إنها مدينة "أنصنا" أو "أنتينوبوليس"، التي أسسها الإمبراطور الروماني "هادريان" عام 130م لإحياء ذكرى محبوبه الغلام " أنتينوس"، الذي مات غرقا في النيل في العام نفسه. وكما جرى العرف بمصر القديمة حيث يتم تأليه من مات غرقاً بالنيل، تم دمج "أنتينوس" مع معبود الموتى المصري "أوزوريس"، ومن ثم تم بناء هذه المدينة لتكون مركزا لعبادة هذا المعبود الجديد.
لكن الأهمية الحقيقية لمدينة "أنصنا" أنها تعد نقطة البداية للتقويم القبطي المصري، وتاريخ الكنيسة المصرية وتاريخ شهدائها.. أو قل بالحق عودة التقويم المصري القديم، الذي يرتبط بالزراعة والنيل.. ولكن كيف ومتى حدث ذلك؟ ولماذا بدأ أقباط مصر أو بالأحرى الكنيسة القبطية كتابة تاريخها من هنا، في "أنصنا"؟.
في أيام الإمبراطور الروماني "ديقلديانوس" جرت اضطهادات قاسية على الديانة المسيحية عامة وخاصة الأقباط، فأصدر الإمبراطور بالاتفاق مع معاونيه فى 23 فبراير سنة 303م منشورا يقضى بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وطرد جميع ذوى المناصب الرفيعة من المسيحيين وحرمانهم من الحقوق المدنية، وحرمان العبيد من الحرية إن أصروا على الاعتراف بالمسيحية. أيضا أصدر "دقلديانوس" منشورين متلاحقين فى مارس سنة 303م يقضى أولهما بسجن جميع رؤساء الكنائس، ويقضى ثانيهما بتعذيبهم، بقصد قسرهم على جحد الإيمان. فاستشهد من الأقباط مئات الآلاف جراء الاضطهادات. ورغم أن دقلديانوس لم يبدأ اضطهاده للمسيحيين إلا سنة 303م إلا أنه لفظاعة هذا الاضطهاد اتخذت الكنيسة القبطية بداية حكم هذا الطاغية وهى سنة 284م- بداية لتقويمها المعروف باسم تاريخ الشهداء. وهو ذاته "تقويم تحوت"، التقويم الشمسي للمصري القديم، الذي كان مرتبطا بالزراعة والنيل والفيضان.
لكن أبشع مذابح الأقباط في كل الإمبراطورية، كانت على يد الوالي الدموي "أريانوس" حاكم "مدينة أنصنا"، الذي قدرت أعداد شهداء الأقباط على يديه أكثر من 600 ألف شهيد، حتى امتلأت شوارع أنصنا بالدماء، وكانت رؤوس الأقباط تملأ تلة كبيرة، في موقع إعدامهم، حتى أطلق عليها "جبل الشهداء"، ويتبرك أهالي القرى المجاورة لها بهذا الجبل..كما يحدث مع "بئر قديمة" شربت منها "العائلة المقدسة" وجاءت سحابة وظللتهم فوق البئر، فصار اسمها "بئر السحابة"، تقع جنوب البلدة القديمة..ويقام احتفال أسطوري كل عام يحضره "أسقف الإيبراشية" على ضفاف النيل ويقومون بتجسيد زيارة "العائلة المقدسة" للمنطقة ووصولها بقارب في النيل وصعودها ووصولها لمقر البئر.. لكن الاحتفال الأضخم يكون في شهر نوفمبر من كل عام وهو عيد استشهاد القديس مار جرجس السكندري. ويعتقد الأهالي أن الحجر الضخم الذي يقع في صحراء المنطقة هو الحجر الذي قطع عليه رأس الشهيد.. لكن المفارقة المدهشة أن يذكُر التاريخ أنَّ ذاك الوالي الذي سجل اسمه كسفاح دموي، قد تنصَّر إثر معجزة باهرة حدثت له آمن على أثرها بالمسيح، وأرسل إلى الإمبراطور دقلديانوس رسالة يُجاهِر فيها بإيمانه، ويندم على كل الاضطهاد الذي أوقعه على المسيحيين، فأمر الإمبراطور بقتله.. وسجل اسمه ثانية كشهيد في "التاريخ القبطي".ومن أشهر قديسي أنصنا الشهيد أريانوس حاكم مدينة أنتينوبوليس,والشهيد قلتة الطبيب, والشهيد يسطس ابن الملك نوماريوس, والشهيد مارجرجس السكندري, والشهيد بقطر, كذلك الشهيد أبادير وأخته إيريني, والشهيد تيموثاوس وعروسه مورا, أما أهم أديرتها التي كانت عامرة بالرهبان فهي: دير الديك ويقع شمال أنتنيوبوليس وتظهر منه الآن أبنية متهدمة محاطة بسور من الطوب الأحمر, دير القديس يحنس القصير, دير سنباط ويقع في الجنوب الشرقي من دير الديك على بعد 2كم من نهر النيل, دير الهواء ويقع جنوب دير النضارة على بعد نصف كيلومتر وتجاوره جيانة أثرية, يوجد أيضا دير أنطونيوس, دير ميتاس, دير أبو شنودة, دير الخادم, دير النضارة, دير أبو قلتة, دير أنبا يوسيب, دير أبو تييه, دير القلنديمون, وقد ضم كل دير العديد من الكنائس التي أيضا ذكرها "المقريزي" في كتابه "خطط المقريزي، إنها هي أرض سحرة فرعون، الذين جاء بهم فرعون لمواجهة نبى الله موسى، الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم "وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وأُلقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون" سورة الأعراف.. كما أنها "مارية القبطية" أو مارية بنت شمعون زوجة الرسول الأخيرة وأم ولده "إبراهيم"، الذي توفي طفلا التي أهداها له "المقوقس" ملك الروم في مصر.
وعن الكنائس المكتشفة في أنصنا توجد كنيسة مارجرجس, كنيسة القديس تادرس المشرقي, كنيسة القديس منسي, كنيسة الماء باسم الواحد والأربعين شهيدا, كنيسة قلتة الطبيب, كنيسة الأسقف أريون, كنيسة أنبا بيفا, وقد كرسها الأنبا بقطر في24بؤونة, وكنيسة السيدة العذراء واكتشتفها البعثة الإيطالية أثناء أعمال الحفر والتنقيب الأثري.
يوجد أيضا بالمدينة العريقة مجموعة من أشهر كنائس المحافظة، ومنها.. كنيسة "النيل" والتى تضم الحجر الذى تم تعذيب القديس العظيم مارجرجس به ويقيم الأقباط كل عام احتفالا بتلك المنطقة لما لها من مكانة خاصة فى نفوسهم و بعض الكنائس الصغيرة الأخرى، وكانت المدينة قد ازدهرت بعد عصر هادريان حتى أصبح إقليم انتنيوى من أكبر أقاليم مصر، وضم أغلب مناطق الصعيد من جنوب الفيوم حتى سوهاج، وعاصمته انتينوبوليس - الشيخ عبادة حاليا – واستمرت أهمية المكان خلال العصر البيزنطى، ثم مع انتشار المسيحية، وأصبحت المدينة مقرا لإبارشية كبيرة، هي إبراشية "ملوي وأنصنا والإشمونيين"، وظلت أهميتها قائمة خلال العصور الإسلامية وتحول اسمها إلى مدينة أنصنا.
وفى قرية أبوحنس، أيضا بجوار مدينة أنصنا توجد أثرية عريقة هي كنيسة دير أبوحنس المعروفة بكنيسة الأنبا يوحنس القصير الأثرية، هي كنيسة أثرية تقع شمال دير البرشا، بنحو ٥ كم يرجع تاريخها إلى القرن السادس الميلادي، توجد بها قباب وتوجد بها زخارف تاريخية رائعة ويوجد بها لوح رخامي محفور عليه نص قبطي ويوجد بها بعض الأيقونات والمخططات الأثرية والقديس الأنبا يوحنس القصير.
وظلت أنتينوبوليس مزدهرة حتى بعد دخول المسيحية وخلال القرون الوسطى، حيث تحدث الرحالة القدامى عن معالم المدينة بما فيها من عشرات الأديرة والكنائس ومعالم رومانية تعود إلى فترة تأسيس المدينة، حتى أن بدأ عدد السكان في الإنخفاض في وقت ما خلال القرون الوسطى إلى أن أصبحت قرية صغيرة. ولقد وثق المسافرون القدامى الشواهد الأثرية الظاهرة فوق الأرض خلال زياراتهم، كما قامت الحملة الفرنسية بتوثيق آثار المدينة ونشرها في مجلدات وصف مصر.