الجمعة 28 يونيو 2024

من عصمة الدين إلى عصمة رجاله

فن31-10-2020 | 19:12

الدين مقدس، والإنسان في بداية تاريخه -وبصورة لا إرادية-سحب هذه القداسة وأَظَلَ بها الصالحين من رجال الدين والمتحدثين باسمه، كما فعل قوم نبي الله "نوح"-عليه السلام-بـ "ود" و "سواع" و "يغوث" و "يعوق" و "نسرا"، وقد كانوا أناسا صالحين، تطور الأمر معهم حتى تم تأليههم وعبادتهم.


ومع مرور الزمن، وعند لحظة فارقة في تاريخ البشرية، دفعت سلوكيات القطيع دعاة الدين إلى الاقتناع بأنهم هم أيضا يجب أن يكونوا مقدسين كالدين، سواءً بسواء، وهنا عمل الكثير منهم على ترسيخ فكرة العصمة لأنفسهم، ولم يجدوا سبيلا أيسر لذلك من محاولة إدخالها وإقرارها على أنها إحدى دعائم الإيمان الديني.


 واستطاع الإمبراطور الروماني "قسطنطينوس" بنفوذه وسلطانه أن يقنع المسيحيين بضرورة إقرار العصمة لأحكام المجامع المسكونية، وجاء من بعده البابا "بيوس التاسع" وتمكن من إقناع المسيحيين بعصمة البابا من كل خطأ أو زلل.


 وعلى الصعيد الإسلامي لم يسلم تاريخنا هو الآخر من ذلك، فقد تمكن الشيعة الإمامية في إقرار العصمة للأئمة وجعلها ركنا أصيلا من أركان المعتقد الشيعي، ولم يقف الأمر لديهم عند حد الأئمة فقط، بل امتد ليشمل بعض كبار رجالاتهم عن طريق حيلتهم المستحدثة والمعروفة بـ《ولاية الفقيه》.


أما في الجانب السني، فإن المصادر الأصلية ممثلة في القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية، قد اشتملت على موروث رائع وعظيم يرفض عصمة غير الأنبياء، ويثور على التبعية العمياء والتقليد المقيت.


حتى أن القرآن الكريم قد أنكر ذلك على الواقع اليهودي والمسيحي، يشير إلى ذلك قول الله -تعالى-في سورة التوبة:《اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم....》، واعتُرض على هذا الحكم بزعم أنهم ما عبدوهم، فأجاب النبي -صلى الله عليه وسلم بقوله:《إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم》.


وكان لهذا آثاره العظيمة في القرون الأولى؛فيحكى في الدلالة على ذلك أن الفاروق عمر بن الخطاب، وكان على رأس السلطة السياسية، خليفة للمسلمين، كما أنه في ذلك التوقيت-أيضا- كان أهم فرد في النظام الديني، فهو خليفة راشد أمر النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- المسلمين بالامتثال لأمره، وقد سبق وأن قال عنه إنه محدث وملهم، ولو كان هناك نبي بعده لكان عمر، وقد  أراد عمر-رضي الله عنه- أن يحدد صداق النساء، فراجعته إحداهن معترضة عليه بنصوص القرآن، فما كان منه إلا أن قال في تواضع: 《كل الناس أفقه من عمر》، ولم يجد غضاضة في صعود المنبر وإعلان رجوعه، فلم يدعِ لنفسه القداسة، أو لقوله العصمة، ولم يستبد برأيه، أو يستغل نفوذه السياسي، أو سلطانه الديني.


وكان لهذا أثره على كبار أئمة الإسلام في المراحل المتقدمة، يقول الإمام أحمد: 《لا تقلدني ولا تقلد مالكا وخذ من حيث أخذنا》، ويقول الشافعي: 《قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب》.


ورغم أن هذا كان على المستوى النظري، والمستوى العملي إلا أنه كان في مراحل متقدمة في التاريخ الإسلامي، ما لبثت أن انتكست الأمة الإسلامية عنها إلى التقليد والتبعية، يقول الباحث والمفكر المغربي الطيب بو عزة: 《بعد المائة الرابعة: اطمأن الناس إلى التقليد، ودب في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدا وأشد انتزاعا للأمانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، بأن يقولوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون》. ويتساءل الطيب بو عزة مستنكرا: 《من الذي جعل ذم التقليد يبقى مجرد خطاب بلا ماصدق في الواقع؟》.


فبعد المائةالرابعة، تسللت للواقع الإسلامي صور خافتة من العصمة والتقديس والكهانة، تتمثل في تلك العلاقة المغالية التي وجدت في الطريق الصوفي بين الشيخ العارف والمريد السالك، وكالتي وجدت عند الفرق بين الأتباع المتعصبين ورأس الفرقة أو إمامها، وكالتي وجدت عند الأتباع المتعصبين المذهبيين في المدارس الفقهية.


تلك العلاقة التي تضخم فيها -في كثير من الأحيان-القيمة المعرفية للشيخ أو الإمام، في مقابل تحجيم الملكات العقلية لدى الأتباع والسالكين، وقد تم تبرير وتسويغ هذه العلاقة، وتسويقها بعدة طرق: 


منها تلك المبالغات العجيبة للقصاصين وبعض كتاب التاريخ والتراجم في كلامهم عن ملكات وكرامات الشيوخ والأئمة.


 ومنها محاولة بعض الفقهاء تبرير التقليد وتسويغه من خلال مناقشاتهم لكثير من قضايا علوم الدينوالشريعة.

ومنها خلق أحكام مخصوصة منحها رجال الدين ودعاته لأنفسهم، فلحومهم وحدهم مسمومة، وعبادة الله في هتك أستار منتقصيهم-وحدهم-معلومة!


وساهم في ترويج فكرة العصمة والتقديس على العموم بالنسبة للواقع الإسلامي وغيره ذلك التوسع والتخصيص في الرسم الظاهر بثياب أوعمامة مخصوصة لا يرتديها إلا رجال الدين ودعاته! ومن العجيب أن الأنبياء، وهم في قمة المنظومة الدينية، كانت ثيابهم قبل بعثتهم، هي نفسها ثيابهم بعد بعثتهم، هي نفسها ثياب المشركين والمؤمنين من أقوامهم على السواء، وقد أثمرت دعوتهم وجهودهم الإصلاحية على نطاق واسع رغم ما تعرضوا له من اضطهاد ومقاومة، بينما لم يحقق الكهان القدر الضئيل من مثل هذه النجاح رغم ما تحقق لهم من نفوذ وسلطان عبر التاريخ.


كل ذلك وغيره دفع الكثير من رجال الدين ودعاته لأن ينسوا أنهم بشر مثل البشر، يأكلون طعامهم، ويمشون في أسواقهم، ولا يوحى إليهم!


وقد كان لهذا التوسع في شيوع فكرة العصمة للرموز، في مقابل نشر ثقافة التبعية والتقليد على الجماهير مردوده السلبي على التاريخ الديني، فانتشر التعصب والجمود والتقليد، حتى فقد الكثير الأمل في عالم متسامح تتجدد أفكاره بما يناسب زمانه.


وجاءت حركة الإصلاح الكنسي في أوروبا-كرد فعل-ثائرة على هذه الأفكار، مبشرة بحرية مفرطة تتملكها نزعة ذاتية فردية شديدة، فألغت عصمة البابا، وآمنت بحرية الأفراد في الإيمان وتفسير الكتاب المقدس، وغير ذلك من كل ما من شأنه أن يزيد حرية الفرد، ويحد من كهنوت رجال الدين.


وامتدت ظلال هذه الأفكار لتشكل عقول الفلاسفة المعاصرين، حتى أن الفيلسوف الألماني "فريدريش فيلهيلم نيتشه"يروج لذلك بعبارات أدبية بديعة يقول فيها: 《يا أصحاب ... هذه نصيحتي إليكم؛ ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي، بل اذهبوا إلى أبعد من هذا؛ اخجلوا من انتسابكم إليَّ فلقد أكون لكم خادعًا.... ما يعترف التلميذ اعترافًا تامًّا بفضل أستاذه إذا هو بقي أبدًا له تلميذًا. لماذا لا تريدون أن تحطموا تاجي؟ إنكم تحوطونني بالإجلال .... إن في رفع الأنصاب لخطرًا فاحترسوا من أن يسقط عليكم التمثال المنصوب فيقضي عليكم》.


في الحقيقة لقد كان لهذه المبالغات في العصمة والقداسة لرجال الدين ودعاته مردودها السلبي -حتى-على الحالة الإيمانية لدى الأفراد، فهي التي دفعت - بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى-فيلسوف شهير مثل برتراند راسل، ليتخلى عن معتقداته الإيمانية، وينحو منحا إلحاديا، ورغم ذلك فقد عبر عن اشتياقه لعصر ديني جديد، برجال دين آخرين، غير الرجال التقليديين، عبّر عن ذلك في قوله: "إذا أردنا أن يكون الدين نافعا، فإنه يجب أن يتولى القيام عليه رجال تكون لهم أعمال أخرى يتكسبون منها غير الوعظ، رجال يقومون بعملهم الديني بدافع الحماسة-وليس روتينية الحرفة والوظيفة- ولا ينتظر من هؤلاء الرجال أن يتخلقوا بأخلاق تقادم عليها العهد، ولم يعد أحد يعدها تناسب الحياة العامة... وهم لكونهم أحرارا لن يرتبطوا بالوصول إلى نتائج تقررت مقدما، بل سيكون في مقدورهم أن يفكروا في المشاكل الأخلاقية والدينية والاجتماعية تفكيرا طبيعيا غير مصطنع وبلا ميل... إن الناس لا يمكن أن يحيوا حياة دينية جديدة، أو أن يجدوا عونا روحيًا حقيقيا إلا إذا تحرروا من كابوس رجال الكهنوت".


كل ذلك يدفعنا إلى القول، إن فكرة العصمة لأشخاص معينين وتقديسهم، في مقابل نشر ثقافة التقليد والتبعية على الجماهير، صارت فكرة بالية لا تناسب الإنسان الحديث، فضلا عن أنها أساسا لا تتوافق مع ما جاء في الينابيع الصافية لديننا الإسلامي العظيم.


وإذا أردنا بداية عصر ديني جديد، فعلينا فهم طبيعة عصرنا الذي تتصارع فيه المعلومات والأفكار بصورة مرعبة ليس فيها للتبعية والتقليد والتقديس سبيلٌ، وليس هذا تنكرا لموروثنا الحضاري العظيم، بقدر ما هو عودة إلى ينابيع ديننا الصافية التي ظلت في كثير من الأحيان حبيسة الأطر النظرية لقرون طويلة. 


 إذا أردنا بداية عصر ديني جديد، فلنعمل على تنشئة جيل من رجال الدين ودعاته، الذين لا يستمدون سلطتهم وقيمتهم من مجرد سلطة الدين وعصمته وقداسته وفقط، وإنما من جهودهم الإصلاحية والاجتماعية والتربوية، من قيمتهم المعرفية والعلمية، التي تتجاوز حد الجمود على النص التراثي، لتشمل العلوم الإنسانية الجديدة الأخرى كعلم النفس الديني، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الأنثروبولوجيا، وعلم الأركيولوجيا، ودراسة الأبعاد الدينية والإنسانية للنظريات العلمية الفيزيائية والفلكية.