منذ أن تولى إسماعيل باشا الحكم فى يناير
من عام 1863، حيث كان مولعاً بالفنون والثقافة، فقد قام بتجديد حديقة الأزبكية،
وأنشأ بها المسرح الكوميدي، كما قام ببناء دار التمثيل لأول مرة فى مصر، ولكن كان
أهم إنجازات الخديو إسماعيل هو افتتاح دار الأوبرا الخديوية عام 1869، فلم يكن إنشاء
الأوبرا المصرية مجرد حدث ارتبط بافتتاح قناة السويس فقط، بل يعد ذلك من أهم الأحداث
الفنية فى تاريخ الفن العربي، لما كان له من أثر كبير فيما بعد فى إحداث تغيرات
وتطورات بشكل غير مباشر فى تطور فنون المسرح والموسيقى العربية.
كان حال الغناء فى تلك الفترة يعتمد على
الموشحات الأندلسية والتركية وغناء وتلحين الأدوار وكان من أهم فناني هذه الحقبة (
عبده الحامولي – ومحمد عثمان )، كما كانت الفرقة الموسيقية عبارة عن تخت شرقي بسيط
محدود العدد ( قانون – ناى – عود – طبلة – رق ) حيث تم إضافة آلة الكمان فيما بعد
لتصبح ضمن هذه الآلات أيضاً، فلم يكن هناك ما يُعرف بالتسجيلات الصوتية، أو
السينما أو أى وسيلة نستطيع من خلالها مشاهدة مسرحية أو الاستماع للموسيقى والغناء،
فكانت الوسيلة الوحيدة للاستمتاع بهذه الفنون هو الذهاب إلى المسرح، فلم يكن فى
مقدور أى شخص أن يتعرف على الفنون الأوروبية وهو فى موطنه، ولكن منذ أن تم افتتاح
دار الأوبرا الخديوية وقد انتظمت المواسم الأوروبية، والفرق الغربية لتعرض أشهر الأوبرات
المسرحية العالمية، وبذلك أتيح للجمهورالمصري أن يطلع ويستمع ويشاهد لنماذج راقية
من الفن، وبدأ الفنانين المصريين ومحبي الموسيقى والغناء يستمعون لنغمات مختلفة
تماما عن الألحان التطريبية الشجية التى اعتادوا سماعها فى الموشحات والأدوار، كما
استمعوا لأصوات الآلات الأوركسترالية المتنوعة والمتعددة، والتوزيعات الموسيقية التى
تختلف أيضاً عن أصوات آلات التخت الشرقية البسيطة والتى تعزف خط لحني واحد فقط
"ميولودية الأداء"، حيث بدأت الذائقة الموسيقية تختلف إلى حد كبير، وإن
كان هذا الأثر لم يأتي خلال السنوات الأولى ولكن بعد مرور سنوات على تقديم مثل هذه
العروض الأوبرالية، وما يثبت ذلك أنه منذ عام 1920 وقد كانت الأوبرات العالمية يتم
تعريبها لتلقى باللغة العربية، كما جاءت العديد من مسرحيات "منيرة المهدية"
وهى إحدى رواد المسرح الغنائي فى بدايات القرن العشرين، نجد الكثير من أعمالها
المسرحية من أوبرات عالمية، ولكن مع وضع ألحان شرقية، فمن أعمالها ( أوبرا كرمن )
و ( أوبرا تاييس ) و ( أوبرا روزينا ) و (
أوبرا كارمينيا )، فعلى سبيل المثال مسرحية ( آدنا ) والتى أطلقت عليها منيرة
المهدية اسم ( أديني جيت ) هى قصة مقتبسة من رواية "إكسير الحب" للمؤلف
الإيطالي "ماريتني" عربها فرح أنطون، أما الجانب الموسيقي فى الرواية
انقسم إلى قسمين الأول موسيقى غربية وهى مأخوذة من الرواية الأصلية نفسها التى ألف
موسيقاها الموسيقار الإيطالي المشهور وقتها "دونيزيتي" أما الجزء الثاني
جاءت بألحان شرقية للملحن "كامل الخلعي" .
فكان لدار الأوبرا الخديوية تأثير واضح ومباشر
فى أن يكون هناك مسرح غنائي عربي والذى يعرف بفن ( الأوبريت الغنائي ) والمقتبس من
فن ( الأوبرا العالمية ) ليصبح المسرح الغنائي "الأوبريتات العربية" أهم
الفنون التى تميزت بها الموسيقى المصرية منذ بدايات القرن العشرين، كان من رواد
هذا الفن ( كامل الخلعي ) و ( سلامة حجازي ) ولكن الألحان كانت تميل للجانب
التطريبي أكثر من التعبيري والدرامي، إلى أن بدأ ( سيد درويش ) منذ عام 1917 فى
صياغة ألحان مسرحية مُدخلا ما يعرف بالمدرسة التعبيرية فى الغناء العربي من حيث
اللحن والأداء، بعيدا عن المدرسة التطريبية فى الموشحات والأدوار، فلم يأتِ سيد
درويش بالتجديد وإدخال التعبيرية من فراغ ولكن نتيجة مخزون ثقافي وفنى بداخله مما
سمعه من تراث مثل الأدوار والموشحات، ومما سمعه من أوبرات عالمية وموسيقى غربية
جديدة علينا ليخرج بهذا المزيج الفني الخالد واضعا ملامح متميزة للموسيقى العربية
ومتخلصا من النمط والأسلوب التركي الذى كان سائدا، كما نجد براعة سيد درويش فى
المسرح الغنائي جاء استلهاما من هذا التيار الموسيقى الجديد الذى استمع إليه وأبهر
به، فأصبحت الأغنية داخل الأوبريت الغنائي عند سيد درويش جزء من الحدث الدرامي
تماماً، فكان هذا التغيير وهذا التجديد امتداد لما فعلته تلك العروض الأوروبية من
أوبرات عالمية كانت تقدم على مسرح الأوبرا الخديوية، لتنتشر انتشارا كبيرا حيث بدأت
هذه الفرق الأوروبية تفد إلى مصر بانتظام منذ عام 1869 وكانت تنتقل إلى الإسكندرية
لتعرض العروض نفسها على مسرح زيزينيا والهمبرا، وبدأت التيارات الأوروبية تزحف على
المسرح العربي، وظهرت من هنا مهنة جديدة هى فئة متعهدي الحفلات وكان أغلبهم من إيطاليا
ومن الأرمن .
وبرزت ثلاث دول تقود هذا التيار، هى فرنسا
وإنجلترا وإيطاليا، كانت كل دولة من هذه الدول تسعى إلى أن تجعل من ثقافتها الثقافة
السائدة فى مصر، خاصة بين طبقة الأغنياء والمتعلمين.
استطاعت الفرق الأجنبية أن تجذب إليها
الهواة من أبناء مصر الذين أحبوا هذا الفن، وانبهروا بالفرق الأجنبية التى استطاعت
أن تنقل العروض من طور السذاجة إلى الفهم والتأمل، مما ساعد ذلك فى إبراز جيل جديد
من الممثلين والموسيقيين لديهم ثقافات فنية جديدة أكثر عمقاً وأكثر معرفة من الأجيال
السابقة، كما ظهر كتاب ومترجمين من أمثال "ابراهيم رمزى الفيومي ، وإسماعيل
عاصم، ومحمد تيمور، ومحمد عبد الرحمن" .
فمن المقالات الهامة التى نشرت بجريدة
الأخبار فى 4 نوفمبر عام 1903 والتى تعكس ما كان عليه الفن فى بدايات القرن
العشرين فى مصر حيث كُتب نصا "أن دار الأوبرا الخديوية صارت حكراً على الفرق
الموسيمية الأجنبية واعتمدت الحكومة المصرية إعانات سنوية باهظة، دون أى محاولة
لتشجيع الفرق المصرية بحجة أن التمثيل العربي صناعة محتقرة ولا يفهم منها غير
الأناشيد بلا أوزان وأغان بلا ضابط وإلقاء بلا تأثير، هذا هو رأي الحكومة الذين
يقبضون على زمام المالية" .
دار الأوبرا الخديوية جذبت كبار الفنانين
العالميين أن يأتوا إلى مصر ففى عام 1905 عرفت مصر الممثل الفرنسي الكبير
"كوكلان" الذى حضر هو وفرقته إلى مصر، ورغبة فى الاستفادة من هذا الفن
الفرنسي أوفدت مصر بعثات إلى باريس للدراسة والمشاهدة، ومن حيث التكنيك والحرفية
أرسلت البعثات إلى إيطاليا حيث توجد أكبر مدارس للديكور والملابس .
لتظهر بعد ذلك فرق متعدده قد سافر معظم
روادها فى بعثات علمية للخارج مثل ( فرقة جورج أبيض ) وظهور فرق أخرى مثل ( فرقة
عزيز عيد – فرقة أمين صدقي – فرقة يوسف وهبى – فرقة نجيب الريحاني .... ) . وفى
الموسيقى والغناء والمسرح الغنائي كان سيد درويش الذى كان من أهدافه وطموحاته
الفنية أن يسافر إلى إيطاليا ليتعلم ويدرس التوزيعات الموسيقية والهارموني وقواعد
الموسيقى الغربية، ولكن لم يمهله القدر لذلك، ولكنه استطاع من خلال تعايشه مع مثل
هذه العروض الفنية والأوبرات العالمية التى استمع إليها وهو فى القاهرة دون أن
يسافر إلى أوروبا، بفضل وجود دار الأوبرا الخديوية التى استقدمت كل ذلك إلى مصر،
ليقدم سيد درويش للموسيقى العربية كل ما هو جديد وغير مسبوق متأثرا بهذه الثقافة
الجديدة .
لم يقتصر دور الأوبرا الخديوية على إثراء
الثقافة الفنية العربية سواء فى المسرح أو الموسيقى فقط بل امتد ذلك إلى الارتقاء
بشكل المسرح كمبنى خاص للعرض المسرحي والعروض الفنية عموما، فقد كانت الفرق
المسرحية والموسيقية تقدم عروضها فى مسرح لم يكن مسرحا حقيقيا بالشكل الذى نعرفه،
ولكنه قد يكون قطعة أرض فضاء مسقوفة بالقماش، مفروشة بالرمال، وقد رصت الكراسي،
والدكك وفى آخرها "خشبة" مسرح أقيم على براميل فارغة ويوضع عليها ألواح
خشبية، وفى أماكن أخرى تكون مكشوفة لا يوجد بها كراسي، لتأتى دار الأوبرا الخديوية
ليست مجرد مسرح فقط بل تحفة معمارية مبهرة، لتظهر بعد ذلك المسارح وأماكن العروض
الفنية الشهيرة فى بدايات القرن العشرين على غرار مسرح الأوبرا الخديوية مثل ( زيزينيا – مسرح تياترو عباس – الاجبسيانا –
الدنيسانس – برينتانيا – البوسفور – الشانزليزية .. ).
وبذلك كان لدار الأوبرا الخديوية فضل كبير
فى تطور الفن العربي من مسرح وموسيقى وغناء.