مع بداية عصر الفضائيات والانفتاح على الثقافات المختلفة حيث تغيرت المفضلات بالنسبة لمعظم مشاهدي ومتابعي الدراما التليفزيونية، فمن الدراما المكسيكية للإسبانية ثم التركية والهندية، لكن التأثير الأكبر كان للتركية المدبلجة للعربية التي لاقت انتشارًا ورواجًا كبيرين في البداية كدراما اجتماعية رومانسية ثم لمسلسلات تاريخية وسياسية أبرزها "وادى الذئاب" بأجزائه والذي يمجد في الأجهزة الأمنية والمخابراتية التركية وكذلك في رءوس الجرائم المنظمة الذين يشكلون قوى رئيسية في المعادلة هناك، لتتحول هذه المسلسلات إلى بوق دعائي لأردوغان وأطماعه في تقاسم موارد المنطقة بالإضافة لأحلامه بعودة الخلافة الإسلامية.
ذراع أساسية للنظام التركي تتمثل في المسلسلات خاصة التي تمجد في المؤسسين الأوائل للدولة العثمانية سواء أرطغرل أو سليم الأول وتمنحهم صفات أسطورية، وكذلك الحال مع آخر سلاطين الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني، كل هذه المسلسلات صنعت على الشاشة ملائكة وبشرا يتصفون بصفات إنسانية ويقيمون العدل ولا يعتدون بل يدافعون، وهى أمور لا تمت للواقع بصلة، في النهاية هم قوات احتلال ولقب خليفة المسلمين وأمير المؤمنين بدوره لقب مغتصب حازه السفاح سليم الأول بعد احتلاله مصر وتنازل الخليفة العباسي الذي كان يعيش في مصر بمنصب صوري عن اللقب.
الدراما المصرية بدورها كانت تتعامل مع ما هو عثماني وتركى بالكثير من الازدراء، فالشخصيات التركية والعثمانية في المسلسلات في المعظم شخصيات سلبية ذات سلوك قاسٍ وعنيف وظالم، عادة ما يتم تصويره كشخص غليظ يسير بالكرباج لغته ركيكة ونطقه للعربية مضحك، تحولت صورة التركي في الدراما المصرية لصورة نمطية تعبر عن الشر والظلم وأصبح اللقب تركى الأصل "باشا" سيئ السمعة ودلالة على الفساد، هذا في استغلال صناع الدراما للشخصيات العادية، لكن على مستوى الحكام والصراعات الحربية، فهناك تناول أكثر دقة يعبر حدود التنميط للأسماء التي لعبت دورا كبيرا في الصراع، والتركيز الرئيسي كان على شخصية المحتل الذي غطى نفسه بغطاء الدين وأطلق على نفسه خليفة المسلمين في عادة ظلت متبعة حتى غياب إمبراطوريتهم، لكن هذه الأوهام والتدليس يعودان في أحلام أردوغان حاكم تركيا الحالي.
مسلسل "مارد الجبل" واحد من أوائل الأعمال التي تعرضت للاحتلال العثماني والذي عرض عام 1977 من إخراج نور الدمرداش وسيناريو سنية قراعة، وبطولة عدد كبير من النجوم على رأسهم نور الشريف الشاب الذى يقاتل من أجل الحرية ويتحصن بالجبل المتاخم لقريبته في صعيد مصر، حيث تدور أحداث المسلسل في الفترة تضم الصراع بين الوالي العثماني وحاشية مع شيخ البلد على بك الكبير الذي قدم دوره في المسلسل أحمد ماهر، وبسبب الظلم الذى وقع على أحمد بن شبيب (نور الشريف) من غريمه رواس (مصطفى متولى) على حب زينة (ليلى حمادة) يتحول أحمد لواحد من مطاريد الجبل وثائر على كل الأوضاع الخاطئة ومن ضمنها المماليك والأتراك والظالمين من أهل بلده.
لنتعرف أكثر على التفاصيل الخاصة بالمسلسل نحتاج لنتعرف أكثر على المتصارعين على كرسي حكم مصر في هذا الوقت، فعلى الرغم من هزيمة المماليك مرتين، الأولى في مرج دابق وراح ضحيتها السلطان قنصوة الغورى ثم موقعة الريدانية التي هزم فيها الجيش المصري والذي كان يقوده السلطان الأشرف طومان باي وقتل بعد رفضه التسليم وحكم مصر تحت راية الدولة العثمانية، لكن هزيمة المماليك لم تعنِ زوال سلطتهم أو وجودهم فى مصر على العكس، منصب شيخ البلد كان من نصيب المماليك لكنه كان أعلى درجات ترقيهم في الحكم، وسار الأمر على نفس المنوال حتي لاعب رئيسي ساهم في تغيير اللعبة وكشف لحد كبير ضعف هذه الإمبراطورية التي لم تقوَ على مواجهته وهو على بك الكبير والذي استغلته الدراما المصرية بأكثر من صورة أولها "مارد الجبل" والتي نستطيع أن نقول إن بطلها مزيج من على الزيبق وشيخ العرب همام بن يوسف، وكلاهما كانا مقاومين للمماليك.
حسب السيرة الشعبية، نفس الشيء حدث في مسلسل "على الزيبق" عام 1985 والذى قدم شخصية على من خلال فاروق الفيشاوي وغريماه المقدم سنقر الكلبي (أبو بكر عزت) والمقدم دليلة (ليلى فوزى) والصراع كان بين الزيبق والمماليك بشكل رئيسى بينما تبدو الدولة العثمانية بعيدة ترسل واليا أو ترسل فرمانا دون وجود فعلى كمحتل حسب المسلسل.
"مارد الجبل" بطله أحمد هو شاب صعيدي عانى ظلما طال حبه الوحيد زينة، وظلما من الأتراك ممثلا في حسن جاويش (إبراهيم نصر) في الوقت الذي ظهر على بك الكبير (أحمد ماهر) في المسلسل كرجل مهزوز على عكس سيرته في الحقيقة، رحلة مقاومة أحمد التي تحولت من الدفاع عن زينة إلى الدفاع عن مصر انتهت بموته على يد جندي تركي، بالطبع الرؤية كانت مختلطة بعيدة عن الاهتمام بالأحداث التاريخية لكنها كانت تعلى القيمة الوطنية وتقيم اهتمام المصريين بالدفاع عن أرضها ووصمت المماليك والعثمانيين بـ"المحتلين".
بعد 12 عاما من عرض "مارد الجبل" نجد أن هناك صورة أخرى لعلى بك الكبير كحالة منفردة ولا تزال كراهية المماليك وتخوينهم مستمرة، وذلك من خلال مسلسل "الحب في عصر الجفاف" عام 1989، والذى جسد من خلاله شخصية على بك الكبير الفنان الكبير عبد الله غيث وجسد شخصية الخائن محمد أبو الدهب، أحمد ماهر، في هذا المسلسل نجد أن السيناريست محمد أبو العلا السلامونى صور على بك الكبير كأول الحالمين باستقلال مصر وبناء إمبراطورية كبرى مركزها القاهرة، ولهذا السبب حارب الإمبراطورية العثمانية ونجح في الاستقلال بحكم مصر، هذا الطرح ترجمة لما قبل الاحتلال الفرنسي على مصر والذى لم تصده الإمبراطورية العثمانية وتركت المصريين يحررون أنفسهم من حكم جيش نابليون، أي أن تفكير على بك سابق لتفكير محمد على في بناء دولة مصرية مستقلة، والكثير من المراجع تصف على بك الانتهازي وصاحب الأطماع الشخصية، لكن كفاحه ضد الإمبراطورية العثمانية مع حليفه ظاهر العمر في الشام وخيانة تلميذه وقائد جيوشه محمد أبو الدهب يؤكدان أنه كان صاحب رؤية التقطها السلامونى بذكاء وصاغها، وربما المشاهد الأخيرة من المسلسل والتي زادت ثقلا بأداء عبد الله غيث وهو يدخل معركته الأخيرة ضد 30 فارسا وهو بمفرده ثم الحوار الثنائى بينه وبين أبو الدهب وهو على فراش الموت يدلان على وطنيته وكرهه للعثمانيين المحتلين حسب رؤية السلامونى ومخرج المسلسل حسين حامد.
فترة التسعينيات شهدت من خلال الدراما التليفزيونية اتهامات واضحة للدولة العثمانية كمحتلين، والسبب في تجريف القاهرة قتلا وتعذيبًا وسرقة لمواردها وطاقاتها البشرية، مسلسل "أرابيسك" عام 1994 ظهر في حلقته الأولى فنان الأرابيسك حسن النعمانى الجد الذى صنع للسلطان العثمانى كرسي عرشه والذي يعد تحفة فنية، حسن هو واحد من الحرفيين المهرة الذين ساقتهم قوات بنى عثمان إلى العاصمة الأستانة ليعملوا كحرفين هناك تاركين القاهرة بدون عمالها المهرة وشيوخ حرفيها، وهى إدانة واضحة من السيناريست أسامة أنور عكاشة للمحتل العثمانى، عام 1995 عُرض مسلسل "الزينى بركات" والذى تناول الفترة التي سبقت الاحتلال العثمانى وأظهر السيناريست محمد السيد عيد عن رواية جمال الغيطانى التي تحمل نفس العنوان، الخيانة التي أوصلت العثمانيين لاحتلال مصر وظهر السلطان طومان باي (رياض الخولى) كبطل قومى قاد الجيش لمقاومة الاحتلال لكن خيانة كثيرين منهم الزينى بركات (أحمد بدير) قد مهدت لدخول العثمانيين على حساب المقاومة.
عام 1997 ظهر ملمح مختلف للعثمانيين من خلال مسلسل "الشارع الجديد" الذى تناول المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، من خلال شخصية حسان البقري (شريف منير) الذى ذهب بشكل غير شرعى لينضم إلى الجيش التركى الذى يجاهد الكفار، إيمانا منه بنصرة الإسلام على اعتبار أن الدولة العثمانية الممثلة للإسلام في مواجهة البريطانيين الذين يحتلون مصر، لكن سيناريست المسلسل ماجدة خير الله التي استوحت العمل من رواية لعبد الحميد جودة السحار تحمل نفس العنوان ومعها المخرج محمد فاضل، أبرزا جانبا بسيطا من القسوة والظلم والغباء الذى قادهم في النهاية للهزيمة بشكل مهين، وهو استغلالهم للمتطوعين غير الأتراك في أعمال مهينة وتعمد إذلالهم وإهانتهم، كجزء من عنجهيتهم والصلف والغرور والذى أثبتت هزيمتهم أنه لا محل لهم من الأعراب.
لكن درة التاج في فضح العثمانيين ومذابحهم وأياديهم السوداء على المنطقة ومصر من خلال مسلسل "ممالك النار" الذي عُرض عام 2019، والذى ركز على دموية واختلال سليم الأول وأكاذيبه ومحاولات صبغ احتلاله لمصر والشام بأنه فتح إسلامي، من خلال عرض متوازٍ لصعود سليم وطومان باي للحكم وطريق كل منهما في الوصول للعرش وطبائع كل منهما الشخصية استنادًا إلى الكثير من الكتب التاريخية، لذلك يبدو من خلال المسلسل وبوضوح ما فعلته الدولة العثمانية وما أقدمت عليه لتدمير مصر ودفعها لعصور من الجهل والرجعية، وأعملت السيف في الجميع وفرضت ضرائب وجزية ولم تهتم بأى تطوير استنادا إلى ضعف ظاهره قوة وانشغال حكامها بالمؤامرات على حساب اهتمامهم بالبلاد التي احتلوها، لذلك سنجد أن فرنسا احتلت مصر وإنجلترا احتلت مصر واستقل على بك الكبير بحكم مصر قبل أن يسقط بالخيانة وصولا للحركة الوطنية التي دعمت نفسها بمحمد على الذى استطاع أن يستقل بحكم مصر ويطور وينظم مصر بشكل كبير في كثير من مناحي الحياة ويؤمن لسلالته حكم مصر بعيدًا عن الدولة العثمانية حتى سقوطها إثر الهزيمة في الحرب العالمية الأولى.