الثلاثاء 25 يونيو 2024

أحداث تاريخية.. خلال فترة حكم الدولة العثمانية

فن1-11-2020 | 20:31

إن المُتتبع لأحداث تاريخ الدولة العثمانية في ليبيا يجد أن عبدالجليل سيف النصر قد عايش السنوات الأخيرة من عهد القره مالليين، والسنوات الأولى من العهد العثماني الثاني، وأنه لاعلاقة له بالعهد العثماني الأول، كما أنه لا يوجد ما يُشير إلى أن أحداً من أهله له علاقة بالأحداث التي وقعت في العهد العثماني الأول،  وأن عبدالجليل لم يكن هو وحده الذي انتفض ضد الأتراك، وإنما كان هناك العديد من الليبيين ممن قاموا بالتمرد على الأتراك عبر العهود الثلاثة، سواء بمناطق طرابلس أو برقه أو فزان،  والذين لايتسع المقام لتعديدهم وذكر تفاصيل الأحداث التي قاموا بها في مواجهة الأتراك، باعتبار الموضوع مُقتصر على توضيح بعض الجوانب المتعلقة بواقعة انتفاضة عبدالجليل غيث سيف النصر، فعبدالجليل هذا  هو أحد أفراد عائلة سيف النصر المُنتمية لقبيلة أولاد سليمان، والتي كانت إبان فترة حكم  القره مالليين لطرابلس، تقطُن منطقة الوسط ببادية سرت وما حولها، كغيرها من القبائل البدوية التي تعيش حياة حرة خارجة عن قيود الحكومة، كما أنها -أي قبيلة أولاد سليمان والقبائل المُتحالفة معها- ظلت بزعامة آل سيف النصر مناوئة للحكومة، شاقة لعصا الطاعة، بما جعلها تتعرض للحملات التي تشنها الحكومة على قبائل البدو الخارجة عن الطاعة ، بغية فرض السيطرة على سكان البوادي ، وإخضاعهم لدفع الضرائب بالقوة الجبرية. 

بعد ذلك بفترة زمنية محدودة انضم عبدالجليل سيف النصر لسكان تلك المناطق المتمردة وأعلن التمرد على الوالي بمناطق الوسط والجنوب وتبوأ مكانة الزعامة فيها. وقد ظل عبدالجليل سيف النصر في العهد العثماني الثاني مُراوغاً ، يُظهر الولاء للولاة الأتراك ويُضمر لهم  العداوة دون حدوث نزاعات مسلحة بينهم طيلة فترات حكم هؤلاء الولاة وهم :

 "مصطفى باشا ، ومحمد باشا ، وطاهر باشا ، وحسن باشا" والتي تنحصر مدة حكمهم  ما بين عام 1835، وعام 1838 ، الذي حل فيه  علي عشقر باشا والياً على طرابلس بتاريخ 30 / 8 / 1838  ، والذي أظهر في بداية ولايته حُسن النوايا لمن كان مناوئاً للأتراك من الليبيين ، بل والاعتراف بالاستقلال الذاتي لبعضهم كعبدالجليل سيف النصر في منطقة الوسط والجنوب، وغومه المحمودي في منطقة الجبل الغربي ،


مقابل دفع الضرائب والإتوات للحكومة التركية ، وكان ذلك الاتفاق خلال الأشهر الأخيرة من عام 1839  .

إلا أن الوالي التركي رأى أنه لا يأمن جانب هؤلاء، ولا يطمئن للهدنة التي عقدها معهم، ولا يروق له أن يبقوا يتمتعون بسلطتهم الذاتية، التي لاخضوع لهم فيها لحكمه،  ولخشيته من تمردهم، قرر مقاتلتهم بأن أمر بتجهيز قوة عسكرية في أوائل شهر إبريل عام 1839، للتوجه إلى منطقة الجبل الغربي لإخضاع غومه المحمودي بالقوة،  والتي لقيت معه عدة معارك على مدى أكثر من أربعة أشهر دون تحقيق أهدافها. 

وخلال تلك الفترة اتضح لعبدالجليل سيف النصر أنه سيأتي الدور عليه، مما جعله يأخذ في الاستعدادات للمواجهة بأن تقدم نحو الشمال في امتداد المناطق التي يبسط نفوذه عليها، حتى وصل منطقة إمسلاته  كي لاتتم مهاجمته في عُقر داره .

  وما أن علم الوالي التركي "علي عشقر باشا" بتقدم عبدالجليل إلى منطقة امسلاته، حتى أمر بتجهيز قوة عسكرية لمهاجمته،  بغية القضاء على حركة تمرده ، وكان ذلك خلال شهر ديسمبر 1839  ،  وبإرسال تلك الحملة العسكرية عبر البحر عن طريق الخمس ، وبالبر وعند وصولها إلى منطقة امسلاته ، يوم 19 ديسمبر عام 1839  ،  التقت مع الجموع الذين يقودهم عبدالجليل سيف النصر في معركة طاحنة ، ولفارق العدد والعدة ، كانت الغلبة للأتراك، مما أجبر عبدالجليل ومن تبقى على قيد الحياة من أتباعه إلى الانسحاب من ساحة المعركة إلى الجنوب من امسلاته ، وبمحاولته في اليوم التالي بإعادة الكرة بالهجوم على الأتراك الذين لا يزالون يُعسكرون ببلدة امسلاته ، لقى معهم معركة أخرى ألحق فيها الأتراك الضرر البالغ بمن كان مع عبدالجليل ، مما اضطرهم للانسحاب الكامل من منطقة امسلاته وماحولها.

وظل عبدالجليل سيف النصر في حالة مناوأة للأتراك بمناطق الوسط ، ولشعوره بأنهم سوف لن يتركوه لحاله ، فقد طالب عن طريق المراسلة للوالي بإجراء مفاوضات لغرض التصالح ، وإعطاء الضمانات بعدم تكرار الاعتداءات ، وكان ذلك خلال عامي 1840 و 1841  ، الشهور الأولى من عام 1842  ، إلا أن الوالي لم يستجب لذلك ، ولم يرض بغير القضاء عليه . 

  وذلك بأن أمر الوالي بتجهيز قوة عسكرية برئاسة حسن بن عبدالله البلعزي ، للقضاء على عبدالجليل الذي كان يتواجد حينها بالمنطقة الواقعة ما بين سرت وأبونجيم ، وسار البلعزي خلال شهر مايو 1842  ، بالحملة العسكرية التي يقودها حتى وصل إلى تلك المنطقة التي شهد فيها مع من كان مع عبدالجليل عدة معارك ، تمكن من خلالها جيش الأتراك من تطويق المجموعة المقاتلة مع عبدالجليل بالمكان الذي اتخذه قاعدة للمواجهة ،  والذي هو عبارة عن مرتفع يُعرف "بالقارة" تقع ما بين وادي زمزم  وأبونجيم بالقرب من وادي بي،  وبذلك تم قطع الإمدادات عن عبدالجليل ومن معه ، سواء البشرية ، أو الحربية ، أو المعيشية ، بما فيها المياه ، التي تُعد عصب الحياة ، خاصة في فصل الصيف الذي هم فيه ، بما أدى إلى ضعف المقاومة وقتل العديد من المقاتلين مع عبدالجليل ، بما فيهم هو نفسه ، وأخوه سيف النصر ، اللذين قاتلا حتى قُتلا ، ونجى محمد سيف النصر بإعجوبة  ،  وهو الذي كتب فيما بعد مخطوطة بعنوان " كتاب ري الغليل في أخبار بني عبدالجليل "  الذي يذكر المؤرخون  أن أصل المخطوطة يوجد بالمكتبة الوطنية بباريس، وتم أسر من بقى على قيد الحياة من أنصار عبدالجليل ، وكان ذلك يوم  29 مايو 1842، وتم قطع رأس عبدالجليل وأخوه سيف النصر ، وأُرسلا إلى الوالي بطرابلس ، الذي قام بتعليقهما على جدار السرايا الحمراء ، كما هي عادة هؤلاء الولاة ، إظهاراً لقوتهم وتخويفاً للآخرين من بطشهم .

واقتيد الأسرى إلى منطقة مصراته ، بما فيهم الأطفال الذين كان أحدهم ابن عبدالجليل ، وثلاثة لأخيه سيف النصر تم إعدامهم بمصراته ،  وباقي الأسرى أُخذوا إلى طرابلس ، فمنهم من أُعدم ومنهم من تم إطلاق سراحه .

  وبهذه الواقعة تم للوالي التركي التخلص من ألذ خصومه الذي كان قد نغّص الحياة على الولاة القره مالليين والأتراك، وحال دون سيطرتهم على مناطق الوسط وإقليم فزان ، على مدى أكثر من عشر سنوات ، بدءاً من عام 1831  ، الذي لقي فيه عبدالجليل معارك مع القوة العسكرية التي سخرها له الوالي القره ماللي يوسف باشا ، ومُروراً بعام 1839  ، الذي شهد في آخره عبدالجليل معركتين بمنطقة امسلاته ، في مواجهة الحملة العسكرية التي سخرها له الوالي علي عشقر ، وإنتهاء بعام 1842  ، الذي لقي فيه عبدالجليل المعركة التي انتهت بقتله في مواجهة القوة العسكرية التي سخرها له ذات الوالي التركي علي عشقر باشا ، الذي كان قد زف خبر مقتل عبدالجليل إلى الباب العالي بتركيا ، طمعاً منه في التكريم والثناء عليه بإدامة ولايته على إيالة طرابلس ، في حين أنه فوجئ بتكريم غيره من قادة الحملة العسكرية التي تم فيها القضاء على عبدالجليل ، الذين يأتي في مقدمتهم حسن عبدالله البلعزي ، وعبدالرحمن أغا، وجوزي هو بالإقصاء عن منصبه كوالي لطرابلس ، وتعيين محمد أمين باشا خلفاً له، بما جعله أي علي عشقر ، تضيق نفسه كمداً من سوء ما بُشر به ، ورحل إلى تركيا بخيبة أمل غير مأسوف عليه ،  مُتلمضاً مُتحسراً عاضاً أصابعه ندماً على ما اقترفه من جرائم كان يأمل أن يُجازى عليها ، بالثناء والشكر ، ورفعة مكانته عند الباب العالي ،  وإذا به يُجازى بنقيض القصد،  وذلك بعزله،  مما جعله يغادر وهو كاظم  غيظه، ليس هو في المقام الذي يُقال له فيه "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" وإنما هو في المقام الذي يُقال له فيه  " قُل موتوا بغيظكم".   

  وهكذا كانت نهاية هذا السفاح الذي لم يرقب إلاً ولا ذمة في أبناء الشعب الليبي، كغيره من كثير من الولاة الأتراك الذين سبقوه في تولي منصب والي إيالة طرابلس، وغيرهم من الأتراك الذي تولوا مهام المسؤولية  في مختلف المناطق الليبية، والذين لم يعرف أبناء الشعب الليبي من غالبيتهم على مدى ما يزيد على ثلاثة  قرون ونصف، إلا الجور والعسف وسلب الحريات، وإهمال الشئون الحياتية في مختلف مجالاتها، التعليمية، والثقافية، والصحية، والاجتماعية، والاستيلاء على الأموال بفرض الإتوات والضرائب المُجحفة وترك الناس للفقر المُذقع الذي عانوا فيه من سوء التغذية وتفشي الأمراض والأوبئة التي أودت بحياة الكثيرين،  بما أحدث الغُبن وولّد الضغائن في نفوس عامة الناس تجاه الولاة ، والمسؤولين  الأتراك، 

وأثار حفيظة القوى الوطنية الحية بإعلان حركات التمرد وتحريض الناس على الانتفاضة ضد هؤلاء الولاة في أرجاء شتى من ربوع ليبيا، في برقه، والجبل الأخضر، وفي طرابلس، والجبل الغربي، وفي ترهونه وسهل الجفره، وفي فزان ومناطق الوسط، التي أعلن فيها عبدالجليل سيف النصر حركة تمرده ضد ولاة طرابلس في آخر عهد  القره مالليين، وأول العهد العثماني الثاني، أي في الفترة ما بين عام 1831، بداية إعلان الانتفاضة ، وعام 1842، الذي تم فيه القضاء على حركة تمرده بقتله ، "في آخر معاركه مع الأتراك  بتلك القارة  ، التي صارت فيما بعد تُعرف باسمه  " قارة عبدالجليل سيف النصر" .

ومن ذلك نخلص إلى أن أبناء الشعب الليبي على مدى فترات الحكم العثماني لليبيا لم يرضخوا للعبودية التي فرضها الولاة الأتراك، ولم يتحملوا صلفهم وجورهم، وجبروتهم، وإنما واجهوهم بالعديد من الانتفاضات وحركات التمرد،  رغم ما لقيه الكثير منهم من العقوبات الجائرة، من قتل ، ونفي ، وحبس ، وضرب بالسياط ، وبشتى الوسائل التي تُمتهن فيها  آدمية الإنسان ،  خلافاً للشرائع السماوية ، والقيم الإجتماعية ، والمُثل الإنسانية .