الأربعاء 27 نوفمبر 2024

فن

محمد عبده ، أحمد شوقي ، سعد زغلول .. لماذا دافع هؤلاء عن الاستعمار العثماني لمصر؟

  • 1-11-2020 | 20:23

طباعة

العديد من الشخصيات البارزة قبل انقلاب عام 1952 كانت مؤيدة بشكل أو بآخر ، بدرجة أو أخرى "الاستعمار العثماني" لمصر، منهم الشيخ أو الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية والذي يعتبره كثيرون مجدداً إسلامياً مهماً! قال عن الاستعمار العثماني في رسالة بعثَها إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني: "إن من له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله.. إن للخلافة الإسلامية حصونًا وأسوارا، وإن أحكم أسوارها ما استحكم في قلوب المؤمنين من الأخوة والثقة والحمية للدفاع عنها".

الاحتلال العثماني لمصر، ثالثة عقائد الإسلام في رأي محمد عبده!! 

هذا الدفاع المجيد عن استعمار مصر وغيرها من قبل العثمانين لم يكن قاصراً فقط على الإسلاميين والإخوان، كان هناك قطاع من النخبة قبل 1952 يؤمن أيضاً بأيديولوجيا الإسلام السياسي، أيديولوجيا الخلافة، حزين لسقوط الاستعمار العثماني لمصر، منهم على سبيل المثال مصطفى كامل (أيقونة الوطنية المصرية كما قدموه لنا) الذي كان يرى أن العلاقة بالدولة العثمانية علاقة متينة لا يجب أن تنفصل بأي حال من الأحوال. كان يدين بالولاء والتبعية للسلطان العثماني عبدالحميد الثاني الذي يصفه بأنه "أمير المؤمنين" و"خليفة رب العالمين" و"فخر آل عثمان، وفريد عقد السلاطين العظام مولانا السلطان الغازي عبدالحميد خان" و"خليفتُنا المحبوب السلطان الجليل القدر عبدالحميد خان الثاني"، ويُطلق على اسطنبول "عاصمة الإسلام والخلافة". في شهر يونيو 1899 أنعم عليه السلطان عبدالحميد الثاني برتبة البكوية فصار لقبه مصطفى بك كامل.  

مصطفى كامل لا يرى أن السلطان عبدالحميد خليفة رسول الله فقط، ولكن خليفة الله مباشرة!!، وهو الذي روجت له السينما والتاريخ الذي تعلمناه في مدارسنا بأنه محارب "الاستعمار الإنجليزي"، ولكن واضح أنه كان يريد الاحتلال التركي بدلاً منه، لمجرد أنهم مسلمين. بل ويصف من يثورون ضد الأتراك لتحرير بلادهم  بأنهم "ثوريون خونة"، يقومون بأعمال تخريب وتهييج بأوامر الخارج، لذا ينبغي العداء والانتقام منهم بكل ما في الجهد والاستطاعة. 

هذا المنطق كان لابد أن ينتهي إلى قول مصطفى كامل "إن بقاء الدولة العلية ضروري للنوع البشري" وإن "زوالها لا قدر الله يكون مجلبة للأخطار، أكبر الأخطار ومشعلة لنيران يمتد لهيبها بالأرض شرقاً وغربًا". 

الغرام بالاستعمار التركي، واعتبار الأتراك هم الذين سينقذون العالم، طال أيضاً أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب قصيدة مطولة في رثاء هذه الإمبراطورية، هذه بعض أبيات منها:  

ضجت عليكِ مآذن ومنابر

وبكت عليكِ ممالك ونواح

الهند وَالِهة ومصر حزينة

تبكي عليكِ بمَدمَعٍ سحَاح

نزعوا عن الأعناق خير قلادة

ونَضَوا عن الأعطاف خير وشاح

كل هذه البكائية على انهيار الاستعمار العثماني وإمبراطوريته الذي تحررت منه مصر وطنَ أمير الشعراء! ثم يضيف "أمير الشعراء" عن رابطة الخلافة (أي الاستعمار) كيف أنها فصمت عراها وقد كانت أكبر علاقة تصل الأخ بأخيه وتجمع الأرواح إلى بعضها، وأنها كانت تنظم المسلمين بنظام واحد وصف واحد في جميع الأحوال، وبين أن هذا العمل إنما فعله شرير سيء الخلق قليل الحياء قائلاً:

أفتى خُزُعبَلة وقال ضلالةً

وأتى بكفرٍ في البلاد بَراحِ

ثم ينحى باللائمة على الأتراك لسكوتهم عنه فيقول :

إن الذين جرى عليهم فقهُه

خُلقوا لفقهِ كتيبة وسلاح

إن حَدّثوا نطقوا بخُرْسِ كتائب

أو خوطبوا سَمِعوا بصمّ رماح

ستلاحظ أولاً  أن" أمير الشعراء" يتحدث مثل أي "إخواني" و"إسلامي" في زمننا، فهو يعتبر الاحتلال العثماني جزءاً من الدين، وأن القضاء عليه هو قضاء على الدين، ويكفر أمير الشعراء من يخالفونه، والسبب أن هذا المحتل "مسلم"، فهو لا يعتبره احتلالاً مثلما قال لي مهدي عاكف المرشد السابق للإخوان. 

في ظل هذه الثقافة المهووسة بـ"الخلافة" واستعادتها، صدر كتاب بعد عام واحد من سقوط الدولة العثمانية هو "الإسلام وأصول الحكم" للأزهري الشيخ على عبدالرازق، ليقطع الطريق على الملك فؤاد وكل من يحلمون باستعادة هذه الإمبراطورية الاستعمارية، فهو يقضي على فكرة الخلافة من أساسها. لأنه يقول باختصار إن الإسلام دين وليس دولة أو خلافة، وإن سيدنا النبي كان رسولاً وليس ملكاً، وإنه لا يوجد في القرآن ولا في الأحاديث ما يدعم أن الإسلام دولة وخلافة.

بل ويضيف الشيخ الجليل: "ليس بنا حاجة إليها لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين".

فماذا كان رد فعل حزب الوفد"الليبرالي ":

حسب كتاب "سعد زغلول.. ذكريات تاريخية" لمحمد إبراهيم الجزيري، فإن زعيم ثورة 1919، وزعيم حزب الوفد لم يعترض على نشر الكتاب، لكنه هاجمه قائلاً : كيف يكتب عالم دينى هذا الكلام فى مثل هذا الموضوع؟! الرجل جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدَّعى أن الإسلام ليس دينا مدنيا ولا هو بنظام يصلح للحكم؟ فأي ناحية من نواحى الحياة لم ينص عليها الإسلام؟.  يستكمل سعد زغلول منتقدا : "أولم يقرأ أن الأمة حكمت بقواعد الاسلام عهودا طويلة كانت أنضر العصور؟ كيف لا يكون الإسلام مدنياً ودين حكم؟".

ويضيف: "الذى يؤلمنى حقًا أن كثيرًا من الشبان الذين لم تقو مداركهم فى العلم القومى والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد سيتحيزون لمثل هذه الأفكار خطأ كانت أم صوابا، دون تمحيص ولا درس". ووصل هجوم سعد إلى درجة اتهام كتاب علي عبدالرازق بـ"هدم قواعد الإسلام الراسخة".

في هذه النقطة تسمع سعد زغلول وكأنك تسمع إحدى قيادات الإخوان أو داعش أو القاعدة فهو يعتبر أن  الاستعمار التركي جزء من الدين، لأنه هو الذي أقام دولة الإسلام، رغم أن سعد زغلول كما جاء في مذكراته لم يكن متديناً بالمعنى السائد، ومع ذلك كان أسير "نسخة الإخوان" من الإسلام، التي تعتبره دولة وخلافة. 

سعد زغلول قال إن قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي من زمرتهم قرار صحيح، ولا عيب فيه، لأن لهم حق صريح بمقتضى القانون، أو مقتضى المنطق والعقل، أن يخرجوا من يخرج على أنظمتهم من حظيرتهم، فذلك الأمر لا علاقة به مطلقًا بحرية الرأي.

لكن لحسن حظ مصر كان هناك رأي مخالف لسعد زغلول، عبد العزيز فهمي باشا، الذي استقال من حزب الوفد في ديسمبر 1920، وشارك في تأسيس "الأحرار الدستوريين" ثم تولى رئاسته، كان يشغل حينها وزيرًا للحقانية (العدل حاليًا)، وعندما جاءه قرار شيخ الأزهر بعزل مؤلف الكتاب ليصدِّق عليه بصفته، رفض التوقيع، ورد: لم أجد فيه أدنى فكرة يؤاخذ عليها مؤلفه، ثقُل على ذمتي أن أنفذ هذا الحكم الذي هو ذاته باطل لصدوره من هيئة غير مختصة بالقضاء، وفي جريمة الخطأ في الرأي من عالم مسلم يشيد بالإسلام.

كان رئيس حزب "الأحرار الدستوريين" وقتها يرى أن  كتاب على عبدالرازق تعرض للتأويل وسوء الفهم، وهاجم كل من اتهمه بالخروج من الإسلام. لكن تسبب موقف عبدالعزيز فهمي في نقله من الإشراف على وزارة الحقانية، فجاء القرار الحزبي من "الأحرار الدستوريين" برفض تهميش "فهمي"، واستقال كل وزرائهم من الحكومة .

محمد حسين هيكل (تولى لاحقا رئاسة حزب الأحرار الدستوريين) أعطى للصراع حول "الخلافة" بعداً آخر حينما قال: تريد إنجلترا أن يكون هناك خليفة، وأن يكون هذا الخليفة واحدًا من الملوك أو الأمراء الواقعين تحت نفوذها.. حيلة سحرية تستطيع جمع كل القوى حول الملك فؤاد لتصفية بقايا ثورة 1919م. وبتلك الحيلة نفسها تستطيع إنجلترا أن تكسب المسلمين في الهند وتبعدهم عن فكرة غاندي الداعية للوحدة بينهم وبين الهندوس، ولذلك ضحى الإنجليز بعلاقتهم القوية مع حزب الأحرار الدستوريين، وتخلوا عن مناصرة الشيخ على عبدالرازق. 

ستلاحظ هنا نقلة نوعية، فهكيل يرفض الاحتلالين، التركي والإنجليزي، ويرى أن الإنجليز يريدون استخدام فكرة "الخلافة" لمنع استقلال الشعوب التي تحتلها.

لكن ولحسن حظ مصر مجدداً، تم إعادة الاعتبار للشيخ على عبدالرازق، فقد تم تعيينه وزيراً  للأوقاف، ما بين 28 ديسمبر سنة 1948م و25 يوليو سنة 1949م في الوزارة التي رأسها إبراهيم عبدالهادي باشا. كما شغل عضوية مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، وعين عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة. لكن مع ذلك فكتاب الرجل واجتهاده العظيم لم يتم تدريسه في الأزهر أو غيره وطواه إلى حد كبير النسيان.

كانت النخبة السياسية في معظمها تدافع عن "الخلافة الإسلامية"، المشروع الاستعماري المنسوب للإسلام، وتدافع عن حق الأتراك في احتلال مصر لأنهم مسلمين. كانوا غارقين في أيديولوجيا استعمرت مصر أكثر من 1400 عام، ونجحت  طوال هذا الزمن الطويل أن ترسخ هذا النوع من الإسلام، في وجدان وعقول كثير من نخب المجتمعات التي احتلتها. فقد كانوا مؤمنين بأن "الإسلام الاستعماري هو الإسلام"، أي "إسلام" العنف والإكراه والإرهاب. وللأسف لا يزال كثير من بيننا يؤمنون بهذا النوع من الإسلام، الإسلام دولة وخلافة في مؤسساتنا الدينية وخارجها.

لكن لحسن الحظ كانت هناك أصوات لا تؤمن بذلك وترى أن مصر للمصريين مثل الدكتور طه حسين وبعضاً من النخبة. وكان يمكن أن تتطور هذه الرؤية التي تنهي أسس هذا الاستعمار لمصر باسم الإسلام. لكن للأسف جاء انقلاب 1952 بقيادة جمال عبدالناصر ليفرض بالقوة على مصر أيديولوجيته، وهي خليط بين ما يسميه "القومية العربية" و"الإسلام"، أو بتعبير آخر نسخة مخففة من "إسلام الإخوان"، فهي بشكل أو بآخر نوع من استعادة الحلم الإمبراطوري الاستعماري "الخلافة" لكن في البلاد الناطقة بالعربية وتحت شعار قومي أولاً وديني ثانياً.

هذا التماهي والغرام مع محتل لأنه "مسلم"، وهذا الكره المقدس للمحتل غير المسلم. وهذا الهوس بالخلافة كان وما زال جزءاً من الثقافة الإسلامية التقليدية في مصر وفي البلاد ذات الأغلبية من المسلمين، بل يمكنك القول إنها النسخة السائدة من الإسلام، وهي طبق الأصل من نسخة الإخوان، وهي النسخة التي يحلم أردوغان بنشرها لكي يستعيد مجد "العثمانيين". رغم أن هناك اجتهادات إسلامية لا أول لها ولا آخر، تقول إن الإسلام ليس دولة ولا خلافة، فهو دين عظيم فقط لاغير. فمتى تصبح هذه الاجتهادات هي الأساس في مدارسنا وجامعاتنا وفي كل مكان .. حتى نخرج من المستنقع الإخواني.

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة