الإثنين 20 مايو 2024

الإسلام وأوروبا.... تسامح صلاح الدين وتزمت العثمانيين

فن31-10-2020 | 21:24

رغم فظاعت وقسوة الحروب الصليبية، وطول أمدها، كانت لها بعض النتائج الإيجابية، على أكثر من مستوى، خاصة رؤية ونظرة الغرب أو بلاد الفرنجة إلى البلدان والمجتمعات العربية والإسلامية، شرق وجنوب المتوسط، ذلك أن الذى بدا العدوان كانوا هم، بدعوى حماية موطن السيد المسيح والصليب، فى فلسطين وهم كذلك الذين هُزموا، فى نهاية الأمر، وخرجوا من بلادنا، التى تعرضت للغزو والهجوم، بلادنا... التى قاومت وتحملت العدوان ثم تمكنت من الانتصار، القدس ظلت محتلة أكثر من تسعين عاماً، حتى تمكن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي من الانتصار فى حطين وتحريرها، ثم هاجموا شمال مصر، عند دمياط والمنصورة، وتمكن الملك الصالح، نجم الدين أيوب، من قيادة المقاومة رغم مرضه، ولما توفى شغلت جاريته شجر الدر موقعه، وتحملت المسئولية كاملة وتمكنت من الانتصار، ودحر الصليبيين فى المنصورة ثم أسر الملك لويس التاسع فى دار ابن لقمان على النحو المعروف، هذه الدار ما تزال قائمة بمدينة المنصورة إلى اليوم، حيث صارت متحفا ومزارا عاما.


لم تكن تلك الحروب مجرد عمليات عسكرية فقط، رغم بشاعة ما قام به الغزاة، يوم أن سقطت القدس، جرى قتل حوالى تسعين ألف من العرب، فى ساحة المسجد الأقصى وحوله، وبعض المؤرخين تزيد تقديراتهم عن ذلك الرقم كثيراً، فضلاً عن استباحة المدينة بالكامل، بعد هذا حدث احتكاك ثقافى وحضاري، بين أبناء المنطقة والغزاة الجدد، وجد الفرنجة أن مجتمعاتنا متقدمة وناهضة، لذا تأثروا بالكثير من ممارساتها وثقافتها وفنونها، ورصد عدد من الباحثين الأوروبيين والعرب جوانب هذا التأثير، وربما يكون كتاب د. عبد الرحمن بدوى “دور العرب فى تكوين الفكر الأوروبى” واحدا من أهم الكتب بالعربية التى قامت برصد تلك الجوانب، حيث امتد التأثير العربى إلى الشعر والعمارة الأوروبية والنسيج والملابس وأدوات الطعام، فضلاً عن الأفكار وغيرها.


لم يكن الأمر قاصرا على هذا فقط، لكن الاحتكاك العام، كان عاملاً حاسماً، وتحديداً جانب التسامح الذى أبداه صلاح الدين الأيوبى، وغيره من القادة والزعماء، تجاه خصومهم، كان لافتاً للانتباه، لذا كثرت الدراسات الأوروبية عن صلاح الدين الأيوبى، التى تحمل إشادة به وتقديرا خاصا لفضائله وسجاياه، كان متسامحا وإنسانا تجاه خصومه، الذين حاربهم وانتصر عليهم، وما ترك فرصة لإحلال السلام والتوقف عن القتال إلا وسعى إليها واستغلها أفضل استغلال، لذا لم يكن غريبا أن نجد دانتى فى “الكوميديا الإلهية” يضع صلاح الدين فى مكانة لم يضع فيها أى مسلم على الإطلاق، حيث أخرجه من أعماق الجحيم.


ولابد من القول إن من أهم الدراسات التى صدرت عن صلاح الدين، كانت لكتاب وباحثين غرببيين، وكذلك فإن الجامعة المصرية-  جامعة القاهرة - حين فتحت باب الدراسات العليا، كانت أول رسالة دكتوراه تجيزها للطالب/ طه حسن، عن أبى العلاء المعرى، أما الرسالة الثانية، فكانت عن صلاح الدين الأيوبى وعصره، قدمها د. أحمد البيلي، وقامت لجنة التأليف والترجمة والنشر بطباعتها فى كتاب صدرت منه أكثر من طبعة في فترة وجيزة؛ وتوالت بعدها الدراسات سواء لباحثين متخصصين فى التاريخ أو كتاب يقدمون أعمالهم الأدبية للقارئ العام، مثل جورجى زيدان ومحمد فريد أبو حديد.


لم يكن صلاح الدين حالة استثنائية فى تسامحه، كان تعبيرا عن حالة عامة فى مجتمعاتنا، توقف الدارسون الأوروبيون بعده أمام موقف حكام وأهل مصر من “ لويس التاسع”، حين وقع فى الأسر، وبمعايير تلك اللحظة، كان يجب قتله على الفور، هو جاء إلينا معتدياً وغازيا، وقد هزم فى ميدان القتال، ولم تكن هناك اتفاقيات تقر حقوق الأسرى ولا أى شيء، مما نعرفه اليوم، لكن لويس أُخذ إلى الأسر وعُومل معامله جيدة، لم يمس ولا تم الاعتداء عليه، لقى رعاية كريمة، ثم قبل المنتصرون المصريون، أن يسلموه لبلاده ثانية، وسمح لأسرته أن يفتدوه بالمال، وكان ذلك فضلاً عظيما من المنتصرين، وبعد أن عاد “لويس التاسع” إلى بلاده، توجه مجددا على رأس حملة صليبية جديدة إلى تونس، الأمر الذى جعله مزحة بين الباحثين والمؤرخين.


انتهت الحروب الصليبية بتقدير للعرب وللمسلمين، وإحساس لدى فريق من الأوروبيين بروح الاعتذار إلى العرب والمسلمين وتقدير كبير لنبلهم وتسامحهم، وباتت كلمة “الحروب الصليبية” فى اللغة والاستعمال الغربى، تحمل معانى سلبية، إذ تعنى الحرب القائمة على التعصب الدينى والعنصرية البغيضة، باختصار حرب غير نبيلة ولا أخلاقية، أى ليست من أجل قيمة سامية أو هدف نبيل، الآن يمكن لدول الغرب أن تباهى أنها خاضت الحرب العالمية الثانية، لأنها كانت فى سبيل الدفاع عن قيمة الحرية وضد الفاشية والنازية معاً، لكن حين زل لسان الرئيس/ بوش الابن، وأطلق على حرب العراق سنة 2003 ، بأنها “حرب صليبية” تعرض لانتقادات ومؤاخذات حادة داخل الولايات المتحدة نفسها وخارجها، وحاولت إدارته الاعتذار عنها، والتأكيد على أنها كانت زلة لسان، وتم التشكيك فى كل الأهداف التى راح يتحدث عنها مثل إقامة الديمقراطية فى العراق، وبناء عراق حر، إلى غير ذلك من الكلمات التى لم يثق كثيرون بها.


لا يعنى هذا أن المشاعر الأوروبية صارت ودية تجاه العالم الإسلامى، ولا أن أفكارهم تغيرت تجاه الإسلام، لكن لم يكن بإمكانهم التعبير عن تلك المشاعر العدائية، ولا كان هناك مبررا لذلك، تجربة الحروب أكدت لهم أن خصومهم أقوياء ويجب الابتعاد عن الاحتكاك العدائى معهم وأن يتعلموا منهم التسامح.


جاءت الدولة العثمانية لتقلب هذه الصورة تماما، وتقدم الكثير من المبررات بخصوص حالة الكراهية العميقة للإسلام ذاته، فى الحروب الصليبية كان المسلمون فى ديارهم وجاء من يقتحم عليهم هذه الديار، وإذا بالدولة العثمانية تفعل الشيء نفسه فى أوروبا، هكذا فعلوا فى بلاد البلقان، وامتدوا فى وسط أوروبا، حتى طرقوا أبواب فيينا، فى عام1683 ، صحيح أن دفاعات فيينا كانت قوية، وارتد العثمانيون عنها أكثر من مرة، لكن الأثر المعنوى حدث، واهتزت أوروبا خوفاً، ومازال ذلك الخوف قائماً في العقل الباطن إلى يومنا هذا، تحت الجلد خفياً، فى أوقات الأزمات يطفو على السطح، وفى منطقتنا نجد بين بعض المتأسلمين من يذكر موقعة حصار فيينا متباهياً، ومعتبراً إياها مجداً للإسلام وللمسلمين، يتردد ذلك فى الكثير من الكتب والدراسات وكذلك فى الخطب المنبرية والبرامج التليفزيونية، دون أن يتساءل أحد عن مدى اتساق محاصرة فيينا مع روح الإسلام ومع نصوصه المقدسة...  ولم يتساءل أحد كذلك عن العائد على الإسلام والمسلمين من وراء تلك الموقعة، وماذا يدعو فيها إلى الفخر ! إنه بكل المقاييس عائد سلبى جداً، ومن تابع فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، وتفكك منظومته السياسية، يجد أن المسلمين فى بلاد البلقان، مثل يوغسلافيا السابقة تعرضوا لكثير من العنف والرفض، وجرت مذبحة كبرى لهم، فقد تذكر المسيحيون الأوروبيون التاريخ العثمانى وما فعلوه بهم!  وهكذا جرت عمليات التطهير العرقى فى البوسنة، وحدث الصراع الرهيب فى تلك المنطقة، كانت عملية سداد متأخر للفواتير العثمانية القديمة، وحدث مع مسلمى البلغار عمليات تربص لنفس الأسباب.


الاجتياح العثمانى لأوروبا، خلق فى العقلية الغربية التصور بأن الإسلام انتشر بحد السيف، وأنه دين قائم على القتال والقتل، وأنه يُكره الآخرين على اعتناقه، ومصير من لا يعتنقه القتل، واُعتبر ذلك من الحقائق، رغم أنه ليس صحيحا بالمعيار الإسلامى.


حين ظهر الإسلام وامتدت الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية، كان مفهوما للجميع، أن الإنسانية بإزاء دين جديد، ينتصر لأمة العرب على إمبراطوريتين مترهلتين تماماً، سياسياً واقتصادياً وعسكريا، وأن هناك أسباب “جيو سياسية” دفعت العرب للتحرك خارج جزيرتهم، نحو بلاد الشام، حيث الإمبراطورية الرومانية، ونحو بلاد فارس حيث إمبراطورية الفرس، وقبل كل ذلك وبعده كان الإسلام يحمل نموذجاً فكرياً وثقافياً جديداً، خاصة أن العرب الذين حملوا هذا الدين، قدموا مثالاً إنسانياً وأخلاقياً جديداً، كان متقدما وسابقا لعصرهم، وينهض بأوضاع السكان فى البلدان التى فتحوها، لكن الغزوات العثمانية لأوروبا، كانت تمثل عملية غزو للاستحواذ والسيطرة، ولم يكن ذلك غريبا وقتها، لكن الغريب أن الدولة العثمانية ادعت أن ذلك نضالاً بهدف نشر الإسلام، فتحمل الإسلام كعقيدة وديانة وزر تلك الغزوات والحروب العدوانية.


كانت عمليات الغزو العثمانى مرتبطة بممارسات بشعة، دعك الآن من القتل والتعذيب، الذى أفاضت كتب التاريخ فى ذكره وتناوله، وهناك كثير من الأعمال الأدبية لأنباء ومبدعين من تلك البلدان ضمنوا تلك الممارسات فى أعمالهم، وكانت هناك “ضريبة الغلمان” حيت يختطف بعض الأطفال أو يفرض على ذويهم تسليمهم للدولة، ويؤخذون إلى إسطنبول، وهناك يُجبرون على اعتناق الإسلام ويتم تدريبهم حربيا كى يكونوا جنود الانكشارية أو للخدمة فى القصور السلطانية، ولم تمح تلك المشاهد من الذاكرة التاريخية إلى اليوم.


يقول دومينيك شوفاليه.. كانت صورة التركى فى الخيال الشعبى فى تلك المناطق تتمثل فى ذلك الرجل الذى يسطو على الأملاك ويأخذ أطفال المسيحيين الصغار.. ثم يقول “عمل بعض هؤلاء الذين دخلوا فى الإسلام بوظائف مميزة للغاية، ولكن ظلت صورة التركى العنيف الذى يقوم بالنهب والسلب محفورة فى قلوب سكان البلقان”.


واستبدلت “صورة التركى” بصورة “المسلم” حيناً وصار التركى يرادف المسلم بألف لام التعريف، لدى هذه الشعوب.


لم يقف الأمر عند حدود الصبيان والغلمان، بل امتد إلى الفتيات اللاتى يؤخذن ليصبحن جوارى، تُبعن فى الأسواق أو يتم منحهن هبة لرجال السلطان والقادة، باختصار صارت صورة المسلم، على النحو التالى؛ عدو يقتل وينهب لينشر دينه بحد السيف، يخطف الأطفال ويجبرهم على اعتناق الإسلام وتغيير أسمائهم والاختفاء للأبد عن أسرهم، والاعتداء على الفتيات والنساء، أى شهوانى لا يهمه إلا الغريزة الجنسية.. !!


من المشاهد التى تركت أسوأ الأثر لدى الأوروبيين وتتبدى فى كثير من أعمالهم الأدبية والفكرية، ما كان يقوم به رجال الإمبراطورية تجاه رجال الدين فى الكنائس والأديرة التى يمرون بها وفى البلاد التى يدخلونها، إهانات متعمدة، على مرأى من عوام الناس وانتهاك لحرمات الكنائس والأديرة .. رهبان وقسيسين يُسحبون فى الشوارع، إحدى الروايات اليونانية، ترجمت إلى العربية فى القاهرة، قبل سنوات، تتناول إعدام رجل دين مسيحى، بأن سُحب ورُبط عارياً تماماً فى شجرة، ودُهن جسده بالعسل، وترك فى الشمس عدة أيام، ليقف النحل وغيره من الحشرات على جسد هذا الرجل وتأكله ببطء، حتى مات؛ كانت تلك واحدة من طرق الإعدام.


والمعروف أن العثمانيين أضافوا إلى طرق الإعدام، الخوزقة، أى أن يوضع الإنسان على خازوق من الحديد الحاد، يدخل فى فتحة الشرج ويظل يمتد داخله إلى الأمعاء، ويترك هكذا، عدة أيام، حتى يموت، حدث ذلك فى مصر وفى غيرها من البلدان العربية، كما حدث فى المناطق الأوروبية التى دخلها العثمانيون.


وكان ممكناً ابتلاع هذه الأفعال واعتبارها آثارا جانبية لعمليات الغزو، وأن ظروف ذلك الزمان، كانت تحتمل هذه الجرائم، لو أن العثمانيين قدموا نموذجاً سياسياً جديداً يضيف إلى البلاد التى دخلوها، ولو أنه قدم إضافة ثقافية وحضارية لها، على غرار ما فعله العرب حين دخلوا بلاد الأندلس، الذين أثروا واقعها وأضافوا إلى تراثها وتاريخها ما يعتز به كثير من الإسبان إلى يومنا هذا، فى الحقبة العثمانية لا تجد شيئاً مشابها، نعثر فقط على عمليات القتل والتعذيب والخطف وإذلال الناس، ومعاملتهم كعبيد بالمعنى الحرفى للكلمة.


وكان يمكن تفسير وتفهم ما يقومون به تجاه أبناء البلاد التى اجتاحوها، بأنهم أعداء وغير مسلمين - رغم أن الإسلام، طبقاً لكثير من آيات القرآن الكريم، لا يعتبر غير المسلم عدواً ولا يلزمه بضرورة ترك دينه ولا أن يصبح مسلميا-  لكن الممارسات العثمانية مع المسلمين، لم تكن أقل بشاعة، كان السلطان إذا تولى السلطنة يحق له أن يقوم بخنق وقتل أشقائه، حتى لو كانوا أطفالاً والهدف أن لا ينافسونه على السلطنه، وكانت الفتاوى جاهزة بأن ذلك يتم درءاً للفتنة، التى ستحدث لو عاش هؤلاء “الأشقاء” أما ما كان يحدث بحق عامة الناس من المسلمين، فحدث ولا حرج، القتل لأهون سبب، وبلا مساءلة ولا محاكمة، من يراجع الجزء الأخير من كتاب المؤرخ المصري ابن إياس “بدائع الزهور في وقائع الدهور” يتأكد من ذلك، وكذلك كتاب عبدالرحمن الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، حتى أعوان السلطان نفسه، كانوا يُقتلون لمجرد حدوث أى خطأ، فضلاً عن وشايات القصور ومكائد الجوارى.


ومن تابع المسلسل التركى حول السلطان سليمان القانونى، والذى حمل عنواناً بالعربية هو  “حريم السلطان”، يمكنه تبين كيف كانت الحياة، وحجم المكائد داخل الأسرة العثمانية ذاتها، وبين جدران القصور الفارهة، حدث هذا زمن سليمان، السلطان القوى، فكيف أصبح الحال بعد أن ضعف السلاطين وترهلت السلطنة وانحلت أدواتها وآلياتها؟


قد يتصور بعضنا أن المؤرخين الأوربيين والأدباء يبالغون فى الأمر وأن لديهم إحن خاصة تجعلهم يتحاملون على العثمانيين، وهذا أمر يجب أن يكون موضع اعتبار أمام القارئ والمحلل، لكن لنلاحظ أن هؤلاء المؤرخين يتحدثون فى كثير من الأحيان عن وقائع جرت بالفعل، أى أنهم لا يخترعون وقائع، ولا يختلقون أحداثا، وفضلا عن ذلك فإن القارئ لتاريخ ابن إيان وابن زنيل الرمال، وسواهما من المؤرخين والكتاب العرب والمسلمين، سوف يصيبه الذهول، مما فعله العثمانيون بمصر حين أمكن لهم اجتياحها، وكذلك ما قاموا به فى بلاد الشام من قتل وسفك دماء، وسطو على الممتلكات وإهانة للبشر واستباحة لحقوقهم وممتلكاتهم، فى بعض قرى مصر بالشرقية والبحيرة، أخذوا الفتيات والنساء سبايا وقاموا ببيعهن وحرقوا المزروعات، وقبل كل هذا وبعده تكفى أم الجرائم شنق السلطان العادل طومان باى على باب زويلة بلا سبب سوى أنه دافع عن مصر وطنه، التى لم يعرف غيرها .


فعلوا ذلك مع مسلمين ومجتمعات إسلامية، أى لا يحملون عقيدة دينية مخالفة، وبلاد لم تهدد العثمانيين يوما، لا بالقول ولا بالفعل، كان سلاطين المماليك يحرصون على مرادعة العثمانيين فما بالنا بمجتمعات معظم سكانها من المسيحيين، أى يعتبرونهم كفارا ومارقين ؟


ومن الأسف أن بعض الدارسين الأوربيين، سحبوا ذلك الذى عانوه وعاشوه مع العثمانيين على الإسلام كله، فراحوا يفسرون ويفهمون بعض الآيات القرآنية الكريمة وفقا لتلك المعاناة، ثم درسوا سيرة الرسول) صلى الله عليه وسلم( بما يؤكد خبرتهم المعاشة مع الدولة العثمانية، وانتهوا إلى نتيجة سلبية تماما، وهى أنه ما دام هؤلاء العثمانيون المسلمون يفعلون ذلك، فلابد أنهم يتبعون تعاليم دينهم وأوامر رسولهم، دون أن ينتبهوا إلى أن العثمانيين، ليسوا كل المسلمين، وأن ما يقوم به المسلم، ليس بالضرورة تعبيراً صادقاً وأميناً عن روح الإسلام ونصوص القرآن الكريم والسيرة النبوية .


ترددت هذه الآراء والأفكار فى كثير من كتب المستشرقين، مدفوعين بالنهضة الأوروبية الحديثة، الطامحة والطامعة للامتداد خارج حدودها .


لا أريد أن أبرئ ظاهرة الاستشراق، هى فى النهاية كما أثبت إدوارد سعيد فى كتابه "الاستشراق"، إفراز مشروع سياسى غربى، كان طموحا لاستعمارنا والسيطرة على بلادنا، وأمكن للأوربيين ذلك فى عدة حالات بالاتفاق مع أو التحايل على الدولة العثمانية، التى كانت تسيطر على المنطقة، حدث فى مصر سنة 1882، وحدث أن أغمضت الدولة عينيها عن الاحتلال الفرنسى للجزائر سنة1830 ، ولما وقع الاحتلال أرسلت السلطنة العثمانية مندوبا يعد تقريرا عما جرى فى الجزائر، وقام رفاعة الطهطاوى بنشر التقرير مترجماً إلى العربية فى مجلة "روضة المدارس" وانتهى كاتبه إلى أن ما جرى فى الجزائر عقابا إلهيا لولاتها وجزاء وفاقا لما كانوا يقومون به من عدم طاعة السلطان .


لم تر الدولة فى ذلك نوع من الاحتلال والاستعمار ولم تجد أنها تتحمل كل المسئولية عن ذلك الاحتلال باعتبار أنها كانت تتولى مسئولية الجزائر وصاحبة السيادة عليها .


الظاهرة الاستشراقية كانت تعبيراً عن مشروع استعماري، لكنها استمرت كثيرا المادة العلمية عبر روح الميراث العثمانى المثقل بالمرارة والكراهية العميقة، ولما وقعت حادثة 11 سبتمبر2001 ، وما سبقها من بعض عمليات العنف، وفتوى آية الله خمينى بخصوص سلمان رشدى، حتى انفجر بركان العداء للإسلام والخوف من المسلمين، داخل الذاكرة الجمعية الغربية .


ربما تكون تلك الخبرة الأوروبية والميراث البغيض للتاريخ العثمانى أحد أسباب تعثر محاولات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، إذ تحاول وتسعى منذ تأسيس الاتحاد تقريبا، وأقدمت على تعديل الدستور لإزالة الاعتراضات وملاحظات الاتحاد الأوروبى، ورغم ذلك لم تكلل بالنجاح، بينما وجدنا دول أوروبا الشرقية، التى كانت فى فلك الاتحاد السوفييتى وعضوية حلف "وارسو" المناقض عسكريا لحلف الناتو، تقبل فى النادى الأوروبى، بمجرد سقوط الاتحاد السوفييتى وانفراط عقده، وكانت المغريات تقدم لبعض هذه الدول، كى تسارع فى طلب الانضمام .


اليوم نجد المسلمون والعرب يعانون من ظاهرة" الإسلاموفوبيا" فى الغرب، أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لاحظ قرار الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" بوضع مواطنى عدة دول عربية وإسلامية تحت المراقبة، قبل دخولهم الولايات المتحدة، السبب المباشر هو العمليات الإرهابية التى يقوم بها متأسلمون، من تنظيمى القاعدة وداعش، لكن فى الجذور البعيدة وفى الأعماق، فتش فى التاريخ، عن الممارسات العثمانية، وما بين المتأسلمين والعثمانيين الجدد، الكثير من التواصل والتعامل !!!


وما يدعو للأسى الآن أن نجد من البعض تشويها متعمدا لصلاح الدين الأيوبي، وتمجيدا للعثمانيين، بما يدعم في النهاية دعاة "الإسلاموفوبيا". لقد هدم العثمانيون الكثير من أمجاد صلاح الدين في التسامح، وفي تحرير الأرض المحتلة، حيث فرطوا في فلسطين وهدموها، وأهدروا قاعدة التسامح، وهذا ما يحاوله الآن العثمانيون الجدد وأعوانهم.