يعد كافراً”.. ونقل الوشاة هذا
الكلام محرفاً إلى شيخ الأزهر حسونة النواوى.. فأمر بطرد الثلاثة من الأزهر.. وأمر
الشيخ سيد المرصفى بعدم تدريس الكتاب مرة أخرى.. فاندفع طه حسين بإرادته الحديدية
ليكتب مقالاً عنيفاً يهاجم فيه الشيخ النواوى.. وذهب بالمقال إلى أحمد لطفى السيد
لينشره في “الجريدة”.. فقرأ الأستاذ لطفى المقال ثم قال للشاب الثائر.. هل تريد
شتم الشيخ حسونة.. أم تريد العودة إلى الأزهر؟.. فرد طه لا مصلحة لى فى شتم الشيخ
حسونة.. فتوسط لطفى السيد لدى شيخ الأزهر وعاد الطلاب الثلاثة إلى الدراسة بالأزهر
الشريف.
أما المعركة الفاصلة لطه حسين فكانت من خلال قصيدة كتبها تعليقاً على
ما حدث في الحفل الذى أقامه الشيخ رشيد رضا.. احتفالا بمرور عام على إنشاء مدرسة
الدعوة والإرشاد.. والتى كان يرأسها الشيخ رشيد..وأقيم هذا الحفل في فندق
سافوي..وحضره عدد من شيوخ الأزهر وعلي رأسهم الشيخ الأكبر سليم البشري وفي هذا
الحفل طافت كئوس الخمر على الحاضرين.. فشرب الكثير منهم.. ولم يشرب شيوخ الأزهر..
ومع هذا أبت إرادة طه حسين الحديدية إلا أن يهاجمهم فى قصيدة لاذعة كان مطلعها..
رعي الله المشايخ إذا توافوا
إلى سافوى من يوم الخميس
وقرر شيخ الأزهر إسقاط طه حسين فى الامتحان.. وعلم الشيخ سيد المرصفى
بالأمر وكان يحب طه ويقدر اجتهاده فذهب إليه فى بيته.. وطلب منه ألا يدخل
الامتحان.. وأعلمه بما سيحدث.. ولكن الشاب العنيد شكر أستاذه.. وقرر أن يستعد
جيداً وأن يدخل الامتحان متحدياً شيخ الأزهر.. وقبل الامتحان سأل رئيس اللجنة
الشيخ عبدالحكم شيخ الأزهر وإذا كان طه مذاكرا فكيف يرسب؟ فقام الشيخ سليم البشرى
بتغيير اللجنة وتعيين الشيخ الدسوقى العربى رئيساً لها.. ورغم استعداد طه
جيداً..وإجاباته النموذجية علي أسئلة أعضاء اللجنة إلا أنه تأكد من رسوبه فقال
جملته الشهيرة “هو امتحان أم محنة”.. وبالفعل رسب طه حسين في مادة أصول الفقه..
ولم تكتف اللجنة بذلك.. ولكنها خضوعاً لأوامر شيخ الأزهر منعته من دخول امتحان
بقية المواد.. وكانت هذه الواقعة سبباً فى رحيل طه حسين عن الأزهر ليلتحق بالجامعة
المصرية في بداية عملها عام 1908 وتفوق فى دراسته الجامعية.. ليحصل على الليسانس
ثم على الدكتوراه.. ليذهب بعد ذلك إلى رحلته الفرنسية الناجحة.. وعاد منها ليعمل
أستاذاً فى كلية الآداب.. ولم يكتف طه حسين بالعمل الجامعى.. فقرر أن يمارس العمل
العام من خلال كتابة المقالات في الصحف والمجلات.. ثم أشرف علي الصفحة الأدبية في
جريدة السياسة عام 1922.. تلك الجريدة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين ومن
أعلامه آل عبدالرازق الشيخ مصطفي عبدالرازق.. والشيخ علي عبدالرازق.. واللذان كانا
من كبار معجبي ومحتضني طه حسين.. ولذلك لم يكن غريباً أن يكون أول المدافعين عن
الشيخ علي عبدالرازق عندما أصدر كتابه المهم (الإسلام وأصول الحكم).. ذلك الكتاب
الذي تسبب في أزمة كبيرة بتأكيده علي أن (الخلافة) ليست من أساسيات الإسلام.. وكان
الملك فؤاد يسعي إلي إعلان نفسه خليفة للمسلمين بعد انهيار الخلافة العثمانية علي
يد مصطفي كمال أتاتورك.. وتعرض علي عبدالرازق لهجوم شرس من مشايخ الأزهر.. ودافع
عنه طه حسين وبعض الأدباء والمثقفين..
وفي عام 1926 أصدر طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) ليطبق من خلاله
منهج الفيلسوف الفرنسي (ديكارت).. والذي يؤكد أن الشك يقود إلي اليقين.. وقد تعرض
الكتاب لحملة شعواء.. واتهم طه حسين بالإلحاد.. ولقي الكتاب معارضة شرسة من مشايخ
الأزهر والبرلمان والحكومة.. وخرجت المظاهرات ضد الكتاب وصاحبه.. ووصل الأمر إلي
أن خطب سعد زغلول زعيم الأمة في المتظاهرين قائلاً: (إن مسألة كهذه لا يمكن أن
تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها.. هب أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يضير
العقلاء شيئاً من ذلك؟.. إن هذا الدين متين.. والذي لاشك فيه أن هذا الرجل (طه
حسين).. ليس زعيماً ولا إماماً حتي نخشي من شكله العام.. فليشك ماشاء.. ماذا علينا
إذا لم يفهم البقر.
ولم تكن الثورة ضد كتاب (في الشعر الجاهلي) لأن طه حسين قد شكك في
غالبية هذا الشعر.. وأكد أنه (منتحل).. وأن ملامح الشعر في العصر الإسلامي موجودة
بقوة في هذا الشعر الجاهلي.. لم يكن كل هذا سببا في الثورة في الكتاب وصاحبه..
ولكن تلك الثورة انطلقت لوجود بعض (المقاطع الملغومة) في الكتاب.. والتي تتصادم
وتتعارض مع ثوابت الأديان مثل قوله (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل..
والقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً.. ولكن ورودهذين الاسمين في التوراة والقرآن لا
يكفي لإثبات وجودهما التاريخي.. فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة
إسماعيل وإبراهيم إلي مكة.. ونحن مضطرون أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في
إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة .. والإسلام واليهودية والتوراة والقرآن من
جهة أخرى).
وفي موضع آخر من الكتاب يقول الدكتور طه حسين (فقريش إذن كانت في هذا
العصر ناهضة نهضة مادية تجارية.. ونهضة دينية وثنية.. وهي بحكم هاتين النهضتين
كانت تحاول أن توجد في البلاد وحدة سياسية وثنية مستقلة.. وإذا كان هذا حقاً..
ونحن نعتقد أنه حق.. فمن المعقول أن تبحث هذه النهضة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي
قديم.. يتصل بالأصول التاريخية الماجدة.. التي تحدثت عنها الأساطير.. وإذن ليس هناك ما يمنع قريشاً أن تتصل بهذه
الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم.. كما قبلت روما قبل ذلك
ولأسباب مشابهة (أسطورة) أخرى صنعها اليونان.. تثبت أن روما متصلة بـ (إينياس بن
بريام) صاحب طروادة.
واكتملت الثورة ضد كتاب في الشعر الجاهلي وصاحبه.. بتقديم عشرات
البلاغات للنائب العام.. والذي أحال أوراق القضية إلي وكيل النائب العام المستنير
(محمد نور).. والذي قرأ الكتاب والبلاغات المقدمة ضده.. وقرر إقامة مناظرة في
مكتبه بين طه حسين ومجموعة من شيوخ الأزهر.. واحتد النقاش.. وكان طه حسين يرد علي
الحجة بالحجة.. ويفند ما يقوله الشيوخ.. ولما عجزوا عن إقناعه بالتراجع قال أحدهم
لا أقول في هذا إلا ما قاله ابن حزم في الأشعري (الأشعري كافر حلال الدم) .
ورغم هذه الثورة الشعبية والرسمية ضد كتاب في الشعر الجاهلي إلا أن
وكيل النيابة المستنير محمد نور برأ الدكتور طه حسين.. فتدخلت الحكومة وقررت سحب
الكتاب.. وتم حذف الأجزاء الخلافية التي فيه وأعيدت طباعته بعنوان (في الأدب
الجاهلي.
وكان الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي أشد المهاجمين للدكتور طه حسين
من دون أن يكفره.. ولكنه كان يرد على الحجة بالحجة.. وأصدر كتابه (تحت راية
القرآن) للرد علي ما جاء في كتاب في الشعر الجاهلي.
وبعد هذه المعركة الشرسة التي خاضها الدكتور طه حسين في سبيل الدفاع
عن كتابه (في الشعر الجاهلي) قرر أن يسافر إلي باريس للحصول علي (استراحة المحارب)، وفى تلك الرحلة جاءته فكرة أن يكتب سيرته
الذاتية.. ليبدأ تسجيل واحدة من أهم السير الذاتية فى العصر الحديث .. والتى نشرها
تحت عنوان الأيام.. ونشر الجزء الأول منها فى عام 1929 .. بعد أن نشره فصولا فى
مجلة الهلال العريقة .
والطريف أن الدكتور طه حسين قد كتب الجزء الثانى من الأيام فى باريس
ويعد أزمة أخرى .. حيث قرر أثناء عمادته لكلية الآداب كتاباً للكاتب الإنجليزى
برنارد شو لم يعجب الحكومة.. وكان وزير المعارف وقتها الأديب الكبير محمد حسين
هيكل .. فى وزارة محمد محمود باشا. واشتعلت المظاهرات ضد العميد فقدم استقالته من
العمادة .. وسافر إلى باريس ليكتب الجزء الثانى من سيرته الذاتية (الأيام) .
وكان الدكتور طه حسين قد تولى عمادة كلية الآداب أكثر من مرة.. كما
عين مديرا لجامعة الإسكندرية فى الفترة من 1942 - 1944 . وفى إحدى فترات عمادته
لكلية الآداب أخبره بأن طالبة اسمها زينب الرافعى لم تدفع المصروفات .. فطلب
حضورها إلى مكتبه .. وسألها ما صلتك بأديبنا الرافعى .. فقالت أبى، فرد العميد على
الفور .. تمنح المجانية .. وإذا كانت هناك عقبات فسأدفع مصروفاتها من جيبى الخاص
.. وهذا موقف إنسانى يحسب للدكتور طه حسين حيث كان مصطفى صادق الرافعى أشد وأشرس
مهاجميه فى أزمة الشعر الجاهلى كما ذكرنا من قبل .
لم يكتف الدكتور طه حسين بمعاركه الأدبية والفكرية .. ولكن إرادته
الفولاذية دفعته إلى دخول معترك السياسة.. وخاصة عندما قام إسماعيل صدقى بإلغاء
دستور 1923 .. بعد توليه رئاسة الوزراء فى 1930 ..حيث انضم العميد إلى حزب الوفد
وراح يكتب مقالات لاذعة فى صحيفة كوكب الشرق .. وغيرها من صحف الوفد .. ورغم كثرة
اهتمامات العميد وتشعب مسئولياته إلا أنه دخل عالم الصحافة بقوة من خلال مقالاته
الكثيرة .. حتى تولى رئاسة تحرير مجلة الكاتب المصرية الشهرية فى الفترة من 45 -19
1948 .. واستمرت علاقة د. طه حسين بحزب الوفد مابين شد وجذب حتى تولى منصب وزير
المعارف فى حكومة الوفد الأخيرة عام 1950 .. وقد تعرض لكثير من الهجوم والمظاهرات
خلال توليه الوزارة .. لدرجة أن بعض المتظاهرين هتفوا بكل القسوة (يسقط الوزير
الأعمى) .. ورغم هذا استمر الدكتور طه حسين فى دعم وتقوية نهجه الإصلاحى .. الذى
دفعه إلى وضع (اللبنات الأولى) فى صرح مجانية التعليم .. ذلك الصرح الذى اكتمل على
يد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو المجيدة .. وقد كان الدكتور طه
حسين محل تقدير خاص من الزعيم جمال عبدالناصر.. حيث كان أحد رؤساء تحرير جريدة
الثورة (جريدة الجمهورية) التى صدر تصريح إصدارها باسم جمال عبدالناصر شخصياً ..
كما كان طه حسين أول من حصل على جائزة الدولة التقديرية .. التى تسلمها من
عبدالناصر شخصياً .. وفى هذا الحفل ارتجل العميد كلمة شديدة البلاغة والقوة.. وكان
ذلك فى عام 1958 .
وقبل أن نختتم هذه الإطلالة السريعة على جناحى الحب والإرادة.. عند
الدكتور طه حسين نتوقف عند بعض النقاط المهمة وهى :
أولا : رغم شراسة وقسوة معركة كتاب (فى الشعر الجاهلى) إلا أن د. طه
حسين قد أكد من خلال هذه المعركة على حتمية مواجهة الفكر بالفكر.. وعلى أن المفكر
والأديب لايضيره ولايصيبه أن يقوم ببعض المراجعات لأفكار .. حيث أصدر الدكتور طه خلال مراحل مختلفة من حياته مجموعة رائعة من
الكتب تعالج قضايا الفكر الإسلامى .. ومنها ( الشيخان - الفتنة الكبرى - على وبنوه
- على هامش السيرة - الوعد الحق) .
ثانيا : استطاع الدكتور طه حسين أن يجعل من أفكاره وكتاباته جسراً
يربط ما بين الثقافتين العربية والغربية ... وبين التراث العربى والأدب المعاصر ..
وبهذا الدور المهم استكمل العميد عطاءات الرواد الذين سبقوه مثل الرائد الأول
رفاعة رافع الطهطاوى .. ومن بعده الإمام محمد عبده .
ثالثا : رغم أن صفة (المفكر) تغلب الدكتور طه حسين .. إلا أنه مارس
الإبداع شعراً ورواية .. وترك مجموعة من الروايات التى ظهر فيها التأثر بالأدب
الفرنسى مثل (المعذبون فى الأرض - دعاء الكروان - الحب الضائع - جنة الشوك - أديب
- أحلام شهرزاد) .
رابعا : رغم الغزارة الإنتاجية للعميد حيث تخطت كتاباته الستين كتاباً
إلا أن سيرته الذاتية (الأيام) تظل الأهم والأكثر تداولاً .. حيث استطاع العميد من
خلالها أن يقدم نموذجا مبهراً لكي تكون العصامية الفكرية والإنسانية .. كيف تستطيع
الإرادة القوية المسنودة بالحب والمشاعر النبيلة.. أن تقهر كل الصعاب مهما كانت
قوة وشراسة هذه الصعاب .
خامساً : رغم المناصب الكثيرة والرفيعة التى تقلدها العميد إلا أنه
سيظل (النموذج الملهم) فى كيفية (بناء العقل) .. لأن العقل هو (السيد) .. وكلما
كان مستنيراً وقادراً على الإبداع .. فكل المناصب إلى جواره لا شىء.