(١)
في خضم الحالة التركية السياسية الراهنة، ومع بداية تراجع المجتمع التركي المعاصر والعلماني المنفتح والانقلاب الفكري والسياسي على قيم التعددية والديمقراطية على يد حزب العدالة والتنمية الإخواني، ليس غريباً ما نراه من دفاع رجب طيب أردوغان المستميت عن تركة أجداده العثمانيين، ومحاولته إنعاش ذكراها غير العطرة في سياق "رؤيته" السياسية المتحدرّة من أطماعه وأوهامه بكل ماتركته جرائمهم اللا إنسانية من جروح وندوب - لم تختفِ حتى الآن - في الذاكرة والمخيّلة الجمعية للعرب نفسياً واجتماعياً، وما محاولته الموهومة لإنهاض خلافة مزعومة ومنقرضة، إلاّ اتساقاً وتناغماً بنيوياً مع فكرة الإسلام السياسي الإخواني الذي كشف القناع عنه أخيراً بجلاء في أزمة تركيا الحالية إقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً.
وما احتضانه للمليشيات المتطرفة في شمال سوريا وحمايتها وتكوين هياكلها التنظيمية وتمويلها وتدريبها والزج بها وظيفياً في تأجيج الصراع الداخلي في سوريا وتمزيقها، وحرف وإفراغ ثورتها السلمية، ومحاولة اقتطاع أجزاءٍ كبيرة من شمالها وضمها إلى تركيا غير كشف ودلالة عن نفس العقلية والبنية الفكرية العثمانية الاستعمارية البالية التي سار على منوالها العهد العثماني البغيض الذي انمحى وانقضى بمجيء مصطفى كمال أتاتورك في ١٩٢٤مؤسس تركيا العلمانية الحديثة.
الآن وبعد أكثر من مائة عام على آخر مجزرة للأتراك في الحجاز وبخاصة في المدينة المنورة والمسماة بجريمة (سفر برلك)، ينكش أردوغان موقده السياسي الصدئ، يذر رماده في العيون غير البصيرة، ويشعل نار التدخل الفج والأحمق عند شواطئ ليبيا وقد طالت أذرعه وأسرعت خطاه و سال لعابه على ثرواتها النفطية في نكران صريح للتاريخ الأسود، وعدم التعلّم من دروس الهزائم الأخلاقية للاستعمار العثماني ومآلاته المدوية.. غير مبال فيما يمكن أن يتخلف عن هذا الغزو الجديد من تمزيقٍ آخر لوطن عربي والقضاء على استقلاليته في حالة من الشيزوفرانية السياسية والفكرية تنكر الوقائع المؤلمة دائماً (مجزرة الأرمن) وتدّعي محاربة الإرهاب في حين تمارسه جهاراً ضد الأكراد وضدّ حقهم الطبيعي والتاريخي في تكوين كيان مستقل لهم..وفي توظيف شروره وقواه المرتزقة في المكان والزمان الذي تتطلبه الأهداف والمرامي الاستراتيجية صغيرها وكبيرها، وهكذا هي العقلية الاستعمارية الجديدة ممثلةً معاصراً في طموحات أردوغان " الإمبراطورية " تتجدد مفاعيلها وأهدافها وجرائمها وآلياتها بنفس المنطق الاستلابي المعكوس..في لغة وأفعالٍ شديدة الانفصال عن الواقع والتاريخ..حتى وإن اختفت - خلف مفاعيلها وأهدافها الأطماع الأردوغانية القومية الضيقة- قوى كبرى وإقليمية صغرى دأبت وخططت وتآمرت على تمزيق الممزق وتفتيت المفتت في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.
(٢)
في النظر إلى أثر هذه الحقبة العثمانية - من وجهة نظر سعودية - على الإنتاج الأدبي والتاريخي والفني أجدني أمام كتابين اثنين اشتركا في نفس العنوان (سفر برلك): الأول روائي إبداعي لمقبول العلوي والثاني تاريخي وتوثيقي للصحافي والمؤرخ السعودي محمد الساعد، وثالث سير ذاتي للأديب الحجازي المعروف الراحل عزيز ضياء بعنوان: ( حياتي مع الجوع والحب والحرب) ليس مكرساً للحدث المأساوي العثماني ذاته (التهجير الجماعي القسري من المدينة المنورة-سفر برلك) إنما افتتحه بشكلٍ لافت في سطوره الأولى عن صباحه الأول في الحياة بذكراه المريرة، بلغة سردية عذبة متداعية مستقطرة من طفولتها وتخيلاتها السمعية والبصرية..والوجدانية.
في الكتابين نحن إزاء معالجتين مختلفتين للحدث الفاجع: تاريخي لا يبتعد عن سردياته المنطقية ومسبباته الجيوبوليتيكية، وفني روائي يحوّل المنطق التاريخي إلى حالة إبداعية متخيلة تقترب من الحدث اقتراباً حميمياً وإنسانياً.
إذاً سأتناول هذا الحدث التاريخي من خلال رؤى ثلاث، رؤية المؤرخ (محمد الساعد)، ورؤية الروائي (مقبول العلوي)، ورؤية العائش في الحدث (عزيز ضياء)..
وغالباً ما يتناول المؤرخ الحدث كما تواتر فعلاً "محللاً عناصره وفهمها وفقاً لقوانين السببية" في ممارسة ثقافية تحليلية لا تخلو من نظرتها الأيدولوجية، أما الروائي فهو ينشئ بنيانه الروائي على معطيات هذه الوقائع التاريخية وعناصرها في مركبٍ تخييلي فني وخلقٍ لشخصياتٍ متخيّلة وأجواء ربما لم تكن موجودة في حقيقتها الفيزيقية والزمانية ويتم ذلك ضمن موقف الروائي الفكري والاجتماعي على حد قول المؤرخ المصري المعروف قاسم عبده قاسم.
مارس مقبول العلوي في روايته سفر برلك تخييلاً سردياً مبدعاً للجريمة-الحدث، التي ارتكبها العثمانيون في المدينة المنورة بين ١٩١٤-١٩١٨ لم يزيّف فيه حقائق التاريخ ووقائعه قدر ما تحقق في النص الروائي الصدق التاريخي والفني معاً.
بدأت رحلة شخصيته السردية " المختلقة " من بوادي مكة، أي من المكان ذاته الذي اختمرت بين رماله المضطربة إرهاصات الثورة العربية الكبرى بقيادة شريف مكة ضد المحتل العثماني التركي، فأجاد في تحويل المادة التاريخية إلى قيمة فنية عالية المستوى في اللغة الساردة العذبة المكتنزة بأبعادها الإنسانية وصور العذابات والآلام التي مرت فيها الشخصية المركزية للرواية: ذيب وباقي شخوص الرواية وفي نظري النقدي نجح الروائي بقدرة تقنية شفافة وسلسة اختارت أسلوب المنطق التتابعي السببي، في تسليط الضوء الساطع على الحدث الخطير من حيث مؤثراته المكانية والزمانية وكشف الغطاء عن وطأته النفسية وندوبه الغائرة في الذاكرة الشعبية الحجازية عبر التاريخ.
إن مشهداً سردياً كهذا في قسوته ولا إنسانيته لن يترك ندباً في الذاكرة فقط بل يسجل تراجيدية كونية من تلك التراجيديات الوحشية التي لن تنسى، حينما زجّ الاحتلال العثماني مدينة جائعة بأكملها ( المدينة المنورة) ببشرها مجتثين من جذورهم في الأرض وذكرياتهم وأحلامهم في عربات القطار قسراً مساقين نحو المجهول والشتات، يذكرنا بألم مضاعف لما حدث لاحقاً للفلسطينيين من شتات على يد الاحتلال الإسرائيلي باقتلاعهم من أرضهم وتاريخهم وضياعهم خارج المكان، تلك المأساة الفلسطينية مازالت جرحاً مفتوحاً لم يندمل حتى اللحظة..
يصف الروائي الساعات الأولى من الترحيل القسري على لسان السارد ذيب؛
( أدركت مصيري الأسود وحظي العاثر حينما دخلت إلى جوف القطار. رأيت فيه ما أذهلني. كان هناك بشر مثل الأشباح، هزيلو الأجساد، مجرد جلد على عظم، كأنهم موتى خرجوا من قبورهم بعد دفنهم بأيام! عيونهم زائغة، ثيابهم ممزقة، روائح كريهة تنتشر في كل مكان. لم ينظر نحوي أيٌ أحد منهم، فقد بدا كل فردٍ منهم مشغول بنفسه. ترى رجالاً صامتين ونساءً يبكين بلا توقف، أطفالاً يصرخون، وتتداخل أصوات بكائهم ولا يلقي لهم أحد أيّ انتباه.)
الرواية ماتعة ورشيقة الأسلوب، انطوت على المعرفة التاريخية في خاماتها الأولى، وتجسدّت في التخييل النسبي والتحليق اللغوي، وانطوت في كل فصولها على متعة الحكي والبوح، والتقاط عناصر الحدث التاريخي وتفكيكه إلى عناصره وتفصيلاته الصغيرة.
تخييل الشخصية الساردة لم يكن تخييلاً صرفاً مطلقاً بل بدا لنا أن له جذره الواقعي..وهذا ما كشف عنه الروائي في التداعيات الأخيرة للرواية حين تحدث عن مصائر شخصيات الرواية منفصلةً وأدهشنا بأن كشف لنا شخصية ذيب الساردة كشخصية حقيقية شحماً ولحماً حيث قال الروائي: ( لقد عملت زميلاً لشاب من أحفاد ذيب في واحدة من المدارس النائية التي تقع بين جدة والمدينة المنورة وقد تزاملنا لمدة عام واحد في ١٩٩٢.)
رواية (سفر برلك ) رواية واقعية كتبت بأفق تخييلي تمركزت حول الجزئي لا الكلي في بنية الحدث التاريخ في حين سنرى في كتاب الصحافي والمؤرخ محمد الساعد في كتابه التاريخي الوثائقي تركيزاً على الحدث في مقدماته وأسبابه وحقائقه وتداعياته ودلالاته على أحداثٍ أخرى مماثلة في حقبة الاحتلال العثماني.
وقبل أن أنتقل إلى النظر في كتاب الساعد أجدني متشوقاً أن أنقل للقارئ ذلك الوصف السردي السحري للحظة التهجير القسري لأهالي المدينة أيضاً كما كتبه أديبنا الكبير الراحل عزيز ضياء في كتابه المذكور ( حياتي مع الجوع والحب والحرب):ط
( لا أعرف كم كان لي من العمر في ذلك الصباح، في تلك الساعة من المسيرة التي رأيت نفسي أبدؤها... عرفت وأنا أخرج من المنزل ويدي في يد أمي تارةً وفي يد خالتي تارةً أخرى، وقدر الحيسة* على رأس الفتاة السوداء، وأخي على كتف أمي، وجدي يحكم إغلاق باب المنزل، والعجوز السوداء تعول وتبكي وترطن بالتركية كلاماً ترفع معه يديها نحو السماء، وتقف لحظات ثم تتهالك على العتبة ..)
إلى أن يقول في وصفه الطفولي الماتع:
(يصعب علي أن أتذكر كيف وجدت نفسي مع جدي العجوز وأمي وعلى كتفها أخي وخالتي تتناول قدر الحيسة من الفتاة السوداء، والدموع تملأ العيون، ماعدا جدي الذي رأيته واقفاً على بابٍ عريض ظننته باب بيتٍ تجاوره بيوتٍ كثيرة مفتوحة الأبواب - يقصد عربات القطار- متشابهة الأشكال وجميعها بلون واحد.
ولم يطل وقوفنا مع أمي وخالتي وأخي، فقد ملأ الفضاء دوي صفارة، التفت لأرى على امتداد بصري في اتجاه دوي الصفارة الذي تكرر، دخاناً أسود وجرماً هائلاً أسود أيضا يملأ الساحة ضجيجاً وجلبة، وينفث هذا الدخان الذي بدا لي كأنه قد حجب الشمس).
وهو بالفعل قد حجب شمس المدينة واصطبغ أفقها بالحزن القاتم في ساعات الصباح الأولى وحشدت أرواحها البريئة داخل صناديق سوداء متحركة بينما كانت الأرض تهتز من تحتهم.
(٣)
في كتابه (سفر برلك)، يوغل محمد الساعد عميقاً بروح المؤرخ والباحث في المهاد الأولى التي ساهمت في تشكيل الدولة العثمانية حين كافأ أمير السلاجقة أرطغرل أمير قبائل الغز التركية بإقليم سكودا المعروف الآن بالحانب الأوروبي من تركيا وعاصمتها القسطنطينية، ومن بعدها اتسعت أطماع أرطغرل وغزواته وانتصاراته وتكوينه للنواة الأولى للدولة العثمانية.
غير أن الكاتب وهو يستعرض التضاريس التاريخية للحقبة العثمانية الممتدة لقرون عدة لم ينفك في جهدٍ دؤوب في الاستشهاد بكتابات عددٍ من المؤرخين والباحثين التي كوّنت كلها مشهداً فسيفسائياً متناقضاً لهذه الحقبة التاريخية التي قامت وتجددت على منطق الصراعات والحروب مع إمبراطوريات ومماليك واضطهادات للشعوب التي وقعت تحت نيرانها، وقهرهم وتهجيرهم وقتلهم والغدر بهم كما حدث مع الأرمن، ومروراً بأكثر من سفربرلك في الدرعية بنجد والشام، هذه الخلافة العثمانية التي يريد تجديدها الآن التركي الإخواني أردوغان، وهذه الحقبة الإمبراطورية المختلطة بالدماء والنار والظلام والجوع لم تنتج في المحصلة التاريخية أيَّ مشروع حضاري أو ازدهار ثقافي وفكري كما أنتجته مثلاً سابقتها الخلافة العباسية.
وحين يصل الكاتب في جهده البحثي اللافت إلى النقطة الفصل والمحورية لكتابه :(سفر برلك-المدينة المنورة)، نجده يتحدث باستفاضة عن هذا الحدث الإجرامي الكارثي الذي لم تزل ندوبه في الذاكرة غائرة حتى الآن.
يقول الكاتب: لقد بدأت الجريمة العثمانية عندما انطلقت الثورة العربية الكبرى على يد أشراف مكة في صيف ١٩١٦ وحين خاف العثمانيون امتدادها إلى المدينة المنورة أرسل الباب العالي الجنرال فخري باشا الأشد شراسة ودموية لاستقطاع المدينة المنورة وإلحاقها بالدولة العثمانية المنهارة والبدء في تتريكها بعد تهجير أهلها تماماً. وقد مارس العثمانيون في تحقيق ذلك كل الممارسات اللا إنسانية الدموية من تجويع وذبح الأبناء واستحياء النساء وقتلهن..حتى لم يبق في المدينة غير ١٤٠ رجلاً وعدة نساء.
ولم يكتفوا بذلك بل حولوا المسجد النبوي إلى ثكنة عسكرية وخزنوا الأسلحة والديناميت كما تجرؤوا على مقام النبوة، وسلبوا كل مدخرات ومقتنيات الحجرة النبوية " وكشفت الوثائق العثمانية أن عدد القطع التي احتواها جدول الأمانات المباركة التي تم سرقتها من الحجرة الشريفة في المدينة المنورة إلى إسطنبول 269 قطعة، وكان من بين الأمانات التي سرقها العثمانيون من الحجرة الشريفة، والموجودة حتى الآن في متحف توب كابي رداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك رايته التي يخرج بها للمعارك، بالإضافة لتعاليق منوعة من الذهب ومرصعة بأجود الأحجار الكريمة، محافظ للمصاحف الشريفة بلغ عددها 4 محافظ مغلفة بالذهب ومرصعة بالأحجار النادرة، 3 سيوف عليها كتابات بالذهب ومقابض من الفضة".
إنها سرقة تاريخ وآثار بامتياز..وحتى الآن لم ترد إلى أهلها الحقيقيين.
العثمانيون كما تدل أطماعهم وسرقاتهم ودمويتهم لم يكونوا بناة حضارة ومدنية..بل كانوا محتلين غاشمين ولصوص للتاريخ والدين في آن.