الإثنين 20 مايو 2024

في صياغة التاريخ العثماني والسياسة التركيَّة المُعاصرة

فن1-11-2020 | 20:24

لطالما كان التاريخ ميدانًا خصبًا للصراعات الأيديولوجيَّة والشُّعوبيَّة، وامتداداتها المُختلِفة بحسب عُمقها وارتباطاتها الوقتيَّة، لذا فإنه من المهم أن يُرافق الخوض في المفاصل المُلتهبَّة تاريخيًا؛ عمليَّة تفكيكيَّة لفهمِ الماضي والحاضر، ورسم سياسات المُستقبل.

 

ولو أننا أمعنّا النَّظر فيما نُعاصره من أحداث حاليَّة في الشَّرق الأوسط؛ سنجد أن كثيرًا من تفاعلاتها ذات ارتباطات وثيقة بالتاريخ الحديث، سواءً البعيد منه أو القريب، يؤكد ذلك ما تُمارسه الحكومة التُّركيَّة الحاليَّة من خلال حزبها الحاكم (العدالة والتنميَّة)، وما تفرضهُ من توتر مُتعمَّد في المنطقة العربية بشكلٍ واضح ومدروس، مُحاكاةً للماضي التُّركي العُثماني.


فالعثمانيون الجُدُّد ينتهجون سياسة (حصان طروادَّة) في فرض حالة من التَّوتُر في الدَّاخِل العربي، على غرار ما فعله القُدماء منهم في اتخاذ السياسة ذاتها لفرض صورة تاريخية نمطيَّة في قناعات المؤرخين العرب قبل الأتراك.


والتَّجرُبة العُثمانيَّة القديمة قد تكون حقَّقت شيئًا من النجاح في توجيه مجموعة من المؤرخين والكُتَّاب العرب وفق ما تتأملُّه من رسم صورة تاريخيَّة إيجابيَّة، على رُغمِ فشلها السياسي على الميدان بمواجهة الكيانات السياسية العربية التي طردتها من وطنها، باعتبارها دولة مُستعمرَة، استنزفت كل ما هو عربي لأربعة قرون من التاريخ تقريبًا.


الحكومة التُّركيَّة اليوم؛ تُحاول أن تستنسخ التَّجرُبة العُثمانية بشكل أكثر تطورًا وفاعليَّة، لتلافي الفشل السياسي السابق، وذلك باستخدام الأسلوب القديم ذاته، لكن هذه المرة بتوظيف الأيديولوجيا أكثر من التاريخ في العالم العربي بما يخدمها ويمكنها من تحقيق أهدافها، سواءً بالسيطرة وفرض الحالة العنترية، أو باستدرار الاقتصاد العربي لمصلحتها الخاصة، خاصةً وأن الميدان التاريخي قد صيغ ولا حاجة للتأكيد عليه أو الخوض فيه بعمق، حتى لا تهتز الصورة المرسومة والمُفتعلَّة سابقًا، بمزيدٍ من البحث والكشف عن تلك الحالة الافتراضية للتاريخ.

لذلك نجد أن الاندفاع من الطرفين التُّركي والعربي المُؤدلَّج خلال السنوات الأخيرة المُعاصِرة بات مفضوحًا، ويُمارس بشكلٍ علني في العمل المُمنهج والمُشترك، الأمر الذي عمل على عزل تلك التيارات العربية المتأترِكة والمتأدلِّجة أمام رجل الشارع المُتابع للمشهد، الذي وعى بأن كثيرًا من الطَّرح والتلميع للجانب التركي المعاصر أو الماضي العثماني، ما هو إلا تكريس لمزيدٍ من التمكين للتطرُّف بشقيه الديني والسياسي، لتحقيق المكاسب استنزافًا لكل ما هو عربي؛ ولو أننا فقط لفتنا النظر إلى ما يُمارس من تركيا في دعم الجماعات المُتطرِّفة، سواءً كانت على هيئة أحزاب أو جماعات وميليشيات، فإن ذلك يدلّ على بيان الأهداف الاستعمارية وفرض حالة الوصاية، كما هو مُمارس حاليًا في الانبطاح الحكومي القطري، أو العدوان على المنطقة العربية في ليبيا. 


ما لم يتم التنبُّه له من قبل الحكومة التركية ولا الجانب المُتطرِّف العربي؛ أن تتم حالة الكَشف عن التاريخ الحقيقي للأتراك، بعيدًا عن الافتراضية التاريخية، الذي تتم محاكاتها حاليًا بأدوات متشابهة مع الماضي. ومن أكثر الأمور المُزعجة لهذا التكتل المُتطرِّف، أن تتم إعادة قراءة الفكر والتاريخ الإسلامي والعربي من جديد، الذي يكشف حقيقة الدولة العثمانية، وينسف حالة التباكي على فردوسها المزعوم، ويُبيِّن ماضيها البغيض في العالم العربي، الذي كان استعمارًا حقيقيًّا باسم الدين، ولم يُورِث سوى التخلُّف والجهل.

 

ولو أننا أردنا أن ننقض الزَّيف التاريخي، فإنه يجب علينا أن نعي المراحل التي مرَّت بها كتابة التاريخ العُثماني في الفترة الحديثة، من خلال شخوص مُثلُّوا للمُتخصِّصين على أنهم مثاليون وإسلاميون في الوقت ذاته، وذلك من خلال تفسيرهم الديني للتاريخ بما كان يخدم العثمانيين. 


"المُحامي" من أوائل "مؤدلجي" التاريخ العُثماني:

 

ومن أبرز أولئك المؤرخين، محمد فريد بك المُحامي، الذي صوَّر الدولة العثمانية على أنها تمثل قوة رمزيَّة للإسلام ومرحلة المجد فيه من خلال كتابه (تاريخ الدولة العليَّة العُثمانيَّة)، الذي اكتسب قوةً وعمقًا باعتباره أحد الزعماء الوطنيين في مصر بداية القرن العشرين، في الفترة التي توافقت مع تسارع انهيار دولة العثمانيين وغرقها الأخير، وتشبثها بأي خطة إنقاذ كان آخرها (الجامعة الإسلامية) التي نادى بها عبدالحميد الثاني، وباعتبار أن المُحامي مُرتبطٌ بالحزب الوطني، الذي كان بدوره منتميًا للدولة العثمانية سعيًا للخلاص من الاحتلال البريطاني، لذلك جاء تصوير المُحامي لـ "العُثمانية" بمثاليَّة إسلاميَّة لأهدافٍ آنيَّة في وقته، ولظروف سياسية ربطته بدولتهم، فصارت كتاباته افتراضيَّة بما يتواءم مع كونه يمثل وجهة النظر الرسمية للدولة العثمانية. 

وحينما نقول إن ما كتبه المُحامي افتراضيًا؛ فلأنه تجاهل مُتعمِّدًا حالة التَّدهور والخراب والإهمال التي أحدثها العثمانيون في العالم العربي ومصر تحديدًا منذ استعمارهم لها في عهد سليم الأول إلى وصول محمد علي باشا إلى ولاية مصر ومن ثم استئثاره بها عن العثمانيين، حين عمل على إحياء النهضة فيها، بعد أن عانت قرونًا من التجهيل المُفتعل.

 

محمد فريد بك لم يستطع إخفاء هدفه الذي أعلن عنه كأساس لكتابه، بالتأكيد على فكرة أن العثمانيين جاءوا بقَدَرٍ إلهي لإنقاذ الأمة الإسلامية، فيما أنهم في حقيقة الأمر جاءوا برائحة الموت وأشبعوا الأرض بالجثث العربية، التي قُتلت من دون أدنى ذنب، سوى أنها إما كانت مُدافعة عن أوطانها، أو لكونها كانت في طريق الغُزاة العابثين في الشوارع العربية، فلم يكونوا يُفرِّقوا بين مُقاتل ولا رجل مُسالم أو شيخ وطفل أو امرأة، كما لو كان الموت والقتل قسمًا عليهم أتوا ليبرّوا به بين الأبرياء.

 

وبناءً عليه فإن محمد فريد الذي يُعدُّ من أبرز الحجج للمدافعين المتخصصين عن الدولة العثمانية، كتب التاريخ من منطلق أيديولوجي صِرف، وكان ينافح بذلك عن قضية سياسية أكثر من كونه كاتبًا وواعيًا للتاريخ على حقيقته أو مُتحريًّا له، لذلك كتب التاريخ العثماني بتنقيته من الجرائم علَّه يُحقق شيئًا من الإنقاذ لواقعٍ كان يُعايشه. 


"الشِّنَّاوي" مؤرخ الاتجاه الإسلامي بعد ستينيَّات القرن العشرين: 


وبعد هذا النموذج الذي صاغ التاريخ بشكلٍ افتراضي أيديولوجي، أخذ الإسلاميُّون المُتحزِّبون بشكلٍ مُتطرِّف هذا المنهج على أنه الأسلم والأنفع لقضيتهم، فبعد علوّ النَّبرة الإسلامية أعقاب 1967 أعيد بعث مثل هذا النَّهج، وتصوير الدولة العثمانية على أنها تُمثل دولة الخلافة الإسلامية، على الرغم من تناقضات هذا الزَّعم لخُلفاء لا تنطبق عليهم الشروط الفقهيَّة في الولاية العامة للناس، التي تتلخص في مناقضتهم لشرط النسب القُرشي باعتبارهم أتراكًا، ولكونهم دخلوا العالم العربي والإسلامي كغُزاة بصورة قهرية تتناقض مع مبدأ الشورى. ونتيجةً لهذا التوجُّه، بدأت استثارة القضيَّة الفلسطينية كمدخل مهم في استنهاض العاطفة التاريخية بما يتوافق مع العثمانيين، والتغني ببطولة عبدالحميد الثاني المزعومة بحيلولته دون هجرة اليهود إلى أرض فلسطين، مقابل أن اليهود كانوا على مرِّ التاريخ العثماني كالطفل المُدلَّل بالنسبة للعثمانيين، بدءًا من احتوائهم لهم بعد سقوط الأندلس إلى تسليمهم اقتصاد الدولة ودعمهم لهم في كل مجال، في حين أن العثمانيين لم يقوموا بدورهم الإسلامي تجاه مسلمي الأندلس كما قاموا بدورهم تجاه اليهود، وكانت أبرز الكتابات التي توافقت مع هذه الفترة، ما ألَّفهُ عبد العزيز الشنَّاوي (الدولة العثمانية دولة إسلامية مُفترى عليها) في أربعة أجزاء، تبيَّن فيه هدفه من عنوانه بالتركيز على البُعد الديني، والتأكيد على حالة الافتراء التاريخي تجاه العثمانيين، إذ حصرَ كتابه في اتجاه واضح، موجه لجمهور مُحدَّد متوافق مع المرحلة التي صدر فيها الكتاب، كما وقف بشكلٍ مُضاد لاتجاهين كتبا التاريخ العثماني قبله: المستشرقون، والقوميون العرب، أما ما كتبه ردًا على المستشرقين فكان استجابة انفعاليَّة ذات بُعد إسلامي في مواجهة ما أُلِّف من المستشرقين عن العثمانيين، بينما أنه من الطبيعي أن تكون وجهة النظر الغربية مضادة للتاريخ العثماني، باعتبار حالة الصراع التاريخي والسياسي، وبالتالي فإن القارئ المُتخصِّص يعي بشكلٍ جيد أبعاد هذه الكتابات ودوافعها، ويستطيع أن يُميِّز الحقيقي منها والمُفتعل أو المُزيَّف، غير أن أمرًا كهذا لم يكن مطروحًا في أجندَّة الإسلاميين المُتأثرين بمناخ نهضوي جديد، وبعث لإحياء الوصاية الفكرية، فراحوا يعمقُّون نظرية المؤامرة، وكان التاريخ ميدانًا خصبًا لهم في هذا الاتجاه لاستعراض قواهم في تفنيد ما لا يحتاج لمزيدٍ من البحث، باعتبار أن ما كُتب عن التاريخ الإسلامي والعثماني من قبل المستشرقين المتأزمين، واضح وبيِّن، غير أن الأمر لم يقتصر على ردِّ الشُّبهة التاريخية المُفتعلة، بل تعدى إلى ردِّ أي سلبية عثمانية، سواءً أكانت مُفتعلة أم حقيقيَّة، هذا ما أرخى بظلاله على كتاب الشنَّاوي، إذ جاء طرحه باستثارة الشُّبهة وردَّها أو تبريرها من باب الدِّفاع.

 

أيضًا لم يقتصر الشنَّاوي في دفاعه ضد المستشرقين، إذ وقف الموقف ذاته ضد القوميين العرب ممن ألَّفوا وكتبوا التاريخ العثماني، وراح يصوِّرهم كعامل هدم رئيسي للدولة العثمانية، وبأن الاستعمار استغلهم في سبيل تحقيق أهدافه، وهو بذلك يتهمهم بشكل غير مباشر بالخيانة للأمة الإسلامية، وراح يستعرض رحمة العثمانيين بالعرب وحمايتهم لهم على مرِّ تاريخهم في العالم العربي من الأخطار الخارجية. 


ونحن هنا لسنا بصدَّدِ الدَّفاع عن المؤرخين القوميين بقدر ما نود أن نؤكد على أن ما كتبه الشنَّاوي من تعدَّاد لمآثر العثمانيين في الوطن العربي ردًا عليهم، ما هو إلا حالة من التغاضي المُتعَمَّد لجرائم الدولة العثمانية ضد العرب، بهدف التأكيد على التفسير الديني للتاريخ، وتجاهل العذابات العربية مقابل دعم المدَّ الإسلامي الناهض في فترة ما بعد 1967م، لأن مُجرّد الاعتراف بأيٍّ من الجرائم التاريخية للعثمانيين، قد يشوِّه الاتجاه الأُممي العام، الذي كان يحيا فترة صعوده وعلو نبرته. 


وإلا فتلك التفاصيل الدقيقة التي طرحها عبدالعزيز الشنَّاوي في كتابه الضخم، تعمَّد ألا يُضمن فيها ما أحدثه العثمانيون من فضائع تاريخية، سواءً حينما أسقط سليم الأول الشام أو مصر ومن ثم فرض سيطرته على أكثر أجزاء الوطن العربي بالقوةِ والقهر.

وبناءً عليه فإن من جاءوا بعد الشناوي وقبله المُحامي، انتهجوا النهج ذاته في الكتابة التاريخية، بعدم استثارة قضايا قد تشوِّه النظرة الإسلامية للتاريخ العثماني، وتنقض جهود مؤرخين كُثُر عملوا على تكريس صورة نمطيَّة عامة للعثمانيين، فكيف يوفق هؤلاء بين مجموعة من المتناقضات، فيما لو ناقشوا أو استثاروا قضايا الجرائم العثمانية ضد العرب؟

وهنا سنضطر إلى أن نورد مثالين فقط على هذه المتناقضات: 


المثال الأول: يقول الشناوي: "ومنذ مطلع القرن العشرين ارتفعت أصوات بعض الباحثين وأشباههم ممن ليست لديهم خلفية تاريخية سليمة وعميقة يصفون الاحتلال العثماني للعالم العربي بأنه كان شرًا مستطيرًا، ولعل أحدث هذه الأصوات ما كتبه بعض مستشاري الرئيس الراحل جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المُتَّحِدة في الميثاق الذي صدر في الحادي والعشرين من شهر مايو عام 1962، إذ قالوا إن هذا الاحتلال كان استعمارًا مقنعًا باسم الدين، والدين منه براء. وهم يجهلون أو يتجاهلون عدة حقائق مهمة، منها أن المجتمعات في العالم العربي وقتذاك كانت مجتمعات دينية إسلامية بكل ما تحمله هذه العبارة من مدلولات، وأن الوشيجة الدينية ربطت المسلمين من رعايا الدولة بالسلطان العثماني بعروةٍ وثقى على أساس أن السلطان كان الرئيس الأعلى لأكبر دولة إسلامية في العالم". (عبدالعزيز الشنَّاوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مُفترى عليها، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980)، 1: 25-26). 


ولو أننا فقط قمنا بتفكيك هذه الفقرة المُقتضبة من حديث الشنَّاوي، سنجد أنها تتعارض تمامًا مع الواقع التاريخي للعثمانيين في العالم العربي، وسياستهم ضد سكانه، إذ أن الشنَّاوي استخدم أسلوب الخُطبة الارتجالية، بعيدًا عن التاريخ الحقيقي، فحين يذكر بأن المجتمعات العربية دينية إسلامية وأنها مرتبطة بوشيجة الدين مع السلطان العثماني، فهذا حديث لا يمت للجانب العلمي بأيِّ صلَّة، إذ أن الواقع يقول إن العثمانيين استعمروا العرب بالقهر والقوة، يدلل على ذلك ما وصفه ابن إياس على سبيل المثال عن قهر العثمانيين للعرب بقوله: "وفي مدة إقامة ابن عثمان بمصر لم يجلس بقلعة الجبل على سرير الملك جلوسًا عامًا، ولا رآه أحد، ولا أنصف مظلومًا من ظالم في محاكمته، بل كان مشغولاً بلذته وسكره وإقامته في القياس بين الصبيان المُردة، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه. فكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء المماليك الجراكسة، وما كان له أمان إذا أعطاه لأحدٍ من الناس، وليس له قول ولا فعل، وكلامه ناقص ومنقوص لا يثبت على قول واحد". (محمد بن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى، ط3 (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2008م)، 5: 207-208). 

ويضيف أيضًا: "وأما عسكره فكانوا جوعاني العين نفسهم قذرة، يأكلون الأكل وهم راكبون خيولهم في الأسواق، وعندهم عفاشة في أنفسهم زائدة وقلة دين، يتجاهرون بشرب الخمور في الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكن غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجوامع ولا صلاة الجمعة إلى قليل منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة، وليس لهم نظام يعرف لا هم ولا أمراؤهم ولا وزراؤهم وهم همج كالبهائم". (ابن إياس، بدائع الزهور، 5: 208). 

وهنا لو أننا فقط حاولنا المُقارنة بين ما كتبه الشنَّاوي وما وصفه ابن إياس، فإننا لا يمكن أن نتخيل بأنهما يتحدثان عن موضوع واحد في النظرة التركية العثمانية تجاه العرب، وسياستهم تجاههم. وعلى الرغم من أن ما كتبه الشناوي عن العثمانيين والعرب يمثل نظرة تمتد لأكثر من أربعة قرون تقريبًا، فيما أن ابن إياس يصف ابتداء الحال مع العثمانيين، إلا أن الواقع الذي امتدَّ منذ البداية الأولى للعثمانيين في العالم العربي كان مريرًا، باستنزاف الثروة العربية، وجعل العرب في مرتبة أقل بكثير من العنصر العثماني التركي، وتعاملوا مع الولايات العربية بكل قهر وقوة وظلم، وقد يكون لموضوع واحد فقط ما يكفي عن ذكر مآسيهم، من خلال ولاتهم الفاسدين في الولايات العربية، وكتب التاريخ ووثائقه كفيلة بذلك لمن أراد الاستزادة حول ذلك. 


المثال الثاني:

وحتى لا نَغرق في النقولات، فإن الشنَّاوي أكد في كثير من مواضع كتابه على خدمة العثمانيين للحرمين الشريفين، فيما أن الواقع يقول إنهم خدموا الحرمين لهدف وحيد، وهو الدعاية السياسية لإمبراطوريتهم التي تفرض على أساسها مسؤوليتها على أكبر بقعة جغرافية من العالم الإسلامي، ومن ثم تُضفي عليهم طابعًا يجعل من سلطتهم محلَّ قداسة بحسب ما كانوا يسعون إليه.


وللتأكيد على أن العثمانيين لم يقوموا بخدمة الحرمين الشريفين بشكلٍ يوحي برغبةٍ جامحة، وخدمة للدين الإسلامي، فإنه لم يقُم أيُّ سُلطانٍ من سلاطينهم بزيارة الحرمين أو أداء فريضة الحج، وهذا مما هو ثابتٌ تاريخيًا، على الرغم من محاولات بعض المؤرخين تبرير ذلك بشكلٍ أو آخر، وإلا فإن خدمة الحرمين الشريفين تقتضي رعاية الحاكم لهما وزيارتهما والوقوف على ما يُقدَّم من خدمات يُعتبر مسؤولا عنها بشكلٍ مُباشر كما ألزم العثمانيون أنفسهم خلال فترة سيطرتهم على الحجاز، حتى أن هُنالك ما بحثه الكثيرون حيال مسألة الحج، ولعل في اغتيال عُثمان الثاني (1027-1031هـ/1618-1622م) لنيته الذهاب للحج، ما يُثير فضول الباحثين عن الحقيقة التاريخية، بل على العكس تمامًا، قاموا بما يجعل من تاريخهم في الحرمين مُخجلاً، وهذا من أبرز الأمور التي تغاضى عنها الداعمون للاتجاه الإسلامي في كتابة التاريخ العثماني، ومنهم المحامي والشنَّاوي، لذلك لا يمكن أن نجد في كتاباتهم ما يُشير لكثير من الجرائم التي اقترفوها في الحرمين، ابتداءً من تاريخهم المُبكر سنة 932هـ/1525م عندما استباحت جيوشهم الحرم المكي كما جاء في وصف ابن فهد المكي بقوله: "وقد عملوا بمكة أعمالًا شنيعة، من هجم بيوت الناس، وإخراجهم منها مع حريمهم، ووضع أيديهم على أمتعتهم وإتلافها، وسكنهم فيها عوضهم، فيستغيث الناس فلا يجدون من يغيثهم إلا الله تعالى، وكثر ضررهم بذلك، وصار يدعو عليهم كل قاطن وسالك، ثم إنهم تمادوا بالأذى، وتجاهروا بالفسق في النساء، وأخذ المأكولات من السوق بثمنٍ بخس، وبعضهم لا يعطي شيئًا". (جار الله بن فهد، نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة إتحاف الورى، تحقيق: محمد الهيلة، مكة المكرمة: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2000)، 1: 358-359). 

أما تاريخهم المُتأخِر في الحرمين فقد ختموه بقصف الكعبة المُشرَّفة سنة 1916 حينما أعلنت قوات الشريف ثورتها عليهم، إذ لم يراعوا حُرمة الحرم ولا الكعبة حين أطلقوا نيران مدافعهم من قلعة أجياد صوب البيت الحرام من فوق الحجر الأسود، وأشعلوا النار في ستار الكعبة، وأصابوا أروقة المسجد بقنابلهم. (عبد الله بن الحسين، مذكراتي، عمَّان: الدار الأهلية، 1989، 114-116). 

وفي المدينة المنورة يكفي فقط اسم فخري باشا، الذي لم يراعِ حرمة الحرم النبوي، بالتهجير القسري لسكان المدينة في حادثة "سفربرلك"، وفرض حالة المجاعة التي جعلت الناس تأكل القطط وتنبش قبور الموتى لأكل جثثهم، والمذابح التي قام بها ضد أهالي القرى والبساتين القريبة من المدينة المنورة، حين أشعل النار في البساتين وأطلق نيران المدافع صوب البيوت والأهالي، فقتل الشيوخ والنساء والأطفال، حتى أن النساء المُقعدات والكبيرات في السن متن في بيوتهن التي لم يستطعن مغادرتها جراء القصف، إضافةً إلى ما قام به من نشر المتفجرات في الحرم النبوي والحجرة النبوية والتهديد بتفجيرها، وسرقة المقتنيات النبوية والمكتبات. 

كل هذه التفاصيل لا يمكن أن يناقشها أي مؤرخ مؤدلج وموجه للدفاع باستثارة العاطفة الدينية تجاه العثمانيين، لذلك لا يمكن أن تكون تلك الكتابات التاريخية سوى جريمة في حق العرب والمسلمين في العالم العربي، لأنها هونت وقللت وتجاهلت الجرائم العثمانية التركية تجاه العرب. 


ولو أننا فقط أردنا أن نقوم بإحصائية مبدئية لعدد العرب الذين ارتكبت بحقهم المذابح العثمانية التركية، فإننا مبدئيًا سنصل إلى رقم يصل إلى أكثر من 600 ألف نفس بشرية تم إزهاقها على يد العثمانيين بمذابح مختلفة وفي فترات تاريخية منفصلة، هذا ناهيك عما يتم من قتل بناء على الفرمانات التي أعدم جماعات من العرب بناء عليها؛ ولو أننا قمنا بإحصائية من خلال المصادر والمراجع التاريخية للمذابح وحالات القتل التي مارسها العثمانيون، فإننا حتمًا سنتعدى أكثر من مليون عربي، وهذا مما يدعونا إلى أن نُطالب كعرب باعتراف تركي رسمي بتلك المذابح التي أقيمت ضد العرب في فترة الاحتلال العثماني. 


أخيرًا وبمقارنة الواقع الحالي في المشهد السياسي العربي والتركي مع الماضي العثماني في العالم العربي، فإن المُحاكاة باتت ماثلة وواضحة، وتكرار التجارب أصبحت ممجوجة، ولا خلاص إلا بالوعي العربي العام للفظ التاريخ العثماني المُركب افتراضيًا، ومعه مواجهة السياسة التركية الحالية، ورمي الاتجاه العربي المؤدلج، الذي يسعى لتحقيق مصالح خاصة لمليشيات وأحزاب وجماعات لم تورث سوى الدمار والخراب في بلدانها. 

ويبقى التاريخ ميدانًا مُليئًا بالتوجهات والحسابات التي تحتاج إلى تفكيك ودراية ووعي، لأنه لا يمكن أن يحنو على تاريخنا سوانا، ولا ينقيه إلانا، بكشف خباياه المغيَّبة والأكاذيب المفتعلَّة فيه بقصد التوجيه والتأثير سواءً لخدمة أهداف سياسية استعمارية كما المثال التركي، أو خدمة أطراف متطرفة إرهابية يستخدمها الأتراك كـــ "طروادة".