الأربعاء 15 مايو 2024

تياترو الأزبكية ينتصر للهويّة المصرية والعربية

فن25-10-2020 | 10:22

شَهِدت مصر تحت حكم الخديو إسماعيل (١٨٦٣-١٨٧٩) طفرة هائلة في الفنون , ولَكن الخديو بدلًا من اتخاذهِ القاعدة الشعبية للمصريين ضاربة الجذور مكونًا أساسيًا لتلك الفنون , استجلب من أوربا المسارح الغنائية وفَن الأوبرت (الأوبرا) , ربما فَاتَ عليه أن هذه الفنون المستحدثة تتميز بخصوصية أوربية ناضجة ومتماسكة , وأنّ المصريين غير مهيئين - حاليًا علي الأقل - لهضم تلك الوجبة الفنية الدسمة , واستيعاب أبعادها الفلسفية العميقة ؛ لأنهم خارجين - قبل عقود قليلة - من رَقدّة حضارية طويلة , ألقاهم فيها عمدًا الحُكم العثماني البغيض للبلاد فأصابهم بالجمود الفكري ؛ لذلك لم تعرف تلك الفنون العالمية الحديثة طريقها إلي قلوب وعقول المصريين , إذ تعجرفت عليهم جُوقات "الأوركسترا" الأوربية المتطورة , فنفروًا منها واعتزلوها , ولكن بعدما اُقتطع ثمن استيرداها - عديم الجدوي لهم - من قوتهم .

الخديو- التنويري - حكم مصر, وعينه علي ضواحي لندن ومسارح باريس ونوافير لُكسمبورج ؛ أراد نَقل شوراع عواصم أوربا بنماذجها التنظيمية والمعمارية إلي القاهرة , ومَدْ خطوط وعربات السكة الحديد وإنشاء الميادين الرحبة , ثُمّ أخيرًا امتلاك دارًا فخيمة للأوبرا.. وفعل . ولكنه وفي ذات الوقت نسيّ أن رعاياه يطحنهم الفقر, لا ينتعلوًا أحذية ليمشوا بها في شوارع قاهرة المحاكاة الأوربية ، أو يكتنزون مالًا فائضًا للترفيه في تِلكَ المحافل الفخمة مثل الأوبرا الخديوية .

*الأوبرا الخديوية (١٨٦٩-١٩٧١(

في عام ١٨٦٩ م وعلي هامش حفل افتتاح قناة السويس المهيب , اُفتتحت دار الأوبرا الخديوية , بفرقة "ريجوليتو" الإيطالية . ولكن العرض الأشهر الذي ارتبط بالأوبرا الخديوية هو "أوبرا عايدة" ؛ المأخوذ عن بردية فرعونية , كتب فصولها الأربعة "ماريت بك" وزير الآثار المصرية , وتم تلحينها بمعرفة الموسيقار العالمي "فريدي" مقابل ١٥٠ ألف فرنك , وتم صناعة الملابس والديكور بمبلغ ربع مليون فرنك . إلي جانب اهتمام الخديو بالأوبرا الملكية , شجّع أيضًا المسرح الكوميدي الفرنسي والمقام في حديقة الأزبكية بجانب دار الأوبرا الخديوية (وهو مبني المطافي حاليًا) ,يواظب علي مشاهدة عروض المسرحيات الهزلية والكوميدية , ويصفق للممثلين الأجانب بكلتا يديه . توهّجت الأوبرا لدعم الخديو المباشر لها خلال الثمانية أعوام المتبقية في حكمه من تاريخ افتتاحها ؛ باستقدام فرق أوبرالية عالمية , ثم أغلقت أبوابها مع عزله وقدوم ابنه الخديو توفيق , يجُّر في أذيالهِ الاحتلال الإنجليزي للبلاد .

* تياترو(مسرح) الأزبكية .

علي بعد أمتار من مبني الأوبرا الخديوية الأرستوقراطية , أُقيم مَقهي شعبي في الهواء الطلق , يفتح أبوابه للجمهور مقابل خمسة مليمات كسعر لتذكرة الدخول , يتوسطه - علي استحياء - مسرح بسيط في الجانب الجنوبي من حديقة الأزبكية , سُميّ "تياترو الأزبكية" حيث عرضت عليه مسرحيات شعبية بسيطة , رغم عَدم احترافيتها يفهمها الجمهور العريض ويتكالب عليها بكثافة .

وفي الوقت الذي توقّفَت فيه الأوبرا الخديوية , انتعش نشاط تياترو الأزبكية , ليقوم بأول مبادرة حقيقية لإنشاء مسرح وطني ؛ إذ جاء "يعقوب صنوع" بمسرحيات أوربية وصبغها باللون الأخلاقي العربي وقدّمها علي المسرح . وتبعه فرقة "أبو خليل القباني" عام ١٨٨٥ م , ثم فرقة "إسكندر فرح " لبطلها الشيخ سلامة حجازي .

لمّا عاد نشاط الأوبرا الخديوية من جديد , كان "تياترو الأزبكية" قد أصبح له حضورًا وجمهورًا كبيرًا , وتعددت فيه الألوان المسرحية المعروضة , انتقالا من المسرح الغنائي - الذي أسسه سلامة حجازي - إلي المسرح التمثيلي لجورج أبيض ويوسف وهبي . ثم قدّم "نجيب الريحاني" و"علي الكسار" مسرحيات مصرية خالصة بدءًا من التأليف إلي الإخراج . فرض اللون المصري نفسه علي الساحة الفنية , فعرضت المسرحيات المصرية أيضًا في دار الأوبرا الخديوية .

وفي خلال سنوات الحرب العالمية الأولي كانت دار الأوبرا الخديوية , تقدم عروضًا مسرحية ذات طابع عسكري لتسلية جنود الاحتلال ,بينما  أحدث مسرح الأزبكية أثرًا كبيرًا في الفكر والشعور الوطني , إذ اندلعت الحماسة الوطنية من الأغاني والمسرحيات المطالبة برحيل الإنجليز عن مصر. وسُميّ "تياترو الأزبكية" بالمسرح الوطني بعدما عقد طلعت حرب عام ١٩٢٠ مؤتمر إشهار بنك مصر, أعلن فيه إنشاء المسرح الوطني في مكان "تيتاترو الأزبكية " بعد تطويره وافتتاحه عام ١٩٣٥ . استمر  المسرح الوطني "تياترو الأزبكية سابقا " منبرًا وعنوانًا للنضال الوطني ضد الاستعمار , فأنشأ الشاعر خليل مطران علي مسرحه الفرقة القومية المصرية عام ١٩٣٥ , راحت تؤدي عروضها المميزة المتسمة بالطابع الوطني , حتي عام ١٩٤٢ , إذ حلّ الانجليز الفرقة لأنها تؤدي مسرحيات ضد وجودهم الاستعماري في البلاد .

* رُوّاد فن الأوبريت المصري .

يعتبر سلامة حجازي - من خلال فرقة إسكندر فرح - رائد فن الأوبريت في مصر, إذ كان له السبق في الانتقال بالأغنية من التخت الشعبي في المحافل الإنشادية إلي جمهور المسرح , وجعل منها جزءًا أصيلا في العمل المسرحي , ما مهّدَ للنقلة النوعية التي قام بها من بعده "سيد درويش" بإدخال الآلات الموسيقية المختلفة ليبدو العرض المسرحي وكأنه عملًا أوبراليًا شبه مكتمل مقارنة بنظيره الأوربي .

أما دور توفيق الحكيم المحوري , يكمُن في تأصيله لفَن الأوبريت والمسرح العربي ؛ إذ نقل التراث الكلاسيكي المستمد من قَصص القرآن الكريم , و"ألف ليلة وليلة" إلي المسرح المصري , أسوة بالمسرح الحديث في أوربا الذي استقي مادته من "الكتاب المقدس" والتراث اليوناني القديم . فأضفي الحكيم بذلك الهوية المصرية والعربية علي المسرح , وفوق خشبة المسرح الوطني مثلت مسرحية " أهل الكهف " عام ١٩٣٥ ؛ باعتبارها أول مسرحية عربية ناضجة بالمعيار النقدي الحديث . كما أدخل - توفيق الحكيم - الكتابة المسرحية ضمن دائرة الأدب كالرواية والقصة والشعر, ما فتح الطريق لأزدهارها أمام العديد من الأدباء مثل : ألفريد فرج , يوسف إدريس , وسعد الدين وهبة , عبد الرحمن الشرقاوي .. وغيرهم فيما بعد . ما أنتج ذخيرة فنية جاهزة للإطلاق علي خشبة المسرح والأوبرا في أي وقت وبكل شكل ولون .

* خصوصية الأوبرا المصرية .

اعتقد القائمون علي الأوبرا الخديوية في القرن التاسع عشر أن ، بإمكانهم فرض الفن الأوروبي علي الذائقة المصرية ؛ لمجرد احترافيته وإبهاره , لكن التجربة الحضارية أثبتت أنه الفنون الحقيقيّة لا تفرض بطريق النقل المباشر من ثقافة إلي ثقافة أخري , إنما يجب أن تنطلق في الأساس من الهوية الحضارية للشعوب , وتسلك الطريق والمسار الطبيعي للتطور من خلال الهوية الإنسانية الخاصة بالأمة .

لم يألف المصريون الفن المسرحي والأوبرالي ويبرعوًا فيه إلا من خلال العروج به في مساراتهم الخاصة . وما يؤيد هذا المنطق ؛ تطابُق ظروف ميلاد الأوبريت المصري مع ظروف نشأة هذا الفن في موطنه أوربا ؛ الأوبرا الأوربية نشأت في الكنائس في إيطاليا في القرن الخامس عشر, فيما عرف وقتها "المدائحيات" أو"الإنشاد الديني" ؛ عبارة عن مقطوعات يقوم بتلاوتها رجال الدين بشكل موسيقي ، وانتقلت منهم إلي المغنيين الشعبيين وأُضفي عليها الطابع الغنائي ، ثم اكتست بالفخامة في الملابس والديكور من استضافة النبلاء الطليان لهذه الفرق في قصورهم , بل وخصصوا لها قاعات مجهزة . وهو ما نجده تقريبا ، نفس المسار الذي سلكه فن الأوبريت المصري الخالص , الفن الموسيقي في القرن التاسع عشر كان يسمي بالإنشاد الديني أيضًا , وكان لا يقترن اسم المطرب إلا بكنيّة الشيخ رجل الدين مثل : الشيخ المسلوب , والشيخ الشلشموني ، والشيخ عبده الحامولي ، وسلامة حجازي ، والشيخ سيد درويش ؛ ثم ما لبث وتطوَّر إلي الفن الغنائي الشعبي أيضًا وانتقل أخيرا إلي المسرح .

والمذهل أن الأوبرا المصرية فرضت نفسها في فترة قصيرة علي الفن المصري والعربي , وذاعت في العالم انطلاقًا من خصوصيتها الحضارية . فلو كان تم الاهتمام من البداية بالهوية الحضارية المصرية , بدلًا من الاستيراد الجاهز للمسرح الأوربي بشكل كامل , لحدثت طفرات أسرع في الفن والفكر المصري والعربي , وتم اختصار المسار الزمني الطويل للنهضة المسرحية .