الأربعاء 19 يونيو 2024

جهود رواد الأدب العربي الحديث في نشاط الترجمة في حركة النهضة

فن31-10-2020 | 18:17

إن النهضة هي: الحركة الاجتماعية التنويرية الواسعة المتجهة إلى تقرير الأمة العربية والتنظيم الدولي في العالم العربي خلال القرن التاسع عشر كله وبداية  القرن العشرين، وكان يصحب هذه الحركة "التجديد والنهضة" فى كل مجالات الثقافة وخاصة الأدب؛ ولنشاط الترجمة دور مهم في حركة النهضة الثقافية، حيث من بدايتها ترجم كثيرًا من الآداب العلمية التكنيكية والأدب الفني المبدع.


يمكن الاعتبار أن في نشاط الترجمة اشترك رواد الأدب العربي الحديث وخاصة أدباء مصر، سوريا، لبنان، والبلدان العربية الأخرى، مشاركة واسعة، كذلك هم بالأساس اشتغلوا بترجمة الأدب الغربي، وعلموا القراء العرب الحياة الأوروبية وثقافاتها وآدابها، وإنجازاتها العلمية، وإن كان في العصور الوسطى استفاد الأدب الغربي من تجربة الأدب العربي، حتى في القرن الثامن عشر استعان أدباء أوروبا الرومانسيون بتجارب الأدب العربي، ومنذ عهد النهضة وعى الأدباء العرب وعيا متلاحقا بالأدب الأوروبي حتى الوقت الحاضر.


وضع اللبنة الأولى للنشاط الترجمي رفاعة الطهطاوي، رائد الأدب العربي الحديث ومؤلف الكتاب المشهور "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، أو  "وصف باريس"، وكان الشيخ رفاعة الطهطاوي واحدا من أثقف الأشخاص، حيث كان عليما وخبيرا في الأدب العربي القديم والعلوم العربية، ومع ذلك كان يعيش حياته متأسيا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "اطلبوا العلم ولو في الصين" لأنه كان على يقين أن العرب لابد وأن يستفيدوا من إنجازات الغرب العلمية للوصول إلى التقدم.


اطلع الطهطاوي على الأدب الفرنسي التنويري، خاصة أعمال "فولتير، روسو، ديدرو"، وغيرهم من المفكرين الفرنسيين، وطور الطهطاوي النشاط الترجمي وأسس دار الألسن المشهورة، حيث تُرجمت الآداب العلمية الفنية والإبداعية، وخرج من هذه المدرسة "دار الألسن" المترجمون البارزون الذين قاموا بترجمة أكثر من 3000 مؤلف في المجالات المختلفة في الفنون والعلوم. 


إن لرفاعة الطهطاوي ومدرسته دورا مهما في تطور الثقافة العربية ونهضتها، وكان الطهطاوي نفسه يكتشف الكتب لترجمتها إلى اللغة العربية، وعلى سبيل المثال  في عام 1841م نُشر كتاب "تاريخ كارل الثاني عشر" لفولتير ترجمة محمد مصطفى وهو خريج "دار الألسن"، وفي عام 1843م، نُشر كتاب "تاريخ كارل الخامس" لروبوتسن، ترجمة خليفة بن محمود المصري، وفي عام 1850م نُشر كتاب "تاريخ بطرس العظيم" لفولتير، ترجمة أحمد بن عبيد الطهطاوي، وكل هذه الترجمات طُبعت بمطبعة بولاق.


وكتب المترجمون في ضوء هذه الترجمة بأسلوب السجع، وتم - أحيانا - إدخال اقتباس شعري في الترجمة، وكانت عادة للترجمة مقدمة وخاتمة للمترجم نفسه، كما كان هناك تغير كثير في عنوان الكتاب ليتوافق مع الذوق الأدبي عند العرب، على سبيل المثال عنوان "تاريخ بطرس العظيم"، أصبح بعد الترجمة  "الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر"، وبرغم هذه التغييرات إلا أن المترجم لم يغير مضمون الكتاب الأصلي، كما لم يتغير بناؤه وتنظيمه وترتيبه. وكان المترجم عبيد الطهطاوي متأثرا بأفكار فولتير، وكتب  "إن فولتير حرر شعوب أوروبا من قيد الجهل والضلال برغم أنه كان ضد التوجه الديني"، وبدأ بعد نشر هذه الكتب الاستيعاب السريع لأدب أوروبا وثقافتها وتاريخها.     

                                                       

وكان تلميذ الطهطاوي محمد عثمان جلال أول من ترجم بنجاح أمثالا للكاتب الفرنسي لفونتين، وأطلق عليه عنوان "عيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ"   حيث كانت هذه الترجمة قريبة لذوق القراء العرب، لأن للأدب العربي تجارب كثيرة في كتابة الأمثال منذ زمن قديم مثل "كليلة ودمنة".


وكان عثمان جلال أول المترجمين الماهرين المحترفين الذين كانوا يبحثون عن الوسائل المختلفة للخروج من صعوبة ترجمة الوقائع الغربية والمحيط المجهول حول المؤلفات والأشخاص المجهولين، وترجم " فن الشعر" لبوالو، ورواية "بال وبراجيا"  لبرنارد سن، وكان يميل إلى كتابات جان جاك روسو. 


ومع ذلك كانت تبدو هذه الترجمة "ترجمة بتصرف"، حيث أدخل المترجم فيها أشعار الشعراء العرب القديمة والأسماء العربية، ولكن حافظ على الكيفية الحماسية للكاتب الفرنسي ولم يحرف روح الكتابة للكاتب، أما في ترجمة كوميديا موليير "طرطوف"، استفاد جلال كثيرا من اللهجة العامية المصرية من محيط القومية المصرية والطبيعة المصرية التي تميل إلى المزاح والنكات، وأبقى في الترجمة على روح موليير في نضاله ضد الطغاة، في حبه للعدالة وحلمه في إسعاد الإنسان، وكان هذا قريبا إلى روح الفكر المتنور لدى الرواد العرب.


أما الكتابات والمؤلفات التراجيدية للمسرحيين الكلاسيكيين "جان راسين  وبيير كورنيل"، ترجمها عثمان جلال باللغة الأدبية نظرا لأن لغة التراجيديا تحتاج لأسلوب في منطقة الإبداع خاصة، وقد ترجم جلال ثلاثة مؤلفات لراسين وكورنيل.


واستمر نشاط الترجمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في عهد النهضة بشكل سريع على حساب ترجمة مؤلفات "ديوما  ووكتور  وجيو جو ووالترسكوت"، وغيرهم. 


ساعدت هذه التراجم على ظهور المفاهيم الفكرية الجديدة والتصورات الفنية الجديدة، كما ساعدت على كتابة الأعمال الأصلية أو الأعمال التقليدية أحيانا .


وانتشر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نشاط الترجمة في الشام   "سوريا ولبنان" على يد العائلتين المشهورتين في الأدب العربي "ناصف اليازجي وبطرس البستاني"، إذ يمكن القول إن ترجمة نجيب اليازجي لتراجيديا "روميو وجولييت" لشكسبير، من أفضل التراجم في تاريخ الأدب العربي الحديث، كما انتشرت بين الناس ترجمة رواية "طلسم" لوالتر سكوت  التي ترجمت عدة مرات من قبل المترجمين المختلفين، وكتب نجيب حداد تحت تأثير هذه الرواية في مضمونها وحوادثها الرواية التاريخية "صلاح الدين الأيوبي"، وكان نجيب حداد  يمتاز بسعة  الفكر والعلم بالأدب العالمي جيدا.


ومهد النشاط الترجمي على يد أديب إسحاق، وخليل اليازجي، ونجيب حداد وغيرهم في عهد النهضة، سبيلا لتطور الرواية التاريخية، وكان جرجي زيدان من أبرز الكتاب المشهورين في هذا النوع من الأدب، وكتب أكثر من 20 رواية تاريخية تُرجمت إلى كثير من لغات العالم.


والروائي الأخير فرح أنطون، الذي ترجم إلى العربية أعمال "رينان ، برندن دي سن بيير ، شتابريان"  وغيرهم من أدباء الغرب.


إن نشر " الإلياذة" الملحمة الإغريقية القديمة، أصبح حادثا أدبيا مهما في الحياة الثقافية عند العرب في بداية القرن العشرين، وحقق ترجمتها سليمان البستاني، وليست أهمية هذا العمل العظيم في أن كانت هذه الترجمة الأولى للملحمة القديمة إلى اللغة العربية فقط، بل أصبحت هذه الترجمة جزءا مهما من الثقافة العربية في عصر النهضة مع تفسيرها موسوعة تملك معرفة كثيرة في مجالات مختلفة، ولذلك حجم التفسير كان أكثر من حجم الترجمة.


لعبت ترجمة ملحمة "الإلياذة" دورا ملحوظا في المجتمع العربي، وتأثيرها كان تأثيرا مباشرا على الأدب العربي، حيث تكامل التعليم الكلاسيكي مع الأدب، ولاقى نشر هذه الملحمة  قبولا حماسيا في المجتمع العربي، واتسع تأثيرها في البلدان العربية.


فتح البستاني الطريق إلى منابع الثقافة الأوروبية، وما لبثت أن ظهرت نتيجتها  بنشر التراجيديات اليونانية القديمة من جانب الأديب الكبير طه حسين، رئيس قسم الآداب القديمة بجامعة القاهرة في ذلك الوقت، وترجم طه حسين تراجيديا "سوفكل وأوريبيد"، مع التحدث عن دور الحضارة القديمة في الثقافة  المعاصرة في الشرق والغرب على السواء.


وازدادت الترجمة في بداية القرن العشرين، وفي العصور الوسطى الباكرة  ترجم العرب من الأدب اليوناني الروماني القديم الآثار الفلسفية والعلمية، وفي هذا تعرف الأوروبيون على هذه الآثار من الترجمة العربية إلى اللاتينية.


وفي نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين، يظهر نشاط الترجمة للمستشرقين الغرب واضحا وجليا  في اتجاه ترجمة الآثار المشهورة من تراث الأدب العربي في العصور الوسطى، مثل "مقامات الحريري، كليلة ودمنة، ألف ليلة وليلة"، وغير ذلك، وفي الوقت نفسه ترجم العرب، مع الكلاسيكية، من الأدب العالمي القديم والمعاصر على السواء، ورددوا ترجمة العمل الواحد عدة مرات.


على كل حال  يمكن القول إن هناك حقيقة وهي فاعلية  نشاط الترجمة في عصر النهضة وأهميتها في الحياة الأدبية والاجتماعية .


وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان المثقفون العرب يهتمون جدا بالأدب الروسي، وكانوا يبحثون في أعمال آنتون جخوف عن أسرار المهارة الفنية والتحليل الدقيق للنفس الإنسانية الداخلية.


ونشرت في عام 1898م في صحف بيروت قصة "بنت القبطان" للكاتب الروسي العظيم ألكسندر بوشكين، وفي عام 1900، رواية "تاراس بولبا" وبعد ذلك ظهرت التراجم لرواية تولستوي  "حرب وسلام".


وفي عام 1907م ترجم رشيد حداد روايته "البعث"، وتبعتها بعد ذلك ترجمة أعمال "تولستوي ودوستويفسكي"، واختار المترجمون أعمال تولستوي ودوستويفسكي لمهارتهما الفنية ومضمونها الأخلاقي والفكر الحاد الذي رفعهما إلى درجة أعظم الكتاب العالميين.


إن كل هذه التراجم والتكييف الأدبي والتقليد الأدبي لها دور في حركة  النهضة عندما أصبحت جزءا من الأدب العربي الحديث في تيار الثقافة المتطورة بسرعة كبيرة، والترجمة أحيت الأنواع الفنية في الأدب، وشكلت الأذواق الجمالية الجديدة، وفي الوقت الحاضر تعاظم أيضا دور الترجمة التي تسمح لنا بالقول إنها تمثل محورا مهما في الحوار الثقافي بين شعوب العالم المختلفة.