الإثنين 20 مايو 2024

أديرة مصر القبطية عوالم الزهد والتقشف والتوحد

فن25-10-2020 | 21:01

حياة الرهبان داخل الأديرة تقوم على التقشف الشديد،   طعامهم القليل من الخبز وبعض الملح والماء،  يفطرون عند غروب الشمس ويمضون لياليهم ساهرين فى صلوات طويلة والتزام الصمت وتحاشى التحدث مع الآخرين، ، 

داخل كل دير بلا استثناء توجد كنيسة تحمل اسم الملاك ميخائيل،  يعتبره الرهبان الآباء حارسهم كما توجد كنيسة تحمل اسم السيدة العذراء، أقدمها وأجملها الكنيسة الموجودة داخل دير السريان بوادي النطرون، ، 


مغارة طبيعية مساحتها لا تزيد عن خمسة أمتار بارتفاع 300م أعلى الجبل اعتزل فيها الأنبا أنطونيوس ومن حوله تزايد النساك ليصبح أول وأكبر دير يجتمع خلف أسواره الرهبان في تاريخ المسيحية، ، 


تحتوى الأديرة على مكتبة زاخرة بالمخطوطات والكتب التاريخية واللاهوتية والطقسية،  وتعتبر مكتبة دير البراموس من أقدم مكتبات الأديرة حيث تضم حوإلى 472 مخطوطاً و289  مطبوعاً أغلبها دينى تم نسخه من عهد الأنبا كيرلس الخامس، ، 


دير أبو مقار،  أغنى أديرة وادى النطرون، يحتضن رفات عشرة من الآباء البطاركة،  ورفات القديسة هيلاريا ابنة الملك زينون التى تنكرت فى زى الرجال وترهبنت بالدير ودفنت فى أرضية قصره القديم، و أجساد التسعة والأربعين شيخاً الشهداء فى مذبحة البربر، ، 



سنوات طويلة انقضت في التنقل بين أديرة مصر وكنائسها أملا في تلمس ملامح حياة الزهد والتقشف التي آثرها رهبان مصر الأوائل للفرار بدينهم الوليد،  لم يكن الوصول إلى أي منها باليسير،  كانت دوما تحاصرها الصحاري والجبال .  طريق الوصول قد يكون غير ممهد أو واضح المعالم،  لكن الطريق إلى الهداية والتوحد ظل بالنسبة لهم واضح المعالم لا يحتاج إلى دليل.  ولأنها صناعة مصرية أصيلة،  من قبلها لم يكن العالم يعرف شيئا عن الرهبنة وأصولها وطريقتها المثلى.  لذا كانت الرحلة داخل عالم الأديرة الرهبانية كأشهر المعالم الدينية المسيحية فى مصر بمثابة اكتشاف حقيقة الدين المسيحي بمذاقه المصري الخاص.  حيث أهدى رهبان مصر الأوائل المتوحدون الديانة المسيحية أسس الرهبنة وعلموها للعالم أجمع. 


البداية كانت في 24 بشنس أي الأول من شهر يونيو منذ أكثر من ألفين وعشرين عاما، عندما أتى السيد المسيح إلى مصر طفلا تحمله أمه السيدة العذراء بين يديها تاركين "بيت لحم" بفلسطين بحثا عن الآمن،  أحداث تلك الزيارة احتفظ بها المصريون في قلوبهم وعبروا عنها بفنونهم الشفهية والمكتوبة والمرسومة أيضا،  وظلت الأيقونة الملونة التي تجسد السيدة العذراء حاملة طفلها المعجزة السيدة المسيح وهي تسير وسط البراري فوق ظهر حمار وبجوارهما السيد يوسف النجار البار لهما،  هي رمزا مقدسا نراه داخل كل كنيسة أو دير أو حتى بيت مسيحي في مصر.  والتي سار على خطاها المصريون واعتنقوا ديانتهم الوافدة.  وبسببها قال الرب "مبارك شعبي مصر".  وتنتشر المسيحية في مصر على يد طريق القديس "مار مرقس" عام 68 ميلادية. 


ومن بعدها بدأت رحلة الآباء الأوائل داخل عوالم الزهد والتقشف،  بشر اختاروا الطريق الصعب لبلوغ النقاء ومناجاة الرب،  ساروا على خطى المسيح متوحدين،  هجروا ملذات الحياة واكتفوا بحياة الرهبنة والتوحد أملا في سبيل أعظم،  يخلو من الطمع والجشع وخطايا البشر السبع،  وبالرغم من بعدهم عن العمران واختيارهم أراض بكر في قلوب الصحراء أو فوق قمة التلال.  تفاصيل حياتهم بادية على جدران الأديرة الأولى التي تخص آباء الصحراء أمثال الأنبا "بولا" و الأنبا "أنطونيوس" أبو الرهبان والأنبا "باخوم" مؤسس نظام الرهبنة،  حيث تتزين بأيقونات تحكي تفاصيل رحلة عذاب القديسين أمثال القديس مار جرجس والقديس سان مارك الذي فقد حياته نتيجة الاضطهاد.  ويشرح كتاب الدكتور رأفت عبدالحميد "الفكر المصرى فى العصر المسيحى" أن الاضطهاد الذى مارسه أباطرة الرومان الوثنيون ضد الأقباط كان عاملاً رئيسياً فى انتشار الرهبانية واللجوء إلى الصحراء،  وصلت ذروتها أثناء عصر الإمبراطور"دقلديانوس"  الذى اشتهر عصره بعصر الشهداء.  والذى اتخذت الكنيسة تقويمها القبطى من بدايته تخليداً لذكرى شهداء التعذيب والاضطهاد.  وعلى يد القديس أنطونيوس الذى يعتبر الرائد الأول للرهبانية ومن قبله القديس بولا،  بدأت الرهبنة بنظام العزلة المطلقة داخل الصحراء.  كما شارك "باخوميسيوس" أحد الجنود المصريين بعد ترك الجندية والاعتزال مع رفاقه فى الصحراء فى وضع نظم الحياة النسكية الجماعية مستغلاً خبرته العسكرية من مصر انتشرت حياة التنسك إلى العالم،  كما أوضح كتاب "من صحراء العرب والأديرة الشرقية" للمؤلفين لبيب حبشى وزكى تاوضروس. 


وهناك وسط الصحراء الشرقية يتجلى الشعور بالتوحد،  حيث يطل دير الأنبا أنطونيوس مؤسس الرهبنة،  يرحل إليه المحبين من كل مكان خاصة في ذكرى مولده،  كعادة المصريين،  ويحرص أبناؤه وتلاميذه على الاحتفال به  في 22 طوبة من كل عام.  هو  الأقدم،  يرجع لعصر المسيحية الأولى،  لبدايات القرن الرابع الميلادي.  يُفصل كيف عاش الرهبان الأوائل تلاميذ الأنبا المعلم.  كل البقايا المقدسة التي تركها الأوائل،  لا تزال محفوظة تحت الأرض بين أركان الدير القديم.  تاريخ طويل من الحكايات والأساطير التي تصل إلى حد النبوءات،  عمرها يفوق 1900عام.  يستشعرها الزائرون الذين حضروا لعلهم يلحقون بعضا من بركات صلوات الرهبان المبكرة،  ليعيشوا معهم يوما مسيحيا أصيلا،  تُسيره تعاليم الأنبا أنطونيوس.  يقضون يومهم وسط الدروب الضيقة الفاصلة بين القلالي القديمة التي يرجع تاريخ أحدثها إلى 500 عام ومباني الدير العتيق. يحاولون الصعود إلى مغارته الغائرة في قلب الجبل، مغارة طبيعية مساحتها لا تزيد عن خمسة أمتار بارتفاع 300 م أعلى الجبل كانت مقر الأنبا أنطونيوس يزاول فيها حياته النسكية.  وتتوسط  سلسلة جبال يطلقون عليها "القلالة " نسبة لانتشار القلالي التي يزهد فيها النساك،  والتي ظلت تتوالد بتزايد النساك و التلاميذ الذين تحولوا علي يده إلى رهبان،  ليكبر معهم الدير و يصبح أول وأكبر دير يجتمع خلف أسواره الرهبان في تاريخ المسيحية.  حيث رحل الشاب بعيدا قريته " قمن العروس" التابعة لمحافظة بني سويف.  سار في رحلة من النيل إلى الجبل ثلاثة أيام ليستقر عند نبع ماء و مجموعة نخيل. ليضع أول نظام للرهبنة في العالم و يصبح  أول من لبس ملابس الرهبنة " الإسكيم "و أول من سمي باسم الراهب من قبله كان النساك و الزهاد،  لذا يطلق عليه أب جميع الرهبان،  و مؤسس الرهبنة. 


وعلى مسافة لا تزيد عن 25 كم يرقد دير الأنبا بولا أبو السياح المتوحدين، يعج المكان بالبشر الطامحين في الارتقاء في ذكرى وفاته التي تحل في الثاني من أمشير. الكل يأتيه بحثا عن الاستغناء التي فضلها صاحب الدير، الذي كان أحد أغنياء الإسكندرية لكن خلافه على الميراث مع أخيه دفعه إلى مناجاة ربه : " دلني كيف أعيش معك يا الله . . "، فظهر له ملاك وأخذه للبرية الشرقية.  وهناك حفر مغارته وعاش على نخلة وعين ماء غراب يأتيه كل صباح بكسرة خبز، هكذا عاش 90 عاما دون أن يكلم إنسيا.  وهناك وسط الدير الذي اختلطت مبانيه بلون الصحراء لا يقطعها سوى لون النخيل ترى الرهبان يتقابلون سويا، وعندما تتأملهم من بعيد، تراهم يتصافحون ويقبلون أيدي بعضهم البعض، يتهامسون أو يجلسون سويا عند أحد الأركان يتسامرون دون أن يعلم أحد في أي المواضيع يتناقشون، لقاء لا يستمر طويلا، فالرهبان يعتكفون كل داخل قلايته لا يخرج منها لفترات قد تستمر ثلاثة أشهر متواصلة،  يأخذ طعامه من خلال فتحات صغيرة تجاور باب، لا يدخل عليه أحد أو يزوره، يسيرون على نهج من التدريبات الروحية،  تنتقل من الأب الروحي "أب الاعتراف" إلى الراهب الأصغر سنا،  إيمانا بأن الروح والجسد يعملان بشكل متناقض،  لذا وجب إنهاك الجسد حتى تتحرر الروح و تسمو. يجتمعون خلال الصلوات الجماعية المبكرة فجرا و المتأخرة ليلا . 


 ومن جبال البحر الأحمر إلى  برية "شيهات" أو كما كان يطلق على الوادى قديم.  الصحراء التى تحاكى عنها الرحالة.  لم يترك الزمن أى لمسات على رمالها أو على أسوار أديرتها الراقدة فوق التلال. وبالرغم من مرور أكثر من 17 قرناً من الزمان على حياة التنسك داخلها،  وكأنها لم تتغير منذ فجر الرهبانية. ففي قلب منخفض القطارة عند وادى النطرون الحياة تسير الهوينة، بوركت أرضه بمرور العائلة المقدسة خلال رحلة هروبها من بطش الرومان. وشهدت ترحيب الأقباط المصريين بالفتح الإسلامى وخروجهم مرحبين بعمرو بن العاص أثناء اتجاهه من الفسطاط إلى الإسكندرية مارا بالوادي. وهناك على بعد حوالي 125كم من القاهرة تطل تلك المدينة الصغيرة عند مدخل مركز وادى النطرون التابع لمحافظة البحيرة،  وبطريق طوله حوإلى 15 كم  بدت الصحراء بنقائها  لتملأ القلب بالسكينة، هناك تطالعنا أديرة وادى النطرون  وكأنها تحكي قصص الجنيات والأساطيرعن الكنوز المخبأة والمدفونة أسفل كل دير من الذهب والفضة. لكن الحقيقة تجلت بعد زيارة الأديرة، الكنز الحقيقى يكمن فى الأيقونات التى جسدت اللحظات البراقة فى تاريخ المسيحية المصرية،  وفى الكتب والمخطوطات داخل مكتبة كل دير، وأسوار الأديرة وحوائطها الشامخة المصطبغة بلون الصحراء والتي يحكى كل حجر منها قصة بطولة شهيد، الكنز ليس مدفوناً تحت رمالها بل يكمن فى حفاظها على تقاليد الرهبانية فى مصر والعالم أجمع. 


ويعتبر الراهب" آمون" مؤسس أديرة جبل  "نيتريا" أول مكان قصده النساك فى منطقة وادى النطرون، ويذكر "بلاديوس" الأسقف اليونانى الذى تنسك فى مصر وجاءها عام 399م فى كتابه "بستان الرهبان" أنه يوجد حوإلى 50 ديراً يجتمع فيها ما يقرب من 5 آلاف راهب يعيشون فرادى أو مقسمين إلى شراذم تتألف من راهبين أو ثلاثة بخلاف حوإلى 600 راهب يعيشون فرادى فى الصحراء.  ويصف لنا كتاب  "تاريخ الرهبنة والديرية" الحياة داخل الأديرة التي تقوم  على التقشف الشديد،  طعامهم القليل من الخبز وبعض الملح والماء، يفطرون عند غروب الشمس ويمضون لياليهم ساهرين فى صلوات طويلة والتزام الصمت وتحاشى التحدث مع الآخرين. حيث يبلغ عدد الصلوات الرهبانية سبع، ثلاث منها أثناء النهار، وأربع أخرى خلال فترات الليل. ويعتبر عصر القديس الأنبا مكاريوس الكبير مؤسس حياة الرهبانية فى برية  "شيهات" ومنشىء دير "أبومقار" هو العصر الذهبى للوادى.  وانطلاقاً من مقولة بولس الرسول " أن من لا يعمل لا يأكل".  فاجتهد الرهبان داخل الأديرة بالعمل اليدوى كوسيلة لكسب العيش مثل صناعة السلال وبيعها وضفر السعف والليف لعمل الحبال،  واستغل بعضهم فى غزل ونسج الكتان اللازم لصنع ملابسهم، علاوة على العمل فى الزراعة والتنظيف وتقديم الطعام. 


وفي طريق الصعود باتجاه الأديرة الرهبانية فى قلب الصحراء، دير الأنبا بيشوى، السريان،  البراموس أبومقار،  معالمها وطرزها المعمارية والإنشائية قريبة الشبه ببعضها البعض إلى حد ما، كل دير يحتوى على عدد من القلإلى التى يقيم بها الرهبان يمارسون فيها عزلتهم وحياتهم الخاصة وتتكون من غرفة أو غرفتين، إحداهما لاستقبال الزوار والأخرى للراهب لا يدخلها أحد، بخلاف القلإلى المحفورة فى الصخر أو فى قلب الصحراء المجاورة للدير.  ويحتضن كل دير عدد من الكنائس يصل عددها إلى أكثر من سبع كنائس كما هو الحال فى دير البراموس،  وتحمل طرزاً معمارية متقاربة معظمها يسبق تاريخ إنشائها تاريخ إنشاء الدير والحصن معا. حيث أن بداية حركة الرهبانية قامت باعتزل النساك داخل صوامعهم وقلاليهم فرادى،  لا يخرجون منها إلا يومى السبت والأحد لإقامة الصلاة الجماعية داخل الكنيسة.  ومع تزايد هجمات قطاع الطرق التف حول الكنيسة السور الضخم وبنى داخله الحصن المنيع. وداخل كل دير بلا استثناء توجد كنيسة تحمل اسم الملاك ميخائيل،  حيث يعتبره الآباء حارسهم كما توجد كنيسة تحمل اسم السيدة العذراء. أقدمها وأجملها الكنيسة الموجودة داخل دير السريان.


  وتشترك الأديرة بوجود الأبراج أو ما يطلق عليها المنارة أو أبراج الجرس يعلوها الصليب منفصلة عن البناء الرئيسي،  وفى الأصل تحمل النور ليرشد السائرين فى الظلام. وهو تعبير سرى عن وضع الكنيسة فى العالم، كما يرى الأب متى المسكين فى كتابه "الرهبنة القبطية فى عصر الأنبا مقار"، وبأسوارها العالية تميل الأديرة فى شكلها إلى شكل الحصون أو القلاع حيث يصل ارتفاع أسوارها إلى 13 متراً ويصل عرضها إلى 3. 5 متر.


 أما المداخل فهى عبارة عن ارتداد فى حائط السور مسافة متر واحد ومن داخل الارتداد توجد فتحة سرية تغلق بباب من كتل الخشب المغطاة بشرائط حديدية، وتوجد داخل السور فتحته "المطعمة"فوق المدخل، وكانت تستعمل قديماً لإدخال الرهبان عقب سد باب المدخل فى الخارج بالحجارة، وظلت تستعمل حتى وقت قريب لاستطلاع الزوار أو من أجل انزال الطعام والخبز للذين يقصدون الدير طلباً للمئونة.  ويحتوى كل دير على قنطرة خشبية قديمة متحركة تشبه الجسر الخشبي،  ويرجع تاريخها إلى نشأة الحصن داخل الدير، وظيفتها فصل مبنى الحصن عن البوابة والأسوار الخارجية فى حالة الهجوم على الدير.  وملحق بكل دير ما يحتاج إليه الرهبان لتسيير حياتهم اليومية دون الحاجة للعالم الخارجى مثل معصرة الحبوب والزيتون وآبار المياه الجوفية لرى الزرع وخزانات المياه،  والمخبز لتجهيز الخبز للرهبان.  كما تحتوى الأديرة على مكتبة زاخرة بالمخطوطات والكتب التاريخية واللاهوتية والطقسية.  وتعتبر مكتبة دير البراموس من أقدم مكتبات الأديرة حيث تضم حوإلى 472 مخطوطاً و289 مطبوعاً أغلبها دينى تم نسخه من عهد الأنبا كيرلس الخامس. 


هناك، نرى دير الأنبا بيشوي أشهر أديرة الوادى و يرجع تاريخ إنشائه إلى القرن الرابع الميلادى ومنشىء الدير هو الأنبا بيشوى تلميذ القديس مكاريوس أحد زعماء النسك فى الوادى،  ومن تلاميذه الراهب "بأفرايم" الناسك السورى الذى غرس عكازه بجوار قلاية الأنبا بيشوى، وبعد فترة نمت وأورقت وأصبحت شجرة للتمرهندى. وداخل أسوار الدير تجد أشجار الكروم والنخيل والرمان والزيتون والنبق وتزرع الخضراوات. كما أن الدير يضم "الأنبل" وهو منبر أثرى يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر،  ويضم بئر الشهداء حيث غسل البربر سيوفهم بمياهه بعد قيامهم بغارتهم الشهيرة على دير أبومقار وارتكابهم مذبحة الـ49 شهيداً. 


ومن دير الأنبا بيشوى يأخذنا الطريق صعودا باتجهنا دير السيدة العذراء المشهور بالسريان،  الذي بدى فوق هضبة صغيرة يحيط بها سهول خضراء وأشجار النخيل والزيتون كقلعة صفراء يتخيل الزائر أنها مشيدة من الرمال.


 حوائطها انسيابية فى مواجهة أفق الصحراء جعلت منه  أجمل أديرة الوادي، وإن كان الأجمل هو ما يحويه من زخارف جصية نادرة داخل كنيسة العذراء أهم وأقدم الآثار الباقية فى الدير، إلى جانب الأحجبة الخشبية ذات الحشوات المطعمة والأبواب ذات الحشوات المنقوشة برسوم بارزة دقيقة والمصنوعة من خشب الصنوبر، مثل "باب الرموز" الذى يرجع تاريخ إنشائه إلى عام 914م ويعبر عن العلاقة بين كنيستى الإسكندرية والإنطاكية. ويشرح بأسلوب رمزى المراحل التى مرت بها الكنيسة منذ بداية المسيحية وحتى نهاية العالم. كما تتزين قباب الكنيسة بلوحات جصية "فريسكا" بألوان زاهية تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي. حيث قامت بعثة معهد الآثار الفرنسى بالاشتراك مع المجلس الأعلى للآثار عام 1991 باكتشاف لوحة فريسكا أسفل إحدى لوحات قباب الكنيسة واضحة المعالم. ويؤكد الخبراء انها تحمل أجمل منظر للسيدة العذراء ومعها الملاك غبريال وأشعياء ومويس وحزقيال ودانيال الأنبياء لا مثيل لها فى العالم. وتجسد ملابس وتسريحات الشعر منذ ظهور السيد المسيح مروراً بعصور متعاقبة. ومن المرجح أن يعود تاريخها إلى أبعد من القرن السابع الميلادي.  كما اكتشفت البعثة الهولندية أن الرسومات الحائطية بالكنيسة ما هى إلا عبارة عن طبقات محارة فوق بعضها قد يصل عددها إلى خمس طبقات متراصة تحمل كل طبقة رسومات يرجع تاريخها إلى فترات متوالية تبدأ بالرسومات القبطية فى القرن السابع وتنتهى برسومات سريانية فى القرن الثالث عشر. 


وهناك وسط برية "شيهات" نرى من بعيد دير الروم نسبة للأميرين الأخوين مكسيموس ودومايوس ابنى ملك الروم "لانديوس"  اللذين حضرا من سوريا إلى الأنبا مكاريوس الكبير بهدف الترهبن عنده. يطلقوا عليه اسم "البراموس"، وكعادة الأديرة القبطية يضم حوإلى سبع كنائس أقدمها كنيسة السيدة العذراء التى يتوسطها حوض "اللقان"  كأغلب الكنائس هناك،  حيث يملأ بالماء يوم خميس العهد من كل عام ويغسل فيه الكاهن أرجل الزوار اقتداء بما فعله السيد المسيح مع تلاميذه.  كما توجد فى الدير كنائس تحمل اسم مارجرجس والأمير تادرس ويوحنا المعمدان. 


وعند ناحية جنوب شرق دير الأنبا بيشوى والسريان وعلى مساحة فدانين و 22 قيراطاً تقريباً، يطل دير أبو مقار،  أغنى أديرة وادى النطرون، الذي يحتوى على أروع الآثار المسيحية، و أهمها التابوت الموجود فى كنيسة أبومقار ويحتوى على رفات عشرة من الآباء البطاركة،  وكما يوجد أجساد التسعة والأربعين شيخاً الشهداء فى مذبحة البربر مدفونة بكنيسة الشويخ والتابوت الرخامى الذى يحمل رفات القديسة هيلاريا ابنة الملك زينون التى تنكرت فى زى الرجال وترهبنت بالدير ودفنت فى أرضية قصره القديم. وإن كانت أهمية الدير ترجع إلى دوره فى إتمام عملية الرسامة والتقديس. فمن العادات المتبعة عند انتخاب البطريرك للكرسى المرقسي أن يتوجه مباشرة بعد تكريسه فى الإسكندرية إلى دير الأنبا مقار من أجل إتمام رسامته نظراً لأهميته التاريخية كما جاء فى كتاب الدكتور رءوف حبيب السابق ذكره. 


ويحتوى الدير على كنيسة الأنبا مكاريوس، وتضم خمسة هياكل أهمها هيكل "بنيامين"، وتعتبر قبته من أبدع وأتقن قباب أديرة  وادى النطرون.  واشتهر الدير منذ القدم بما كان يحويه من طائفة من النساخ المهرة فى نسخ الخط القبطى والعربى ويتفنون فى رسم الخروف على أشكال طيور جميلة وفى صنع ألوان الحبر البراقة. وبالرغم من جمال بناء الأديرة القبطية وروعة تفاصيل أسقف كنائسها وقبابها والشعور المتناهي بالبراح والارتياح داخلها، إلا إنها جسدت كلمات السيد المسيح : " إن أردت أن تكون كاملاً. .فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء. .  فيكون لك كنز فى السماء. . . وتعال واتبعنى". .