لم يبدأ الشغف العالمى بقضايا البيئة إلا أوائل السبعينيات، مع تنامى الحركة البيئية العالمية وانتظامها فى سياق رسمى. ما يعنى أن مصطلح "الإيكولوجيا" حديث نوعاً ، وهو العلم الذى يناقش علاقة الكائن الحى ببيئته وبأفراد نوعه والأنواع الأخرى التى تشاركه نفس الموطن، بالإضافة لتفاعلات الكائن الحى مع المناخ والخصائص الفيزيائية لهذا الموطن. وبعض المذاهب البحثية تعود بعلم الإيكولوجى إلى عهد ابن خلدون ومؤلفاته الرائدة فى علم الاجتماع. أى أنه علم قديم أعيد إحياؤه ، حتى أن لفظ الإيكولوجى ذاته تم استخدامه لأول مرة من قِبل العالم الألمانى إرنست هاكِل عام 1869، ثم تمت إعادة صياغته وتوظيفه من خلال علماء محدثين مثل "كِربس" عام 1985.
لقد نشأ من خلال تنامى الحراك البيئي العالمى ما يُدعَى "بالضمير البيئى"، أى الاستشعار المشترك لتلك القضية الخطيرة لدى القادة والحكام. وهو ما كان سبباً مباشراً فى ظهور منظمات حكومية ومستقلة تدعو للالتفات إلى قضايا قد تحدد مصير البشرية لأهميتها القصوى وخطورتها: كقضية التغير المناخى، وتأثير التجارب العسكرية والإشعاع النووى، والاحترار الكونى تأثراً بالاتساع المضطرد لثقب الأوزون، وموجات تسونامى المهلكة تزامناً مع الانهيارات الثلجية فى القطبين.
قضايا أخرى بدأت فى التوالى والتتابع ، دون وجود حلول آنية، فالعقلية الأنانية لا تزال هى المسيطرة والمتغلبة على الضمير العلمى والبحثى المتألم والمنذر بكوارث لا نزال نطالع أخبارها من حين لآخر، فأين يكمن الخلل؟ ولماذا لا تسهم المؤتمرات العالمية المتكررة واللقاءات المتعددة لقادة العالم المتقدم فى تحجيم المشكلة ؟ وما السبب فى أنهم غير قادرين على التوصل إلى حلول قطعية ناجعة ؟ هناك سر !
إن الفجوة الحضارية والثقافية المتولدة فى خضم هذا التفاعل العالمى ليست فقط بسبب بعض الدول النامية التى تبدو نائية عن الركب الحضارى قليلة الاكتراث بقضية البيئة لأن لديها قضايا أخرى أهم. بل إن مدى اتساع الفجوة الحضارية والأيديولوجية محكوم بسرعة تصرف الدول الصناعية الكبري التى تسببت فى تعاظم المشكلة البيئية وبروزها بالأساس؛ بفضل رعونتها فى التعدى على النظام البيئي المتوازن بعوادم المصانع والمخلفات النووية والصيد الجائر للحيوانات والقطع الجائر للغابات وتفتيت الجبال الرواسي بحثاً عن المعادن الثمينة والثروات. ولا تزال الفجوة تتسع مع إصرار تلك الدول على الاستمرار فى ممارساتها المهلكة للبيئة مع التباكى علي هلاكها بدموع التماسيح!
رحلة الإيكولوجيا من الربيع الصامت إلى الجحيم البارد
يعتبر البعض أن كتاب (الربيع الصامت) لمؤلفته "راتشيل كارسون" والصادر عام 1962 البداية الحقيقية لخلق الوعى العالمى بقضية البيئة؛ فمنذ صدور ذلك الكتاب بدأت جهود العلماء والمثقفين تؤتى ثمارها بالتفات الساسة وقادة الفكر لهذه القضية واعتبارها من القضايا العالمية المحورية. هكذا انعقد المؤتمر العالمى الأول للبيئة فى ستوكهولم عام 1972، واستمر انعقاد نسخ أخرى من هذا المؤتمر كل عدة سنوات مع استمرار المشكلة البيئية وتفاقمها ! ما يجعل تلك المؤتمرات تبدو بلا جدوى.
فى كل عام تنبعث من الأرض كميات من غاز الكلوروفلوركاربون تبلغ نحو مليون طن. وهو المسئول الأول عن إنتاج الكلورين العضوى المتسبب فى تآكل طبقة الأوزون ، هذا التآكل الذى وصل اليوم إلى ما يزيد عن 3% من نسبة الأوزون فى طبقات الجو العليا. ما أدى إلى تصاعد القلق العام تجاه عوادم الرفاهية كغاز الفريون ومزيلات العرق. ثم إن الاحتراق المتواصل للفحم ومنتجات البترول والذى لا ينقطع ليلاً أو نهاراً أدى لتشبع الغلاف الجوى بانبعاثات الكربون وما يستتبع هذا التكدس المفرط من تشوه مناخى واحترار جوى ومطر حمضى وفيضانات فى بلدان لا تعرف الفيضانات وتصحر فى بلدان تعيش على الزراعة! المسألة فى غاية الخطورة . هذا ما أكدته جريدة نيويورك تايمز عام 2007 ، أى منذ أكثر من عشر سنوات مضت، عندما جاء شهر يناير ولم يأتِ الشتاء بعد ! فدرجة الحرارة كانت تزيد عن 20 درجة مئوية، ما حدا بالأمريكيين للخروج للسنترال بارك بعد التخلص من ستراتهم الشتوية . ثم فجأة وبلا مقدمات جاء الشتاء وهبطت الثلوج ، وبالتزامن تحدثت حينها جريدة الإيكونومست عن ظاهرة مثيرة للدهشة فى مدينة سياتل التى اعتادت كثرة الثلوج فى هذا الوقت من العام، إذ شهدت بدلاً من الثلوج هطول كميات ضخمة من الأمطار ، فى حين دفع التصحر والجفاف فى الجنوب الشرقى لأمريكا بعض المزارعين للتخلى عن نشاطهم الزراعى تماماً، حالة من التناقضات المناخية المثيرة للذعر.
أزمة الرئة المحترقة
لم تكن كارثة حرائق غابات الأمازون المسماة "رئة العالم" هى الوحيدة هذا العام، فقد سبقتها كارثة غامضة أخرى هى كارثة الانفجار النووى فى شمال روسيا، فأعادت للعالم ذكرى تشيرنوبل وثري مايل آيلاند وتسونامى اليابان، تلك الكوارث التى أفقدت الناس ثقتها فى الوقود النووى كمصدر للطاقة، وبدأت الأنظار تتجه نحو الطاقة الخضراء المسماة بالوقود الحيوى. غير أن الطاقة الخضراء ذاتها كادت تلفظ أنفاسها فى أعقاب سلسلة من الحرائق اجتاحت الأمريكتين مؤخراً كان آخرها تلك الحرائق الكارثية فى غابات الأمازون البرازيلية.
تكمن الخطورة فى تلك الحرائق الأخيرة إلى سعتها الضخمة وسرعتها المخيفة وكونها حدثت فى أخطر وأقدم مكان على وجه الكوكب، حيث تعتبر غابات الأمازون أكبر الغابات الاستوائية المطيرة إذ تبلغ مساحتها نحو سبعة ملايين كيلومتر مربع أى أكبر سبع مرات من مساحة مصر، أو ما يقارب مساحة قارة أستراليا.
تلك الغابات مسئولة عن حوالى 20% من نسبة الأكسجين التى يتنفسها الكوكب. ويعود تاريخها إلى أكثر من 50 مليون سنة، وتحتوى على محميات طبيعية واسعة النطاق بها 16 ألف نوع من أشجار يبلغ تعدادها نحو 400 مليار شجرة وأكثر من 40 ألف نوع من النباتات تضم فى طياتها أكثر من 2.5 مليون صنف من الحشرات . كتالوج كامل من آلاف الأنواع من الحيوانات والطيور والأسماك فى تلك المنطقة المفعمة بالحياة. وها نحن نشهد اليوم موتها موتاً بطيئاً على يد قاطنيها.
فحرائق الأمازون التى وصل مجموعها هذا العام فقط إلى حوالى 74 ألف حريق، نشأت فى الأساس كنتيجة للنشاط الاقتصادى المتزايد بعد أن فتحت البرازيل المجال لاستنزاف الغابات منذ يناير الماضى . وفى تحقيق صحفى نشر فى بوابة الأهرام فى السابع والعشرين من أغسطس ، أكد بعض خبراء البيئة أن حرائق الأمازون قد يمتد تأثيرها إلى مصر فى صورة تشوهات مناخية كهطول الأمطار الغزيرة وازدياد موجات الصقيع وارتفاع مستوى سطح البحر بصورة أسرع من المتوقع، بما يهدد سواحل الدلتا بزيادة كبيرة فى ملوحة التربة. ولنا أن نتصور تأثير مثل تلك الحرائق على سكان منطقة الأمازون أنفسهم والمناطق المحيطة بها، فإلى جانب سحب الدخان الكثيفة عاشت مناطق واسعة بالبرازيل فى ظلام دامس بسبب انقطاع الكهرباء وتكاثف الأبخرة المعتمة لدرجة أن مدينة "ساو باولو" التى تبلغ مساحتها أكثر من 2500 كم، أعتمت بالكامل فى الواحدة ظهراً.
من المعروف أن الأشجار حال حرقها أو تعفنها فإنها تطلق سائر مخزونها من ثانى أكسيد الكربون. فموت الأشجار معناه موت باقى المخلوقات بالاختناق، والمخيف فى الأمر أن إجمالى حجم ما تم فقده من غابات الأمازون فى حوادث الاحتراق وعمليات القطع الجائر منذ السبعينيات حتى اليوم بلغت أكثر من 700 ألف كم مربع، أى ما يزيد على ثلثي مساحة مصر.
لم يحزن العالم أو يشعر بقلق مثيل فى حريق كاليفورنيا عام 2017 الذى أتى على أكثر من 6000 منزل، وأجلى 100 ألف شخص، وتسبب فى خسائر بالمليارات . فمهما كان تأثيره فهو قاصر على سكان تلك المنطقة ، بينما تفاعل العالم كله مع حرائق الأمازون واسعة النطاق! وفى حين قرر زعماء الدول السبع فى مؤتمرهم الأخير التبرع بمبلغ 20 مليون دولار ، وكذلك فعلت منظمة ليوناردو دى كابريو لحماية البيئة التبرع بمبلغ 5 ملايين دولار، قررت ألمانيا عقاب البرازيل بحجب معونتها السنوية للضغط عليها لمنع الاغتيال الجائر لرئة العالم.
متوالية الكوارث البيئية
هناك عشرات القضايا البيئية التى اختفى ذكرها فى زحام كوارث بيئية لها صدى عالمى أكبر، رغم أنها قضايا شديدة الأهمية والتأثير على صحة الإنسان العضوية والنفسية، مثل قضية تلوث المياه بالمخلفات الآدمية والصناعية، والضوضاء، والتصحر، والنباتات المعالجة وراثياً، والمبيدات الكيماوية المسرطنة، والملوثات الكيماوية التى يتعرض لها عمال المصانع . كلها قضايا مجتمعية مزمنة شديدة الأهمية يختفى ذكرها أمام كوارث البيئة أو جرائم الإنسانية ضد الطبيعة.رغم أن فاتورة العلاج البيئى مكلفة، إذ تبلغ تكلفة معالجة تلوث الهواء وحده ما يزيد على 200 مليار دولار.
ومقابل تلك الحرب التى يشنها الإنسان على الكوكب، تعلن الطبيعة ثورتها وغضبتها فى شكل متوالية من الكوارث. هذا ما بَدا خلال العقدين الأخيرين.. ففى عام 2004 حدث زلزال تسونامى سومطرة الذى قتل أكثر من 283 ألف شخص، وزلزال جاوة فى 2006 الذى دمّر نحو 135 ألف منزل وقتل ما يزيد على 5500 إنساناً، ناهيك عن الأعاصير والفيضانات والسيول التى لا يختفى ذكرها من أشرطة الأخبار فى الفضائيات.
لقد سجلت أمريكا نحو 40 كارثة طبيعية مدمرة فى الفترة من 1974 حتى عام 1980تضرر من جَرّائها أكثر من نصف مليون نسمة . هذه الأرقام تضاعفت خلال العقد الأخير بينما أمريكا نفسها تنسحب من اتفاقاتها العسكرية والبيئية. فالإشكالية الأكبر أن الغرب يشهد صعوداً لليمين المتطرف ، وظهوراً لزعامات لا تعبأ بقضايا البيئة ومستقبل الإنسانية . وهنا مكمن الخوف.
من"موت الحتميات" إلى "التوازن المحتوم"
يذكر علماء الإيكولوجى أن طائفة من علماء القرن التاسع عشر أطلقوا صيحة جديدة فى علوم الاجتماع تُدعَى "الحتمية الجغرافية" ، ومعناها التسليم بأن الأوضاع المناخية والجيولوجية تفرض على الناس نمطاً محدداً من الحياة الاقتصادية والسلوكيات وأسلوب الحياة . تلك الحتمية اختفت اليوم من الكتابات الإيكولوجية بعد أن أثبتت الدراسات الأكثر عمقاً أن العامل الجغرافى هو مجرد رقم بين عوامل أخرى شتى تحكم نمط الحياة البشرية فى مكان ما؛ عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة . أى لا حتمية هناك، بل تغير وتطور وتباين.
وفى كتابات "كارل ماركس" كلام عما يُدعَى "الحتمية الاقتصادية" تبريراً للماركسية وتمريراً للمبادئ الشيوعية فى إدارة النظم الاقتصادية والسياسية . ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وأفول الشيوعية ماتت الحتمية الاقتصادية المدّعاة . وباتت المرونة الاقتصادية هى السائدة ، ربما تحت مبدأ سميث الشهير : "دعه يعمل دعه يمر" الليبرالى، أو ربما بمبادئ أخرى أشد حيوية ومرونة مثل الماكنزية والليبرالية الجديدة.
والأحداث المعاصرة ذات الطابع الغرائبي المخالف لما عهدناه فى الكلاسيكيات التاريخية تشهد على موت "الحتمية التاريخية" : أن التاريخ يكرر نفسه فى حلقات متماثلة متشابكة، وهو الادعاء الذى أثبت الحاضر خطأه ، وأن هناك تاريخا جديدا تتم كتابته اليوم على أسس مختلفة.
غير أن هناك حقيقة واحدة نعرفها ونوقن بها، هى حقيقة التوازن الطبيعي للكون. وأن هناك سننا كونية فوقية لإحداث مثل هذا الاتزان. حتى أن نظرية "الاحترار الكونى" القائمة على أن ثقب الأوزون المتسع يتسبب فى ارتفاع درجات حرارة الأرض تواجه اليوم نظرية مضادة يتزعم مزاعمها "إيان بليمر" فى كتابه"العلم المفقود" حيث يدعى أن ثلاثين عاماً من الارتفاع البطيء فى درجات الحرارة تم محوها فى بضع سنوات من الانخفاض السريع لها. والدليل ما حدث فى عام 2008- أكبر موجة باردة واجهت الأرض منذ عدة عقود ، حيث سجلت مؤشرات الأرصاد الأمريكية فى مينيسوتا وبنسلفانيا رقماً قياسياً جديداً فى درجات الحرارة بلغ (-40 درجة مئوية)، وفى أسكتلندا وإنجلترا أغلقت العواصف الثلجية الطرقات والمدارس، وتسببت تلك العواصف فى موت 60 شخصاً فى الصين، كما دمرت نحو نصف محصول الأرز فى فيتنام، كانت أطول موجة باردة مرت على العالم، وتكررت هذه الموجة فى 2012، فهل تمثل موجات الابتراد المتتالية نوعاً من التوازن الكونى فى مواجهة الاحترار الذى تسبب فيه الإنسان؟!
إن الادعاءات القائلة بتناقص سلة الطعام وندرة المياه وتقلص الموارد أمام تضاعف سكان العالم، تواجهها مُكتشفات حديثة لعوالم جديدة فوق الأرض فى ثنايا الجبال والكهوف ، وتحت الأرض مثل تلك القارة التى أشار إليها العالم الطبيعى "وليم ويب" الذى اكتشف الغابة المطرية (كانوبي) عام 1917، وجاءت الاكتشافات الحديثة لعالم الأعماق لتؤكد وجود هذه القارة على مسافة 1000 متر من سطح المحيط،فأمام غياب الحتميات يأتى التوازن كحقيقة حتمية وحيدة ومؤكدة.
علم النفايات .. وحلول بيئية لا يريدها أحد
عشرات الحلول البيئية فى جعبة الباحثين أتت تباعاً، لكنها لا تلقى فى العادة ترحيباً من القادة والساسة لاعتبارات غامضة. لعل أهمها ما جاء فى كتابات "ميشيل طومسون" صاحب نظرية القمامة التى طرحها فى كتاب عام 1979 يحمل نفس الاسم: "The Rubbish Theory".
تقوم النظرية على فكرة مؤداها أن فهم الأشياء لا يكتمل إلا بمعرفة ضررها إلى جانب نفعها ، وأن دراسة اللاقيمة، أو القيمة الصفرية، مهم بقدر دراسة القيمة، وأن الكثير من الأشياء التى تفقد قيمتها تماماً يأتى عليها الوقت فتغدو عظيمة النفع، والمثال الأوضح هنا :"التراث العالمى والتاريخى" ، إذ كان حتى وقت قريب مضى يُباع بالبخس للمتاحف وهواة التراث، حتى باتت بعض تلك المقتنيات لا تقدر بثمن، تلك القيمة المكتسبة ليست قيمة تراكمية زمنية ولا قيمة ذاتية منسية، بل هى قيمة مستحدَثة جاءت فى ظروف مختلفة ووفق ركائز ومعايير مغايرة.
وما "تدوير القمامة" إلا تطبيق واحد من بين عشرات التطبيقات لهذه النظرية .
حتى أن فن الجرافيتى الشعبي يعدّ تطبيقاً من تطبيقات تلك الفكرة القائمة على الاستفادة من كل ما هو متاح.. لصياغة كل ما هو جميل.