الجمعة 7 يونيو 2024

جامع سليمان الخادم .. رمز العمارة العثمانية بمقر حُكم مصر المملوكية

فن1-11-2020 | 20:23

دخلت مصر في حوزة الإمبراطورية العثمانية منذ عام 923ه/1517م، ولم تخرج عنها على مدار أربعة قرون من تاريخها، وتشكل الآثار المعمارية القائمة في تلك الفترة ثمرة التفاعل بين طائفة الأتراك الحاكمين والشعب المصري بمختلف فئاته. ولما كانت العمارة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحُكم والسياسة؛ فقد انطبعت التحولات السياسية الجديدة في مصر على حركة البناء والعمران، فبعد أن تحولت مصر من دولة مملوكية مستقلة، إلى ولاية عثمانية تابعة.. صار الطراز العثماني الوافد في المعمار الإسلامي شكلاً من أشكال فرض السيادة العثمانية على أرض مصر، وتوطينًا شرعيًا لوجودهم في بلاد النيل، وانعكاسًا للذائقة العثمانية في العمارة والفنون. وبالنظر لحقيقة أن المساجد تعد أهم أنماط العمائر الإسلامية قاطبة، ومرآة تعكس قيم المجتمع القائمة به وذائقته المعمارية والفنية؛ صار مسجد "سليمان باشا الخادم"، أول المساجد المشيدة في مصر على الطراز العثماني، ناقلاً لرسالة ذو مضمون سياسي، بوجوده في قلب مقر حكم مصر.. قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة المعزية. 


الموقع والتاريخ


يقع الجامع بجوار الأسوار الشمالية الشرقية لقلعة صلاح الدين الأيوبي على هضبة المقطم بمدينة القاهرة، ويحمل رقم أثر 142 في عداد الآثار الإسلامية بالعاصمة المصرية((. ويعتبر اسم "مسجد سارية الجبل" أقدم تسميات المسجد وأشهرها، وردت تلك التسمية تيمنًا بقصة الصحابيّ الجليل "سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله"، قائد الجيوش الإسلامية في عهد الخليفة "عمر بن الخطاب" رضى الله عنه. ويرتبط المسجد بمؤسسه الأمير "أبو منصور قسطة"، أحد غلمان أمير الجيوش "بدر الجمالي" في زمن المستنصر بالله الخليفة الفاطمي، وقام ببناء مسجد عام 535ه/1140م في موضع بعيد عن القاهرة وزحامها على جبل المقطم، قبل أن تشّيد قلعة صلاح الدين الأيوبي في هذا الموضع، وأطلق على المسجد اسم "سارية الجبل". ويُذكر أن للجامع مسمى ثالثًا ظهر خلال العصر المملوكي؛ حيث أطلق عليه اسم مسجد "الرديني" نسبة إلى الشيخ أبو الحسن الرديني الفقيه المحدث، والذي نقل مجلسه العلميّ إليه. وقد شهد المسجد في العصر المملوكي صلحًا بين السلطان المملوكي برقوق والخليفة العباسي الذي كان مقيمًا بمصر آنذاك، مما يدل على أهمية المسجد ومكانته بين مساجد قلعة الجبل((. ويُعرف المسجد حاليًا باسم "جامع سليمان باشا الخادم"، وهو الوالي العثماني الذي جدده وأعاد بناءه، ووجدها فرصة سانحة لنسبته إليه.


العمارة في خدمة السلطة السياسية: مسجد سليمان الخادم في قلعة الجبل


تميز العصر العثماني بكثرة إنشاء المساجد الجامعة بصفة خاصة، بعد التغيير المذهبي الذي شهدته مصر منذ عهد السلطان العثماني سليمان القانوني. وقد كان القضاء وشئون التشريع الإسلامية في مصر في العصر المملوكي في يد قضاة المذاهب الفقهية السنية الأربعة، ثم تحولت مصر في العصر العثماني إلى المذهب الحنفي، وصار  هو المذهب الرسمي للدولة المصرية. 


ويعتبر جامع سليمان باشا أول مسجد جامع على المذهب الحنفي بُنى على الطراز العثماني الوافد في مصر تشبهًا بعمارة المساجد في إسطنبول العاصمة الإمبراطورية العثمانية، فشرع "سليمان باشا الخادم"، الوالي العثماني على مصر في عهد السلطان سليمان القانوني (926-974هـ/ 1520-1566م) في إعادة بنائه وإعماره عام 935هـ/ 1528م(( وقد وليّ سليمان الخادم على مصر لفترة تربو على العشر سنوات، كانت فترة ولايته متممة لمحاولات المماليك للاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، ودخول طوائف من الفرق العثمانية لمصر لتثبيت أركان ودعائم الدولة العثمانية الجديدة، وسكنهم بقلعة صلاح الدين الأيوبي، مقر حُكم مصر. وقد دعت الحاجة إلى تشييد سليمان باشا لمسجد جديد في القلعة، فقد كان مسجد القلعة المملوكي "جامع الناصر محمد بن قلاوون" قد تخرب على يد جنود السلطان سليم الأول ونهبت بعض أعمدته ولم يعد يصلح للصلاة. 


لذا، جاء تخطيط المسجد على طراز العمارة العثمانية الخالصة المشهود في أرجاء الدولة العثمانية التركية لأول مرة في مصر، وفي قلب قلعة القاهرة؛ مقر حُكم مصر، وموضع سكن الوالي العثماني، لإثبات الهيمنة الجديدة على مصر، في فترة مضطربة بالثورات ومحاولات الاستقلال والاضطرابات القائمة في البلاد من قبل المماليك أو المصريين أو الطوائف المختلفة من الجند العثمانية، ولتأكيد قوة التيار الجديد الوافد على عمارة المنشآت الإسلامية في القاهرة. 


وقد خُصِص مسجد سليمان الخادم للصلاة لطائفة من الجنود العثمانية المقيمين بداخل قلعة صلاح الدين تُعرف بـ "الانكشارية"((، ولكي يظلون بمعزل عن طائفة أخرى من الجنود العثمانية أيضًا الملقبة بـطائفة "العزب"(( الذين كانوا يقيمون بالجانب الآخر من القلعة، وكانت الاشتباكات تندلع بينهما بشكل مستمر في القلعة، فوجب الفصل بينهما في السكن وموضع الصلاة. لذا، كان للانكشارية جامع سليمان الخادم .. وكان لجند العزب جامع أحمد كتخدا العزب غرب القلعة((.


المكونات المعمارية لمسجد سليمان الخادم


يتبع جامع سليمان الخادم بالقلعة التخطيط المعماري الوافد على مصر، وهو الطراز الكلاسيكي التقليدي المميز للعمارة العثمانية، ويتألف من قسمين؛ أولهما مكشوف وهو حرم المسجد، وثانيهما مسقوف وهو بيت الصلاة. يقع القسم الأول جهة الشمال، ويتكون من صحن مكشوف تحيط به الأروقة من جهاته الأربع، وكل رواق مسقوف بأربع قباب ضحلة ترتكز على دعامات من الحجر، ويٌعرف هذا الجزء في التخطيط العثماني للمساجد بـ"الحرم".

ويشغل القسم الجنوبي من المسجد بيت الصلاة الذي يتصل بالصحن المكشوف، ويغطى بيت الصلاة قبة كبيرة من الحجر، ويحيط بها من جهاتها الثلاث ثلاثة إيوانات مغطاة بأنصاف قباب صغيرة، فاتخذ تخطيط المسجد شكل حرف T معكوس، وهو التخطيط الذي يماثل عمارة جامع بورصة الكبير بتركيا. ويعد هذا الطراز من التسقيف لبيت الصلاة من خصائص العمارة العثمانية؛ إذ لم ينتشر هذا التخطيط في مصر، ولا نجد له مثيلاً سوى في مسجد الملكة صفية الذي أُنشئ في عام 1019ه/1610م، وجامع محمد علي باشا المشيد في القلعة عام 1246ه/ 1830م((.


ويضم بيت الصلاة بمسجد سليمان الخادم منبر افريدا، مبنيا من الحجر ومكسوًا بالرخام الأبيض، وهو مكون من تسع درجات حجرية، منقوش الجوانب بزخارف محفورة هندسية ونباتية مورقة ومذهبة. ويعد المنبر الأول في مصر في المساجد العثمانية المشيد على التقاليد التركية في البناء؛ حيث يتميز منبر جامع سليمان باشا بملامح عثمانية في زخارفه المذهبة، وألوانه الزرقاء والخضراء. ويوجد بمنتصف الجدار المواجه للقبلة دكة المبلغ التي تستخدم لتبليغ الصلوات خلف إمام المسجد((.


بينما تقع المئذنة على يسار الواجهة، منفصلة عن كتلة المبنى، وملاصقة للمدخل الرئيسي، وهي ذات قاعدة مربعة قليلة الارتفاع، تتصل بالبدن الأسطواني الخالِ من الزخارف، ويتوج  المئذنة قمة مخروطية مدببة تغطيها ألواح من القاشاني الأخضر، وهو الطراز الذي يميز المآذن العثمانية عن غيرها، وتلك المئذنة هي أولى المآذن التي أقيمت على الطراز العثماني في مصر((.


أُلحق بالصحن من الجهة الغربية مدفن للمسجد يضم عدة قبور، ومنها قبر أبو منصور قسطة مشيد المسجد الفاطمي الأصلي. كما يحتوي المدفن على مجموعة من التراكيب الرخامية ذات شواهد تنتهي بنماذج مختلفة لأغطية الرأس للتمييز  بين قبور الرجال والنساء، وقد كانت رءوس شواهد القبور التي تتخذ نهايتها عمامات الرأس من التقاليد التي كانت منتشرة في العصر العثماني.


وتمتاز قباب المسجد بتغطيتها الخارجية بالقاشاني الأخضر الذي يكسو القبة المركزية ببيت الصلاة وأنصاف القباب حولها، وزينت تلك القباب من الداخل بزخارف نباتية مستقاة من الفنون الزخرفية العثمانية، ويتخللها نصوص كتابية بخط الثلث ((.


ونظرًا لأن للمسجد مكانة خاصة لدى العثمانيين؛ لكونه أقدم وأول جامع عثماني شُيد بالقاهرة مما جعل الكثير من الزائرين الذين مروا المسجد لديهم رغبة في تسجيل كتابات تذكارية لهم. ويُنسب أبرز تسجيل كتابي في مسجد سليمان الخادم لوالي مصر المحروسة، محمد علي باشا، وفقًا للنص الكتابي الذي يؤرخ لزيارته للمسجد في ١٥ من شهر ذي الحجة سنة ١٢٦١ه (حوالي١٨٤١م).


وهكذا، كانت العمارة وستبقى سجلاً يُقرأ فيه تاريخ العصر الذي سايرته، وتنطق أحجارها بلسان تعاقب الزمن والأحداث، ولقد حملت تلك البقعة من أرض جبل المقطم - تاريخًا انعكس في مسميات متعددة، فهو جامع سارية الجبل في معتقد عموم أهل مصر الذين شغفهم آل البيت الكرام وصحابتهم وتابعيهم حبًا، وهو مسجد منصور أبو قسطة الفاطمي مشيد المسجد الذي تواري اسمه، كما وارى جسده الثرى. وهو موطن حل معضلات الحُكام في العصر المملوكي. وتُعد بصمة سليمان باشا الوالي العثماني الأبقى والأظهر، فلا تزال العناصر المعمارية والزخارف الفنية على النسق العثماني باقية لليوم في عمارة المسجد، تشهد بتقلب الأحوال السياسية، واختلاف المذاهب الدينية، في أرض تعاقب عليها تاريخ الأمم والسلاطين كما هي سنة الله في الأرض، وبقيت هي .. أرض مصر.